- زياد غصن
- السبت 19 حزيران 2021
على رغم الانحسار الكبير في العمليات العسكرية، وتحسّن الأوضاع الأمنية في المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة، لا يزال الموت في سوريا أقرب من أيّ وقت مضى، بحسب ما يعتقده الكثيرون في هذا البلد. ومع أن سنوات الحرب تسبّبت بالفعل بزيادة كبيرة في أعداد الوفيات، وأن أسباباً أخرى مرتبطة بالرعاية الصحية ولا سيما مع انتشار فيروس «كورونا» فعلت هي الأخرى فعلها في تصعيد العدّاد، إلا أن شيوع حالة من الإحباط أخيراً، معطوفة على «فورة» مواقع التواصل الاجتماعي، أدّيا إلى تسلّل الإدراك المزيّف للموت، إلى عقول السوريينكما هو حال جميع المؤشّرات التنموية في سوريا، فقد شهد معدّل الوفيات خلال السنوات العشر الأولى من عمر الحرب، انتكاسة كبرى، أضاعت كلّ الجهود التي بُذلت على مدار عدّة عقود وأثمرت انخفاضاً في هذا المعدّل إلى حوالى 4 بالألف في عام 2010، مع ارتفاع في متوسّط العمر عند الولادة وصل خلال الفترة نفسها إلى حوالى 72.1 سنة. ولم تكن الحرب بحاجة إلى كثير من الوقت لتنسف تلك المؤشرات، إذ كانت السنوات الأولى كافية لتجعل معدّل الوفيات يقفز إلى حوالى 10.9 بالألف بحسب النتائج التي خلص إليها مسح السكان الذي أجراه “المكتب المركزي للإحصاء” في عام 2014، بالتعاون مع بعض المنظّمات الدولية. لكن في السنوات التالية، الممتدّة من عام 2016 إلى عام 2019، سجّل “المركز السوري لبحوث السياسات” انخفاضاً في معدّل الوفيات وصل إلى 9.9 بالألف في عام 2017، وإلى حوالى 7 بالألف في عام 2019، وذلك نتيجة للانحسار التدريجي في المعارك. وأفاد المركز بأن عدد الوفيات المرتبطة بالحرب بشكل مباشر قُدّر بحوالى 570 ألف وفاة مع نهاية عام 2019، فيما الوفيات المرتبطة بالحرب بشكل غير مباشر قُدّرت بحوالى مئة وألفَي وفاة.
وبحسب ما يذكر الدكتور أكرم القش، مدير “الهيئة السورية لشؤون الأسرة والسكّان”، فإن “هناك أكثر من مؤشّر يدلّل على أن معدّل الوفيات حالياً أكبر من المعدّل الذي كان قائماً قبل الحرب، وهذا أمر منطقي”. ويستشهد، في حديثه إلى “الأخبار”، على ذلك بالقول إن “معدل وفيّات الأمّهات الحوامل مثلاً كان يبلغ قبل الحرب حوالى 54 وفاة لكلّ 100 ألف حالة ولادة، والمخطّط آنذاك العمل على تخفيض المعدّل ليصل إلى 35 حالة وفاة فقط، بينما خلال سنوات الحرب زاد الرقم ليصل إلى 65 وفاة، وهذا يعني أن الجهد المطلوب اليوم بات مضاعفاً لتخفيض معدّل الوفيات الحالي ليصل إلى مستواه المُسجَّل قبل الحرب من جهة، وللبدء بتحقيق ما كان مخطّطاً تنفيذه من جهة ثانية”.
