| إسماعيل مروة
الأربعاء, 30-06-2021
«من المفارقات التي تلفت الانتباه أن عصبة الأمم كانت ثمرة الحرب العالمية الأولى وأن منظمة الأمم المتحدة كانت ثمرة الحرب العالمية الثانية وكأن القدر أراد أن يقول كلمته الفصل في معرض الصراع بين الحرب والسلام من حيث تغليب سلطة قوة القانون ولو بشكل نسبي أو استنسابي في أغلب الأحيان على سلطة القوة، ومع ذلك فإن التطبيق العملي لسلطة قوة القانون لم يكن ناجحاً في معالجة قضايا الإنسانية، ليس فقط في المسائل السياسية بل في القضايا الأخرى الهامة».
سورية كانت ضحية الجشع الأوروبي والمؤامرات عشية الحرب العالمية الأولى
هذا جزء من مقدمة الدكتور بشار الجعفري لكتابه الجديد الصادر في دمشق عن دار بستان هشام، وهو الإصدار الأول للدار التي وضعت على عاتقها الاهتمام بالدراسات الجادة التي تهتم بسورية وتاريخها ووثائقها.
الأهمية والضرورة
لا يحتاج مؤلف الكتاب الدكتور الجعفري لأي تعريف عن مكانته وعلمه، فهو صاحب المواقف الوطنية والقومية الهادئة والمتزنة التي دافعت عن سورية بلسان سوري عربي مبين، واستطاع أن يقوم بدوره الوطني والقومي في أحلك الظروف السياسية والعسكرية في مجلس الأمن عندما كان يعقد الجلسات الواحدة تلو الأخرى من أجل سورية وبانحياز مطلق، فكان الدكتور الجعفري لسان سورية، وشخصها القوي الهادئ الذي يعبر عن رأي القيادة السورية بأمانة مطلقة يشهد له بها الجميع.. وهو إلى ذلك الباحث الحقيقي والجدير الذي حيثما حلّ يقصد العلم إضافة إلى عمله، فأصدر كتباً مهمة لعلّ أكثرها شهرة «سياسة التحالفات السورية» و«أمراء الشرق البعيد» وتأتي الأهمية لهذا الكتاب من جوانب عدة:
1- من مؤلفه الذي عانى العمل الدبلوماسي في عواصم عديدة آخرها في الأمم المتحدة ومجلس الأمن، فهو الرجل الخبير العارف الذي عاش في الميدان، فلم يكن كتابه وصفياً أو إنشائياً، بل كان تشريحياً توثيقياً، وهو القابض على هذه الوثائق، العارف قيمتها وأهميتها.
2- موضوع الكتاب، فموضوعه عصبة الأمم، وهناك كثيرون، وبعضهم من الباحثين لا يفرقون بين عصبة الأمم والأمم المتحدة، وهذا الموضوع يأتي الكتاب لكشفه وبيانه قبل أن تطويه صفحات النسيان كما يشير المؤلف في مقدمته، وعصبة الأمم قامت بأدوار كثيرة، كان من المفترض ألا تقوم ببعضها كما أشار المؤلف إلى أن هذه العصبة هي التي شرعنت الانتداب الفرنسي على سورية، ولبنان، والاحتلال الإنكليزي على العراق.
3- التوثيق الدقيق أخضع الدكتور الجعفري كتابه للتوثيق الدقيق الذي ساعده عليه إلمامه باللغات، إضافة إلى تخصصه الأكاديمي الذي ألزم به نفسه، فلم تصدر أبحاثه عن عاطفة إنشائية، وإن كان حبه لوطنه الدافع وراء الأبحاث، وكذلك توافر هذه الوثائق وقدرته في البحث عنها وتوثيقها.
4- من الباعث لهذا البحث، إذ يتحدث الكثيرون اليوم عن نظام عالمي جديد يتم العمل له، وذلك أن بعد الحرب الباردة تغير شكل الصراع، واليوم يتم تغير شكل الصراع والعالم، وكانت الخطوة العلمية المتقدمة للدكتور الجعفري بالعودة إلى المراحل التي تم تشكل النظام العالمي في عدة أوقات، منذ انتهاء الحرب الدينية الطاحنة في أوروبا إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى بسنوات طويلة، ومن ثم إلى الحرب العالمية الأولى وقيام عصبة الأمم.. وفي كل مرحلة من المراحل هناك نظريات ومشرعون ودول تجتمع لتشرعن ما تراه مناسباً للنظام العالمي الجديد، أي ما يناسب القوى الفاعلة.
5- الرؤية الشمولية عند المؤلف، فهو من واقع خبرته ودراسته وعمله الدبلوماسي، ورؤيته الواسعة كانت قراءته تحليلية استنتاجية، فهي ليست قائمة على جمع الوثائق وتقديمها، فكل باحث يمكن أن يقوم بهذا الفعل، لكنه حلل هذه الوثائق ليظهر النظريات التي تستند إليها، فكما تقوم اليوم حروب اعتماداً على صراع الحضارات ونهاية التاريخ، كذلك في كل مفصل تاريخي هناك نظريات قائمة على العنف وسنّ الحروب حيناً، وعلى الجنوح إلى الحلول السلمية في أحايين كثيرة، ولهذه النظريات آباء روحيون ومشرعون يعملون على وضع الأسس، والدول الفاعلة والقادرة تعمل على تبني هذه النظريات وبلورتها في نظام تراه مناسباً، وهو بطبيعة الحال سيكون مؤقتاً!
