| عبد المنعم علي عيسى
الإثنين, 12-07-2021
من الثابت أن الجولات الست الأخيرة، أي من الجولة العاشرة التي انعقدت شهر تموز 2018 حتى الجولة الخامسة عشرة التي انعقدت شهر شباط من العام الماضي، من مسار أستانا كانت أشبه بممارسة فعل المراوحة في المكان، الأمر الذي كانت تفرضه معطيات عدة مثل سخونة الميدان، وكذا انزياحات المواقف الإقليمية والدولية التي كانت تتلون تبعاً لتغير المصالح ومعها تغير الأهداف، فالفترة الواقعة بين هذين التاريخين الأخيرين كانت قد شهدت عودة الجنوب السوري، في معظمه، ومعه غوطة دمشق إلى السيادة السورية، ناهيك عن حالة تحفز سوري تكررت لثلاث مرات، وهي كانت ترمي إلى تكرار الفعل السابق في إدلب، ثم ناهيك عن التوتر الحاصل في مناطق شرق الفرات الذي شهد في غضون المرحلة سابقة الذكر توسعة تركية عبر عملية «نبع السلام» التي أوقعت المناطق الممتدة ما بين تل أبيض بريف الرقة وبين رأس العين بريف الحسكة تحت سيطرة الفصائل الموالية لأنقرة جنباً إلى جنب على مناطق «درع الفرات» و«غصن الزيتون»، ثم جاءت أيضاً حادثة الإعلان عن «الانتصار» النهائي على «تنظيم الدولة الإسلامية» في الباغوز بريف دير الزور شهر آذار من عام 2019.
هذه السخونة، التي تزامنت مع تضارب كبير في الرؤى والمصالح، كانت قد فرضت نوعا من المراوحة يهدف إلى تثبيت العمل باتفاقية «مناطق خفض التصعيد» الموقعة بين أطراف أستانا الثلاث شهر أيار من عام 2017، وكذا إلى حماية وقف إطلاق النار الذي بدا هشاً في العديد من المناطق السورية، الأمران اللذان يمكن لهما أن يهيئا الأجواء لمواصلة العمل في الملف السياسي الذي بدا شديد التعقيد قياساً إلى التشابكات الحاصلة، والمتفرعة، عن الأزمة السورية التي يصح توصيفها على أنها الأعقد مما شهده هذا القرن حتى الآن.
بشكل ما يمكن القول إن جولة أستانا السادسة عشرة التي انعقدت في العاصمة الكازاخستانية يومي الأربعاء والخميس الماضيين كانت رداً، وفق ما يوحي به توقيتها الذي ضبط على ساعة موسكو، على مؤتمر روما «الفضفاض» الذي دعت إليه واشنطن في العاصمة الإيطالية في 28 من حزيران الماضي، فقد كان من الواضح أن تلك الدعوة الأخيرة التي توسعت كما لم تكن عليه في كل المرات السابقة كانت نوعاً من التحشيد الضاغط على «الأيدي» الروسية لثنيها عن أن ترتفع معلنة عدم الموافقة على التمديد للقرار 2533 الذي سيجري التصويت عليه في مجلس الأمن يوم الأحد 11 تموز، وعليه فقد ذهبت موسكو إلى القيام بتحشيد مضاد لتثبيت مواقع كانت ترى أنها اهتزت مؤخراً بفعل التلاقيات الحاصلة ما بين أنقرة وواشنطن، مما يمكن لحظه إبان زيارة المندوبة الدائمة الأميركية في الأمم المتحدة ليندا غرينفلد للحدود السورية التركية مطلع شهر حزيران المنصرم، لكن ما تلا ذلك الحدث من سلوكيات تركية كان يوحي بأن تلك التلاقيات لم تكن تتعدى ممارسة لـ«الزئبقية» التي اشتهرت بها سياسات الرئيس التركي على مدى يزيد على عقد ونصف العقد هي مدة إمساكه بالسلطة في أنقره بشكل مطلق.