ومع أن البيانات الرسمية المتعلّقة بأعداد الوفيات والمستخلصة من السجل المدني، تقتصر على تلك المسجّلة في المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة والسوريين الموجودين في الخارج الذين يختارون التبليغ، وتالياً فهي لا تشمل الوفيات الحاصلة في المناطق التي كانت أو لا تزال خارج السيطرة وكذلك وفيات اللاجئين في الخارج، إلا أن زيادة رقعة المناطق التي عادت تدريجياً إلى سيطرة الحكومة أظهرت بيانات عزّزت هي الأخرى فرضية الارتفاع في معدّل الوفيات، ولا سيما خلال الفترة الممتدّة من عام 2016 حتى نهاية عام 2018، ففي عام 2016 وصل عدد الوفيات الحديثة المسجّلة في عشر محافظات إلى حوالى 45.2 ألف وفاة، إلا أنها في عام 2018 سجّلت حوالى 56.6 ألف وفاة، أي بنسبة زيادة قدرها 25%، قبل أن تعاود الانخفاض في عام 2019 وتُسجّل50.7 ألف وفاة، متراجعةً حوالى10.3 %.
انتشار «كورونا» كان له أثره في ارتفاع أعداد الوفيات على رغم أن الجهات الحكومية لا تنشر بيانات تفصيلية
وهذا ينطبق أيضاً على الوفيات المكتومة (الوفيات التي حدثت في سنوات سابقة وسُجّلت لاحقاً)، والتي من الطبيعي أن تشهد زيادة ولا سيما في المحافظات التي كانت بعض مناطقها خارج سيطرة الحكومة، إذ بلغت في عشر محافظات حوالى 6787 وفاة في عام 2016، ومن ثمّ زاد العدد بنسبة كبيرة خلال السنوات التالية ليصل إلى أكثر من 19837 وفاة في عام 2019 أي بنسبة زيادة تتجاوز 192%. لكن تبقى ثمّة شكوك في البيانات الواردة في المجموعة الإحصائية للسنوات الأخيرة، إذ وفق بيانات “المكتب المركزي للإحصاء” بلغ عدد الوفيات المسجّلة في جميع المحافظات السورية خلال عام 2010 حوالى 78.4 ألف حالة، وتالياً فهو يكاد يكون قريباً جداً من عدد الوفيات المعلنة رسمياً خلال سنوات الحرب، وهذا يناقض ما تسبّبت به الحرب من فقدان الكثير من السوريين لأرواحهم.
زيادة عدد الوفيات انعكست، إلى جانب عوامل أخرى، على التقديرات المتعلّقة بمتوسّط العمر المتوقع عند الولادة للمواطن السوري. وبحسب تقديرات “اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لدول غربي آسيا” (الإسكوا)، فإن العمر المتوقّع عند الولادة انخفض من 72.1 سنة في عام 2010 إلى 69.9 سنة في عام 2015، ثمّ عاد للارتفاع من جديد مع تراجع حدّة المعارك ليصل في عام 2017 إلى حوالى 71 سنة، ثمّ إلى 71.8 سنة في عام 2018، بانخفاض قدره سنة واحدة عن المتوسّط العالمي. إلا أن “المركز السوري لبحوث السياسات”، وبناءً على تقديراته المتعلّقة بعدد الوفيات خلال سنوات الحرب والمشار إليها سابقاً، فإنه يقدّر العمر المتوقّع للحياة بحوالى 63 سنة في عام 2019.
«كورونا» وأسباب أخرى
إذا كانت التقديرات البحثية غير الرسمية تتحدّث عن تراجع في معدّل الوفيات بدءاً من عام 2016، وإذا كانت البيانات الرسمية المستخلصة من السجل المدني تشير إلى تراجع في معدّل الوفيات الحديثة خلال عام 2019 بنسبة 10.3%، فما الذي يجعل أعداد الوفيات بنظر السوريين في زيادة مطّردة خلال الأشهر القليلة الماضية؟ وما دور شبكات التواصل الاجتماعي في ذلك؟ لا تبدو الإجابة محسومة ما دام هناك غياب للبيانات التفصيلية، خاصة مع بدء انتشار فيروس “كوفيد – 19″، وتسبّبه بحدوث وفيات كثيرة، إلا أن الدكتور شفيق عربش، أستاذ الإحصاء في كلية الاقتصاد في جامعة دمشق، ينظر إلى القضية من منظورين: الأول أن هناك “ارتفاعاً في أعداد الوفيات لأسباب عديدة أبرزها وجود أشخاص أصيبوا سابقاً في المعارك وتدهورت حالتهم الصحية لاحقاً وصولاً إلى وفاة البعض منهم، وهؤلاء في النهاية يشكلون نسبة حتى لو كانت ضئيلة. كما أن انتشار فيروس كوفيد – 19 كان له أثره في ارتفاع أعداد الوفيات، وإن كانت الجهات الحكومية المعنيّة لا تنشر بيانات تفصيلية حول أعداد الإصابات بالفيروس والوفيات الناجمة عنه بشكل دقيق”.
