آخر الأخبار
الرئيسية » ثقافة وفن » علي كنعان: سعدي يوسف وأشجان جيل راحل

علي كنعان: سعدي يوسف وأشجان جيل راحل

علي كنعان

يوم زار دمشق لأول مرة قبل خمسين عاما أو نحو ذلك، بعد خروجه من سجن الرفاق الذين أتحفونا بهزيمة حزيران/ يونيو، وتابعوا أمجادهم حتى أفرخوا “داعش” بلا خجل، في ذلك اليوم البعيد كان يحمل معه قصيدة تشكل انعطافة فنية جمالية في شعره، عنوانها “البحث عن خان أيوب في الميدان بدمشق”. لقد تركت القصيدة تأثيرا إيجابيا في رؤانا الفكرية وذائقاتنا الفنية الجمالية، أن عنوان القصيدة شد انتباه (شلتنا) المصاحبة للشاعر علي الجندي، فأخذ كل واحد منا يتطلع في وجوه أصحابه: ممدوح عدوان يحدق في وجه علي الجندي، وكاتب هذه السطور يتصفح وجه الشاعر الرقيق فواز عيد، بينما راح فواز يتأمل بقايا سيجارته، وكأنه يتملى موقع حياة جيلنا بين الدخان والرماد.

والمثير في عنوان القصيدة أننا لا نعرف خانا بهذا الاسم في الميدان، وربما خطر لنا أن نلوم صديقنا الشاعر خليل الخوري لأنه من سكان الميدان ولم يذكر لنا، ولو عرضا، ذلك الخان… ولم يلبث العنوان أن ذاب في سحر القصيدة، ممتزجا بذلك الشجن الشفيف المبثوث في حناياها، والشاعر المرهف يطوف شوارع دمشق يسأل العابرين بلا جدوى: “تساءلت حين دخلت المدينة عن خان أيوب”، ملتمسا فيه مأوى ليرتاح من سفره ولو ليلة عابرة. كانت الخانات في الزمن القديم محطة القوافل ومبيت المسافرين من الأهالي والضيوف والغرباء، إلى جانب عربات الفلاحين القادمين إلى المدينة لبيع محاصيلهم. ولكن الشاعر الزائر لم يجد من يسعفه ويأخذ بيده، فيختم سؤاله المفعم بالأسى: “ما دلني أحد فالتففت ببعضي، ونمت/ كان وجه المدينة أزرق…” لكننا نرى أن الشاعر اهتدى إلى خان أيوب وسكن فيه، دون أن يدله أحد، وقد أعطى أكثر من إشارة تكشف للقارئ ما يريد، إذ يحدثنا عن “إخوته (…) يرسمون على النهر أعمدة الجامع الأموي جسورا، جسورا، جسورا/ وقد ينسفون الجسور إلى الناصرة.” الصورة واضحة جدا.

كانت دمشق في تلك الأيام ما تزال تعاني من هزيمة حزيران (يونيو) 1967، وما تزال مصابيحها القليلة مغلفة بالزرقة الواجفة تمويها، على أمل في إبعاد طيران العدو عنها، مع أن انطلاق العمل الفدائي كان الأمل الكبير…

لكن (شلتنا) الرومنسية كانت ما تزال مصعوقة من هول الهزيمة، ونحن حفنة ريفية حالمة من تلاميذ الرائد بدر شاكر السياب وتلاميذه الصغار، وكم طاب لنا أن نردد في سهراتنا بشارته الرائعة بالثورة: “مدينتنا تؤرّق ليلها نار بلا لهبِ/ تحم دروبها والدورُ/ ثم تزول جمّاها/ ويصبغها الغروب بكل ما حملته من سحبِ/ فتوشك أن تطبر شرارةٌ ويهب موتاها/ صحا من نومه الطينيّ تحت عرائش العنبِ/ صحا تموز، عاد لبابل الخضراء يرعاها…”