العلاقات الدولية وعصبة الأمم
تنتمي منظمة عصبة الأمم إلى فكرة العلاقات الدولية متعددة الأطراف، فهي تقوم على اجتماع دول فاعلة ومنتصرة لوضع أسس جديدة بما يناسب الأطراف حسب حجمها وتأثيرها، والمؤلف هنا في هذا البحث غير القابل للاختصار والاجتزاء يعود إلى قرون أسبق من عصبة الأمم ليبين النشوء الأول لمتعددة الأطراف، ويقدم نماذج كانت في التاريخ القريب والبعيد، وهذه النظريات هي احتمالات رآها مؤرخون وأسسوا لها، وهي ضرورة للقارئ العربي، وللسياسي العربي الذي غالباً ما ينظر إلى الراهن، ولا يعود إلى الجذور والنظريات والاحتمالات، بل إن عدداً من الباحثين العرب لا يميزون بين عصبة الأمم والأمم المتحدة، وعدد يفهم العصبة من العصابة وينتهي الأمر هنا بالرفض وعدم العودة إلى التأليف والتحليل لدراسة جوهر القضية، وفي هذا البحث المعمق يعود المؤلف إلى المحاولات السابقة لمتعددة الأطراف في العلاقات الدولية بشكل موثق، ليحدد كل مرحلة ويحدد مواصفاتها عن وثائقها، وليس من حكمه هو أو عاطفته، ولننظر في هذا المقطع المأخوذ بتصرف من الكتاب في أحد فصوله لندرك عمق القضية، ومقدار ما ينقصنا من معارف «يميل معظم الباحثين إلى أن مصطلح العلاقات الدولية متعددة الأطراف ظهر في نهاية الحرب النابليونية باجتماع فرنسا وروسيا والمملكة المتحدة وإمبراطورية النمسا- المجر في فيينا عام 1814 لحل الخلافات الناشبة بينها بشكل سلمي.. غير أن مجموعة أخرى من الباحثين أعادوا الحديث إلى مرحلة أكثر قدماً وهي معاهدة وستفاليا عام 1648، وهي التي وضعت حداً للحرب التي سميت حرب الثلاثين عاماً بين 1618- 1648، والتي أنهت الحرب الأكثر دموية في التاريخ الأوروبي، وهي حرب دينية.. ومن المفيد ذكره، في هذا السياق أن معاهدة وستفاليا لم يكن لها، فعلياً، أي تأثير عميق في منظومة العلاقات الدولية، لأن هدفها لم يكن فرض مبدأ سيادة الدول في أوروبا، بل كان هدفها هو إعادة تنظيم البناء الدولي للإمبراطورية الرومانية المقدسة».
ونظراً لأهمية هذا التحليل، وعمق رؤية المؤلف في القراءة، وتحليله للنظم الدولية في العلاقات الدولية والأسس التي قامت عليها، أقتبس هذا المقطع المهم الذي يشبه اليوم بالغد، فالعلاقات والمباحثات تتفق مع الأسس النظرية التي قامت عليها، فكما اليوم تقوم الأفكار على الصدام ونهاية التاريخ، كذلك فإن العلاقات الدولية استندت إلى أسس نظرية وقامت بتطويبها «يعتبر الباحثون الأوروبيون المحامي والفيلسوف الهولندي هوغو غروشيوس بمنزلة الأب الروحي للقانون الدولي، لأنه كان أول من اعتبر أن الدول يحق لها شن الحرب ضد بعضها بعضاً لفرض حقوقها المشروعة، أي إن غروشيوس هذا كان، بشكل من الأشكال منظراً للنظام الدولي القديم الذي ولدت من رحمه فيما بعد عصبة الأمم التي شرعنت الحرب من ضمن المفاهيم الخطيرة الأخرى التي شرعنتها أيضاً كالانتداب وغيره».
هذا التحليل على سلاسته يقدم مفهوماً مهماً للعلاقات الدولية، ولمن يعوّل عليها، فهي تقوم على أسس نظرية يضعها الأقوياء والمنتصرون، وسبق أن أشرت إلى قول المؤلف الذي يدين عصبة الأمم موقفها من سورية وشرعنة الانتداب الفرنسي عليها، وفي هذا المقطع السابق الذي يبحث في التاريخ، وعمق النظرية ندرك الأسباب التي دفعت عصبة الأمم إلى شرعنة الاحتلال، وهي تراه حقاً وليس كما نراه نحن!!
