لا تحفل حياة مبدع سوري بهذا الكم من الإنجازات كالتي نجدها عند الموسيقار فريد الأطرش والذي شكل عبر القرن العشرين علامة فارقة في تاريخ وتطور الموسيقا العربية برمتها ذلك أن عبقرية فريد الفنية تفتقت عن ابتكارات غير مسبوقة زاوجت بين الانفتاح على تجارب العالم والتمسك بالتراث وخلق حالات غير مسبوقة سواء في التأليف الآلي أو التلحين أو السينما أو الأوبريتات أو القصائد الغنائية أو العزف على العود.
في بلدة القريا بجنوب السويداء ولد الموسيقار فريد في الـ 21 من نيسان من سنة 1915 وكان رابع أبناء فهد فرحان الأطرش وزوجته علياء المنذر وكانا من عشاق الموسيقا وأصحاب الأصوات الجميلة لكنه عانى في طفولته جراء ملاحقة الاحتلال الفرنسي لأسرته بسبب نضال والده ضده فتنقل معها للعيش بين سورية ولبنان لكنه ظل دائما يظهر ميله للفن كما يذكر أخوه غير الشقيق طلال الأطرش عندما كان يجمع الأطفال ليصنع اسكتشات من تأليفه وتلحينه ذات طابع وطني.
وتجنبا لانتقام الاحتلال الفرنسي من أفراد الأسرة غادرت علياء مع أطفالها الخمسة إلى مصر في سنة 1925 ودون أي أوراق رسمية حيث يذكر هنا الدكتور الناقد المصري زين نصار أن الزعيم سعد زغلول تدخل شخصيا للسماح لهم بالدخول بصفة أنهم لاجئون سياسيون.
وعاشت الأم وأطفالها ظروفا صعبة بعد أن أنفقت ما لديها من أموال وباعت ما بحوزتها من مصاغ ذهبي أخذت كما يشير الصحفي عادل سعد مدير مركز التراث بمؤسسة دار الهلال تغزل بيدها غطاءات للرأس وتبيعها لتتجه لاحقا إلى احتراف الغناء والعزف على العود في مسارح روض الفرج بالقاهرة وكان يصحبها فريد الطفل.
وانتسب فريد وأخوته إلى مدرسة الفرير الفرنسية بالقاهرة ولكن والدتهم استخدمت لهم كنية كوسا بدلا من الأطرش حتى لا يتم فصلهم من المدرسة لمواقف الأسرة المقاومة للاحتلال وكان لافتا أن فريد الطفل حينما سأله مدير المدرسة عن كنيته الحقيقية كشف عنها بكل وضوح ودون خوف.
وانتسب لاحقا فريد مع شقيقه إلى مدرسة الآروام وهنالك ظهرت موهبته الموسيقية وأخذ يشارك في غناء الترانيم الكنسية ليتعرف لاحقا في مقهى على مغن شعبي اسمه محمد العربي تلقى منه حب الموال وساعد الحظ أيضا موسيقارنا عندما زار منزل الأسرة الموسيقي المصري داود حسني حيث أعجب بموهبة فريد وطلب من أمه إلحاقه بمعهد فؤاد الأول للموسيقا العربية.
وانضوى فريد خلال دراسته كعازف عود في فرقة بديعة مصابني التي خرجت العديد من نجوم الفن ثم أخذ يشارك بالتلحين والتمثيل وذاع صيته كعازف بارع بعد أن استمع له مدحت عاصم المدير الموسيقي في الإذاعة المصرية فدعاه لأن يقدم عزفه وألحانه وغناءه في الإذاعة ولكن العمل الذي كتب ميلاد فريد الفني كان أغنية “يا ريتني طير” كلمات وألحان يحيى اللبابيدي سنة 1936.
وفاجأ فريد الوسط الفني المصري عندما أصر على أن تكون أغاني فيلم انتصار الشباب عمله الأول مع شقيقته أسمهان كلها من ألحانه فقدم 11 أغنية من القصيدة والموال والأغنية الحوارية مثبتا علو كعبه وقدراته العالية وعمره لم يتجاوز الرابعة والعشرين.
وبعد ذلك تتالت سبحة أفلام فريد حيث أسس شركة إنتاج باسمه وأطلق عبرها أسماء انطلقت في عالم النجومية بلغت 31 فيلما اعتبرت أيقونة في عالم الفن السابع بمصر دمجت الكوميديا مع حكايات الحب وثبتت مكانته كملك للأغنية السينمائية وكان آخر أعماله فيلم نغم حياتي الذي أنجزه قبل وفاته بشهرين.
أما على صعيد الموسيقا فيمكن وصف فريد بالموسيقار الشرقي الصميمي وبالمنفتح على كل موسيقا الأرض فاستطاع أن يهضمها ويقدمها بشكل جديد مثل أغنيته “يا زهرة في خيالي” والتي اعتبرت مثالا ناصعا على موسيقا التانغو عالميا.
وفي الصعيد الرقمي يوجد لفريد أكثر من 500 لحن وأغنية في الموسيقا العربية كما يؤكد الباحث الدكتور علي القيم واصفا إياه بالموسيقار المتجدد والواعي لرسالة الفنان عبر أعمال تمتاز بالتنوع والشمولية الفنية ما يفسر برأيه خلود أغانيه وألحانه.
ويصف موسيقارنا الناقد الفني أديب مخزوم بقيثارة السماء الذي بلغ اللحن العربي على يده منتهى تطوره وقدم أعمالا ترقى لأن تكون سيمفونيات خالدة فكان العربي الوحيد في الموسوعة الفرنسية للفنانين الخالدين جانب موسيقيين عالميين.
ولكن ما أثر بالفعل على حجم إبداع فريد وفاة اسمهان إثر حادث غامض عام 1944 والذي ترك داخله حسره لنهاية حياته لا لأنها شقيقته فحسب بل لأنه حرم من بعدها من تقديم إبداعاته عبر صوت عملاق ولكن تظل أغنياته لها أمثال قمم موسيقية لم يطالها ملحن من يا بدع الورد وليالي الأنس و”ياللي هواك”.
وأثر على فريد أيضا امتناع كثير من نجوم الغناء في مصر عن تقديم أعمال من ألحانه كما يؤكد نقاد مصريون من أم كلثوم وعبد الحليم حافظ ومحمد رشدي وحتى السورية فايزة أحمد ونستثني منهم محرم فؤاد ووردة الجزائرية التي غنت آخر أعماله كلمة عتاب.
ومن أنواع الظلم التي لحقت بفريد تجني زملاؤه الملحنون في معرض حديثهم عنه حيث يورد في هذا الصدد الباحث الدكتور سعد الله آغا القلعة بعضا منها فالموسيقار رياض السنباطي وصفه بسيد الملحنين من الطبقة الثانية بينما اكتفى الموسيقار محمد عبد الوهاب بوصفه بعازف عود ممتاز.
وبعد معاناة متكررة من مرض القلب غدا فريد يعمل بربع قلب كما ذكرت الصحافة وقتها ليتوقف نهائيا عن النبض نهار الخميس في الـ 26 من كانون الأول عام 1974 مخلفا مسيرة أقل ما يمكن وصفها بغير المسبوقة من نيله لجائزة أعظم عازف على العود في الوطن العربي وتركيا و15 وساما من دول عربية وأجنبية ومنحه جنسية أربع دول عربية لكنه ظل دائما يبحث عن الحب لأنه في نظره هو السلك الذي يضيء الحياة ويجدد النفس ويبسط الأمل جنات.
سيرياهوم نيوز 6 – سانا