كان السياب مسكونا بالأساطير، وكنا مأخوذين بأن نسير على خطاه، وإن تباينت الرؤى والهواجس. لكن سعدي لفت انتباهنا في قصيدته إلى ينبوع آخر من الأساطير لا تحتفي به الكتب وروايات الأجداد، إنما يكفي أن تقرأ الواقع وتبحر عميقا في زواياه، لأن الواقع العربي حافل بألوان أدهى من أساطير التراث والحضارات الغاربة، وكل مدينة، وربما كل قرية أو حارة، مثقلة حتى حافة الاختناق بتلك الأساطير. وأعود إلى قصيدة سعدي: “كان بين العراق وبينيَ رملُ الجزيرةِ/ قلت انتهيت…/ ولكنني حين فتّحت عينيّ أبصرت عينيكِ../ إن السماء/ تظل – كعينيك – زرقاء…”، الزرقة هنا غير زرقة الخوف والتمويه، إنها زرقة المحبة والأمل في صفاء عيني الحبيبة، وهو يراها في الشجر… والسبيل الذي يوصله إلى سفح سنجار. لكن شريحة كالحة من أساطير الواقع وجوانبه القاتمة سرعان ما تعكر الصورة، حيث تختلط عصور الظلام والاستبداد، فيتساءل: “لماذا يراني جنود الخليفة شخصا غريبا؟/لأني تحدثت في السوق عما وراء النّهَر!”

إنه نهر الزمن، وهذا يعني أن الشاعر يتطلع إلى مراحل وعصور أخرى من التاريخ العربي، ومن هنا جاءت نظرة البوليس العدوانية إلى هذا الزائر المريب. وهنا يقسم الشاعر قميصه المتحدر من أيام مصرع الخليفة عثمان، مبينا أن هذا القميص “ورث الفتن الداخلية، والكتب المستباحة”! وفي هذه اللقطة اللماحة ما فيها من إشارات رمزية إلى أحوال الظلم والطغيان المتكررة عبر العصور، متمثلة (بالفتن ومصادرة الكتب!) ويفصل الشاعر بأن الانقسام تم إلى اثنتين: ما تتناوله الشفاه، وربما كانت شفاه الرواة المولعين بتقسيم الأمة، ويورد في الجانب المقابل ما يتناوله الجامع الأموي… وينهي هذا المقطع الرمزي العميق إلى حالة جاهلية منكرة بتقسيم الإله!

وإذا تأملنا بروية وعمق كارثة انقسام الأمة بين إسلامين سياسيين، وإديولوجيتين متناحرتين، تركيا من جهة وإيران من الجهة المعاكسة، لا نملك إلا الإعجاب والتقدير للشاعر الذي استشرف هذا الواقع ورآه قبل خمسين سنة! والقصيدة حافلة بالمفاتيح، ومنها نرى “الصحف المشتراة”، مقابل “الصحف المشتهاة”، وهناك المقهى الذي “كان يرتاده العدميون والهاربون ومن يصنعون القنابل سرية…

لن أطيل أكثر، لكني سأتوقف أمام هذين البيتين اللذين يختصران مراحل وعهودا شتى من التاريخ العربي، يقول الشاعر في قصيدته/ الرؤيا: “مضى زمن كانت المدن العربية فيه ثغورا/ لقد جاءنا زمن المدن المصرفية…” وهذه الصورة الشعرية وحدها جديرة بمقالة مستقلة.

لكل قارئ منا ذائقته ومزاجه، ويبدو لي أن أجمل أعماله الشعرية أبدعها في السبعينات من القرن الماضي، ومنها: الأخضر بن يوسف ومشاغله، نهايات الشمال الإفريقي، تحت جدارية فائق حسن والعديد من القصائد المتناثرة في المجموعات الأخرى. إن سعدي يوسف ما زال بيننا، وليس في مقدوره أن يغيب، رغم أوجاعه الجسدية والنفسية الفادحة… وأود التنويه أن ذلك اللقاء ترك أثره البالغ في نفوسنا وتوجهنا الشعري، ويكفي أن أشير إلى عناوين مجموعاتنا الشعرية الصادرة بعد ذلك اللقاء، وهي في المرحلة ذاتها من ثمار هزيمة حزيران التي ما زالت ندوبها عميقة في نفوس جيلنا الغارب: علي الجندي نشر (الحمّى الترابية)، ممدوح عدوان نشر (تلويحة الأيدي المتعبة)، فواز عيد نشر (في شمسي دوار)، وكاتب هذه السطور نشر (أنهار من زبد) لقد اكتشفنا أن ما كان يسمى في الإذاعات (ثورات عربية) لم يكن أكثر من انقلابات عسكرية روتينية.. زبد في زبد!

سيرياهوم نيوز 6 – رأي اليوم

x

‎قد يُعجبك أيضاً

المؤسسة العامة للسينما تعيد تأهيل صالات الكندي

تماشياً مع رغبة المؤسسة العامة للسينما في تقديم أفضل ما يمكن من أساليب العمل السينمائي، وتأكيداً لضرورة تأمين حالة عرض متقدمة ومتميزة لجمهورها، فإنها عملت ...