ما يؤكد الرؤيا السابقة مؤشران اثنان كانا بتأثير تركي أحدهما مباشر، والآخر تمتد غصونه لتطول «المنابع» التركية، ففي أواخر الشهر الماضي قامت سلطات إقليم الشمال العراقي بإغلاق معبر «فيشخابور» المقابل لمعبر «سيمالكا» من الجهة السورية على الحدود مع العراق، والفعل الذي كان من المؤكد أنه جاء بضغط تركي على سلطات الإقليم المتحالف مع أنقرة، يمكن أن يؤدي إذا ما طال أمده إلى تداعيات سلبية على استقرار المناطق التي تسيطر عليها ميليشيا «قسد»، إذ لطالما شكل ذلك المعبر «رئة» التنفس الكبرى الاقتصادية والسياسية لتلك المناطق، وعبره كانت تتغذى كل الهياكل الإدارية والسياسية والاقتصادية من منابع «جبال قنديل» التي تعتبر المعقل الأساسي لحزب العمال الكردستاني، وهذا سيشكل ضربة كبيرة لمحاولات بناء اقتصاد مستقل بعيداً عن الاقتصاد السوري، على الرغم من أن مجرد المحاولة كانت تعتبر نوعاً من «سوء الفهم» لميكانزيما السياسة والاقتصاد في سورية، فالاقتصاد السوري الذي بني على أساس داعم لترسيخ مركزية السلطة في دمشق، قام بالدرجة الأولى على ربط المناطق السورية ببعضها البعض، بمعنى أنه جعلها في حالة احتياج الواحدة للأخرى وفق تكاملية لا يمكن فيها لأي جزء من تلك الجغرافيا الاستغناء عن باقي الأجزاء، وفي الغضون قامت السلطات العراقية أيضاً بإجراءات موسعة لضبط الحدود السورية العراقية عبر استخدام تكنولوجيا مراقبة متطورة، وكذا عبر تسيير دوريات على طول تلك الحدود التي جرى التشديد فيها على مناطق سيطرة «قسد» البالغة 150 كم من أصل 610 كم هي الطول الإجمالي لتلك الحدود، وهذا بالتأكيد سيصيب حركة تلك الميليشيات بعطب مركزي ستظهر تداعياته بشكل متتابع.
بشكل ما لا يمكن القول إن التحرك التركي الجديد، الذي هو أشبه بمحاولة «خنق» المشروع الانفصالي الكردي بعدما نجحت في تقطيع أوصاله على دفعات، نقول لا يمكن القول إن ذلك الفعل ببعيد عن حالة «غض النظر» الأميركية الذي تمهد فيه واشنطن لوضع نفسها بحالة «المعذور» لأنها لا يمكن أن تضع نفسها في مواجهة شريك «ناتووي»، كيلا تكون الصورة المرتسمة عند «الحلفاء الأكراد» أن واشنطن مارست فعل الرمي لمحرمة «الكلينكس» بعيد أن أضحت متسخة أو هي غير قابلة للاستخدام.
لم يخرج بيان أستانا بطبعته الـ16 عن تكرار ما احتوته البيانات التي أعقبت الجولات الخمس عشرة المنصرمة، لكن الجديد فيه هو البند الذي أكد فيه الأطراف على «تعزيز قرارات مؤتمر الحوار الوطني السوري» المنعقد في سوتشي كانون الثاني من عام 2018، وهذا يعني إقراراً من الموقعين بأن القاعدة الأساسية التي يمكن أن تبنى على أساسها التسوية السورية هي الحوار بين السوريين أنفسهم، لكن المفاجئ فيه هو انجرار أنقرة الكلي للموقف الروسي بخصوص المساعدات الإنسانية، فالبيان لم يذكر المساعدات عبر الحدود، وإنما ذهب نحو التأكيد على ضرورة إيصالها لجميع السوريين في جميع أنحاء البلاد «من دون تمييز أو تسييس، ومن دون شروط مسبقة». والمؤكد هو أن ذلك القرار هو الذي مهد الأرضية لتمرير القرار 2585 يوم الجمعة الماضي الذي قضى بتمديد إدخال المساعدات عبر معبر «باب الهوى»، فقط، لمدة ستة أشهر قابلة للتمديد لمرة واحدة، موسكو أرادت القول إنها معنية بعدم إغلاق الباب مع واشنطن والغرب، وفي الآن ذاته معنية بإعادة مركزية السلطة في دمشق، والتمديد كان حلاً وسطاً مناسباً في تلك المعادلة.
(سيرياهوم نيوز-الوطن)