سورية وعصبة الأمم
يحمل الكتاب هذا الاسم فهو الغاية والأساس، وإن كان الباحث بدقته ورؤيته الشمولية يعود حيناً إلى الماضي البعيد، ويعود حيناً إلى تجربة الأمم المتحدة التي عايشها بنفسه مدة طويلة من الزمن، ورأى من الداخل حقيقة ما يجري في مطابخ الأمم المتحدة التي ينظر إليها الكثيرون على أنها ضامن للأمن والسلم العالميين، وهي في جوهرها، وليس في البنية الظاهرة لا تختلف كثيراً عن عصبة الأمم، فالقارئ الحصيف يربط بأن ما كان وليد الحرب العالمية الأولى من أجل علاقات دولية متعددة الأطراف، للأطراف الفاعلة، هو نفسه ما كان بثوب آخر واسم جديد بعد الحرب العالمية الثانية، وما كان لمصلحة الدول الفاعلة والمنتصرة والقوية في عصبة الأمم بقي كذلك في منظمة الأمم المتحدة، وإن أخذت التشاركية الاسمية ميداناً جديداً في المنظمة التي تدافع عن كينونتها، وربما أرى أن هذا الدفاع سعياً للبقاء في ظل البحث عن منظومة جديدة للعلاقات الدولية، ربما..!
يقدم الدكتور الجعفري عن سورية وعصبة الأمم دراسة وافية، فسورية لم تكن عضواً مشاركاً على عكس الأمم المتحدة، لكن وفدها ذهب للمشاركة ولم يتم استقباله، وعصبة الأمم المتحدة التي تبنت رأي المحامي الهولندي في النظام الدولي القديم لم تجد ضيراً في الحرب والعدوان والاحتلال وهذا ما كان من شأنها مع سورية، والمؤلف يثبت على غلاف الكتاب صورة نادرة للتاريخ يظهر فيها الوفد السوري برئاسة الأمير فيصل الذي ذهب للتباحث مع المنتصرين، لكنه لم يتم استقباله كما يجب، ولم يستمع لرأيه، وكانت عصبة الأمم هي الوسيلة الجديدة لتكريس الاحتلال والانتداب على سورية، يذكر المؤلف ذلك، ويستشهد بكلمة لرئيس الجمهورية آنذاك شكري القوتلي ما يعزز دور عصبة الأمم في الاعتداء على حريات الشعوب، وسلبها قدرتها وحريتها من أجل بناء منظومة جديدة للعلاقات الدولية متعددة الأطراف، كانت يومها (عصبة الأمم) «لقد كتب الكثير عن تاريخ سورية السياسي والدبلوماسي منذ انهيار الدولة العثمانية وحتى يومنا هذا، وكان جلّ ما كتب ونشر ينطق بلسان حال العموميات ذات الصلة بهذا التاريخ.. ففي عصبة الأمم كانت سورية مسلوبة الإرادة والسيادة والاستقلال على الرغم من حضورها مؤتمر فرساي بشخص الأمير فيصل والوفد المرافق له، وفي عداد المهزومين في الحرب العالمية الأولى باعتبار أنها كانت جزءاً من الدولة العثمانية، وبعد ذلك جرى تقاسم أراضيها، وهي تحت الاحتلال العسكري الفرنسي مع تركيا بموجب اتفاقية سيفر 1920، ثم وفقاً لاتفاقية فرانكلين- بويلون المعروفة باسم معاهدة أنقرة الأولى، ونستذكر ما قاله رئيس الجمهورية السوري الأول شكري القوتلي في خطاب عام 1946: لقد كنا أيام الانتداب البغيض نرسل الصيحات تلو الصيحات، ونجأر بالشكاوى الصارخات، ونبرق بعديد من البرقيات إلى مجلس عصبة الأمم في جنيف، فلا نجد ثم سميعاً، ولا نجد ثمّ مجيباً.
ولكن ثمّ مستعمر يتكلم باسمنا، ويفتري علينا، ويعمل جاهداً لتأييد انتدابه وتخليد استعباده، فغدونا اليوم والحمد لله حكماً بين الأمم، وقضاة في محكمة الدول..».
في هذا الجزء المقبوس من الكتاب لكلام د. الجعفري المتضمن خطاب الرئيس شكري القوتلي ندرك عمق البنية التي أسست عليها عصبة الأمم، والتي كانت تعتمد القوة والدفاع عن الحرب والاحتلال: ولا تفوتني الإشادة بتواضع المؤلف حين لم ينل من الدراسات السابقة واكتفى بوصفها بالعمومية.
أخيراً
الكتاب يغصّ بالحقائق والوثائق، والحواشي والإحالات فيه تعادل متن الكتاب، وذلك ليس إرهاقاً له وللقارئ، ولكن ليكون كتاباً متخصصاً بعيداً عن العمومية والإنشاء، وهو كتاب لازم ولصيق بكل باحث جاد في تاريخ سورية والسياسة والدبلوماسية، ولا غنى عنه، وأزعم أنه الأول في بابه بهذه العلمية والموسوعية والوثوقية والتوثيق، وبانتظار كتب أخرى تتناول سيرة سورية الأممية في منظمة الأمم المتحدة التي كانت نظاماً دولياً جديداً لمرحلة تالية، وبانتظار الجديد وما ستتمخض عنه الأيام.
(سيرياهوم نيوز-الوطن)