أصدرت دار البلد مختارات من شعر الدكتور ثائر زين الدين.. كتب مقدمة هذه المختارات الشاعر والناقد بيان الصفدي ومن مقدمته النقدية التي تشكل مفتاحاً مهماً لقراءة إبداع الشاعر زين الدين نقتطف التالي.. يقول الصفدي:
منذ مجموعته (ورد) الصادرة عام 1989 حتى الآن ظلت قصيدة الشاعر ثائر زين الدين تنمو وتتقدم، وليس قليلاً في الإبداع ألَّا تتوقَّف التجربة عن ذلك، وهو ما تعجز عنه تجارب أكثر الشعراء، وهذا لا يعكس الموهبةَ وحدها، بل المثابرة والثقافة وغنى التجربة الشخصية مع الحياة وتفاصيلها.
لكنَّ هذا النموَّ الفني كانت له ثوابته ومتغيِّراته، فمن ثوابته انحياز الشاعر لروح الموسيقا الشعرية العربية، فقد ظل يكتب قصيدة التفعيلة، ويبحث في شؤون الحب وشجونه، ويثير فيه الزمن موجات تتردَّد من الشجن، وكأن الحبَّ والموت محورا شعره، إلى الحد الذي نرى ما عداهما من هموم تبهت، وقد تبدو مُقْحَمة على هذه العوالم.
لا شكَّ في أن الحب والموت قُطبا رحى الفن عبر التاريخ، فهما اللذان يَضَعان واحدَنا أمام حقيقته الأبدية: القبض على الحب حتى نحيا، بقلوبنا وحتى بمخالبنا، والرَّهبة أمام قبضة الزمن التي تجذبنا مكرَهين كي نفكَّ قبضتَنا عن الدنيا، لنعود تراباً كما هي الحقيقة الأبدية.
وإذا كان الحب عند ثائر ولهاً وتراتيل وصلوات للمرأة حدَّ الألوهة، فهو لا يفصل بين المرأة الحبيبة والمرأة الينبوع، ينبوع اللذة والسحر والولادة، فلا تجد المرأة لديه إلَّا في صورة القدِّيسة في كل حالاتها.
وأمَّا الموت فلا يبدو رهبةً معهودة أمامه، ولا رثاء شخصياً، بل هو الوجه الآخر للحياة، فيمنحها تأمُّلاً أكثر، وتشبثاً أقوى، وحزناً شفيفاً لأن ثمة ما يرحل منا وفينا، ويسحبنا من فورة الحب والجمال نحو تبعثر الجمال والشباب وتلاشيهما إلى سكينة الجسد الذي مال إلى الانكسار والرحيل، فالعمر والفقد وغياب الحب هي الموت مجسَّداً، وهي طلائع الموت الحقيقي، وهذا ما يجعل الشاعر يخاطب المرأة طالباً منها أن تتمسك بالقشة الأخيرة من البهجة والحياة في قصيدة (بعد غد):
انشري الآن ملء الفضاءِ
جناحيكِ
فالعمرُ ضوءٌ شحيحٌ…
سيخبو غداً!
فإذا كنتِ محظوظةً
بعدَ غدْ.
الحب إعلاء لشهوة الحياة حدَّ القداسة، إنه قدر إذا فقدناه لن نكون سوى أشباح موتى، فنقرأ في قصيدة (ضوء مالح):
سأصيحُ نشوى:
أنتَ ربّي!
أنت من أطلقتَ في قلبي
خِرافَ الحبِّ تقضم عشبَهُ المتروك
ويمكنني القول إن الحب على ضرورته كدنا نفتقد نبضَه الحيَّ في شعرنا، وصارت دروب الشعر وعرة على القارىء، فقد أغرق كثيرون من الشعراء في تعاليهم وألعابهم في الشكلية المغلقة، حتى بلغ الوهمُ في أن الشعر قد يكون المبهَم المعمَّى، وهنا سنرى لدى الشاعر ثائر زين الدين قصيدة تنتمي إلى فنها وقارئها معاً، فهو بلا شك مهتم بوصول قصيدته، فتراه يتعب في تشذيبها، وتركيز عينيه وقلبه على المَشاهد التي يرصدها، والعواطف التي يبثُّها، فتبدو قصائده في أحيان كثيرة كنسمات عذبة حتى لو حملت معاً “حزناً جميلاً” ليس أكثر من دفء إضافي فيها، وهو ما تمثله بقوة قصيدة (قطار) وهي من أجمل ما كتب الشاعر، لأنها تكثِّف المهارات والنجاحات في شعره:
ثوانٍ إذاً ويجئ القطارُ
يلمُّ كزوبعةٍ
كلَّ مَن يترقَّبُ فوق الرصيفْ.
ثوانٍ إذاً…
هي كلُّ الذي بقيَ الآن ممَّا ادَّخرتُ
وممَّا زَمَمْتُ عليهِ الأصابعَ
كم كنتُ أخدعُ نفسيَ
كم أجَّلَ القلبُ هذا النزيفْ.
ثوانٍ إذاً!
أتلفّتُ مرتاعةً: أنتَ قربيَ…
لكنكَ الآنَ لستَ معي.
لن نعودَ سوياً إلى البيتِ
لن أقفل البابَ مسرورةً
لن أنامَ تحيطُ ذراعاكَ بي
هي بضعُ ثوانٍ إذاً؟
لكأنَّ السعادة كانت -على العمر- بين يدينا
لنرميها- دونما أسفٍ- مثل ثوبٍ عتيقٍ.
إلى أين تذهبُ؟
كيفَ سأُنفقُ دونكَ هذا الفؤادَ!
وكيفَ أواجهُ عزلاءَ
ريحَ الخريفْ؟!
تحدِّق في أفُقٍ لا أراهُ
تدخّنُ…
يعلو دخانُ السنين الجميلةِ ما بيننا
ثمَّ يعلو صفيرُ القطارِ
فأُبصرُ أجنحةً كنتَ خبأتها
تبزغُ الآن من كتفيكَ –على خجلٍ-
فإذا انبسطتْ
ملأتْ أذُنَ الكونِ
رفرفةً
وحفيفْ.
وليس صعباً أن نلاحظ أن قصائد الشاعر غارقة في رومانسية ناضجة عذبة، مليئة بصور الطبيعة واللهفة والشهوة معاً، قصائد تنبع من القلب، تغمرها عاطفة لا تبعدها الصياغة عن الوصول، بل غالباً ما تجهد كي تساعد على ذلك، كما في قصيدة (أمنية):
آه لو أنّيَ دوريٌ صغيرْ
كنتُ رفرفتُ على شبّاكهِا في الصُبحِ،
زقزقتُ لها؛
كي تسمَعَ الغابةَ في غرفتها:
ترجيعَ أطيارٍ
حفيفاً
وهسيساً…
وخريرْ.
كنتُ زقزقتُ
ففاحَ السوسنُ البريُّ،
والليمونُ
وانسابَ من الدرفةِ
خيطٌ غامضٌ من عبقِ الغابةِ
غطَّاها بغيمٍ من عبيرْ.
عندها ترفع أهداباً من الليلِ
عن البحرِ
تراني
تفتَحُ الشباكَ كسلى
أرتمي فوقَ بياضِ الصدرِ
مبهوراً،
أخبّي بينَ نهديها جناحينِ كليلينِ
وأغفو فوقَ زَغْبٍ
لم يزلْ ينضَحُ بالنومِ
شهيٍ
ووثيرْ!
سيرياهوم نيوز 6 – الثورة