ويضيف في حديثه إلى “الأخبار” حول المنظور الثاني أن “الأمر هنا يتعلّق بالوضع المعيشي، حيث تضطر كثير من الأسر إلى اتباع سياسة إسكات الجوع في ظلّ عدم قدرتها على توفير المواد الغذائية، وهذا من شأنه أن يؤثّر على صحة الأجسام وقدرتها على مقاومة الأمراض، إضافة إلى أن الرعاية الصحية ليست بالمستوى الذي كانت عليه سابقاً، فهناك معاناة من نقص في الكوادر الطبية الكفوءة والتجهيزات الطبية والقدرة على الوصول إلى المستشفيات والمراكز الصحية، ومن الطبيعي أن ينعكس كلّ ذلك على حياة الناس لجهة زيادة أعداد الوفيات، إنما في المقابل ليس بالحجم الذي تظهره شبكات التواصل الاجتماعي”. ولا تغيب كذلك تأثيرات التلوّث الذي لحق بالموارد البيئية، والتي تحمل المسؤولية الأولى عن الزيادة الملحوظة في أعداد المصابين بالسرطان والأوبئة الخطيرة.
كل هذا كان من الطبيعي أن يجد صداه على شبكات التواصل الاجتماعي التي باتت الوسيلة الأولى لحصول السوريين على معلوماتهم المتعلّقة بالشأن العام ونشر أخبارهم الخاصة. وفي أخبار الموت تحديداً، ثمّة رأيان حول دور تلك الشبكات، فالبعض يعتبرها من بين الأدلّة على زيادة عدد الوفيات، في حين يفضّل المتخصّصون بالسياسات السكانية الاحتكام إلى البيانات الإحصائية الرسمية الصادرة عن السجل المدني وسجلات وزارة الصحة وغيرها، وينظرون إلى خلفيات ما يُنشر على مواقع التواصل الاجتماعي من نافذة ما يسمّى بالإدراك المزيّف أو الخطأ الإدراكي للرقم الإحصائي.
“فمثلاً عندما يتم نشر “نعوة” لأحد الأشخاص من قِبَل عدّة صفحات على شبكات التواصل، تبدو من خلال الوهم الإدراكي للرقم كما لو أنها عدّة حالات”، يقول الدكتور القش، ويضيف: “وفي بيئة اجتماعية متلهّفة لسماع أخبار معينة باتجاه معيّن، تصبح مثل هذه الأخبار بمنزلة استشهادات للدلالة على صوابية آرائهم وقناعاتهم بأن الموت زاد أو أن جرائم القتل ارتفعت… إلخ”. ولا يختلف رأي الدكتور عربش عن ذلك، إذ إن “حالة الوفاة الواحدة يتمّ نشرها على شبكات التواصل الاجتماعي بأكثر من مصدر بحسب المكانة الاجتماعية للشخص المتوفَّى وعمله وعلاقاته، وتالياً تظهر الوفيات أكبر من حجمها الحقيقي، الذي هو من دون شكّ شهد زيادات كبيرة خلال سنوات الحرب مقارنة بما كان عليه قبل عام 2011”.
(سيرياهوم نيوز-الاخبار اللبنانية)