الرئيسية » مجتمع » نوال عايد الفاعوري: لا تبع إنسانيتك.. وإن ساوموك. كل الذين باعوا إنسانيتهم ماتوا قبل أن يُفارقوا الحياة

نوال عايد الفاعوري: لا تبع إنسانيتك.. وإن ساوموك. كل الذين باعوا إنسانيتهم ماتوا قبل أن يُفارقوا الحياة

نوال عايد الفاعوري

كل كلامٍ أمام حديث القلب يذوب، لا يبقى حينها للّغة مجالاً للتعبير. كيف تقوى بضعة أحرف على أن تقول شيئاً ما عن كل هذا الطوفان الذي يجتاح صدرك، عن الإعصار الذي لا يهدأ، وعن الأشياء التي لا تعرف كيف تقولها للآخرين. هذا الشعور الذي يلاحقكَ مراراً يقع في منتصف الإنسانية تماماً، تلك التي تخلّى عنها الكثيرون لأنه ليس لديهم على الأرجح ما يجعلهم على قيد الشعور، وهو الأمر الذي يجعل “الزومبي” حقيقة، أولئك الأموات الذين لم يعودوا للحياة، بل الأحياء الذين يعيشون كالأموات!

ما القلب الذي تحمله أرصفة المشافي؟ كيف ترى كل هذه التفاصيل الصغيرة التي لا يلتفت إليها أحد، ثم تستمر في الحياة بشكل عادي.

لو كانت غرف الإنعاش تحكي، لاحتضنت كلمات الذين يصمتون حين يلوذون بالسكوت ملجئاً أخيراً أمام وحش الموت الذي ينهش في الراحلين دون أن يوقفوه.

يا لهذه القدرة الهائلة على احتمال كل هذا الوجع، دون البكاء. وحدها السماء تفعل ذلك لتواسي الأرض التي لا يعرفُ ساكنوها كيف لا يُدفن الذين ماتوا وهم على قيد الحياة!

العاشرة عجزاً، كنت لتوّي خرجتُ من المشفى الذي ألِفَني وحفظتُه. العلاقة مع هكذا أماكن ليست علاقة عابرة مع راكبٍ تصادف أن يجلس بجانبك في مشوار قصير بالتاكسي، أو أطراف حديث تبادلتها مع غريب جالسٍ على مقعد حديقة حين بادلته الابتسامات ثم مضيت.

كل تلك الوجوه التي قابلتُها على مدار عشر سنوات كانت تحكي قصصها بلغة العيون، وكثير من البكاء، وكان الدمع أبلغ وسيلة كي يعبّروا عن عجزهم، ذلك الذي يجعل من الإنسان فاقداً للأمل، للعمل، للقدرة على فعل أي شيء سوى ما تسمح به عجلة الحياة في حركة القصور الذاتي الذي تمارسه على الجميع حين تبقى مصرّة أن “تمشي” دون أن يوقفها أحد. وحدها مئات الأحضان كانت فعلاً متاحاً وسط كل هذا العجز والدموع.

كان يجلس على حافة الرصيف الذي تطأه أرجل المارة كما يفعل الأموات بأحلامه، والأموات هم أولئك الذين كانت إنسانيتهم على الحافة، ثم سمحوا لها أن تنتحر كي يتخلصوا من عبء الأشياء التي تُثقل قلوبهم. لم يكترث به أحد، كان يحتضن طفلاً هو حفيده على الأرجح، وكان يبكي. العجوز الستيني يعلمُ تماماً في مسيرة حياته الصعبة كم هي عزيزة دموع الرجال، وأنهم حين يريدون البكاء فإنهم يفعلون ذلك خفية لأن داخلهم لا يحتمل صورة أحدهم في المرآة يذرف الدمع بحرقة، ويعلم تماماً حُرقة الدموع التي يسكبها العجز على مُقلتي هذه الحياة اللعينة.

موجعٌ ذلك السؤال الذي يرسمه أحدهم على جبينك حين يراك تبكي ليقول لك “مالك؟”، والإجابة قد لا تبدو مفهومة، لكني جازفتُ بالذهاب إليه لأقول له كلمات المواساة التي لا تُعيد الأحبة، أو تجلب الأموات إلى الحياة مرة أخرى. “أبوه مات، ومعيش أطعمي إخوانه الخمسة، من وين بدي أشتريله دواء”. الأسئلة التي لا إجابات لها أسهل من الإجابات التي لا تستطيع معها الرد ولا يبدو فيها الصمت تعقيباً كافياً.

متى مرّ عليك آخر طبيبٍ يتألم لمرضاه ليلاً، ثم لا يستطيع النوم لأن أحدهم تُسحب روحه مع كل جرعة دواء تبدو سلّماً بطيئاً قبل الموت. أولئك الإنسانيون الذين تبدو قلوبهم كمعاطفهم البيضاء النقية، وتعرف أوردتهم وشرايينهم كيف تضخ كل ذلك الحبّ من القطعة الصغيرة التي تقع في رُكن صدورهم، الكبيرة في نفوس الآخرين.

عبثاً حاولتُ أن أخبره أن حفيده الذي كان يريدني أن أوقف دموع جدّه سيكون بخير، وأن ذوي القلوب الجميلة ما زالوا في هذه الحياة، وإن لم يمنحنا القدر فرصة أن نتعثّر بهم أو يتعثّروا بنا. ” كنتُ أتفهّم رفضه لأن يخبرني اسمه فقط، كما كنتُ أتفهم دموعه التي كتبت على الرصيف دعوات من قلبٍ محترق على الظلَمة الغاشّين للرعية.

ربما لا أعرفُ شعور أولئك المتخمين بهذه الحياة، ساكني البروج العاجيّة، الذين احتجبوا عن هذا الجدّ وحفيده، وآلاف مثله، لديهم وجع تفيض به قلوبهم، وتنهمر منه دموعهم. الذين يصنعون لأنفسهم حقّاً بالعلاج والأكل والشرب والسكن والحُكم والظلم والطغيان والتشبيح على حساب دهس كرامة الآخرين ممن لا واسطة لديهم إلا الله، الذين يستطيعون بسهولة النوم كل مساء وغيرهم ما زال يقظاً يدعو، ويبكي. ثمة لعنة فارقة في هذه الحياة، أن لا يستطيع طبيب أن ينام لألم مريضٍ واحد، وأن يتمكّن حاكم من النوم وشعب كامل لديه مريض!

إلى صاحب المعطف الأبيض الذي لم يُشيّع إلى اليوم: ستبدو الورود جميلة دوماً ما لم يقطفها صوتك، والإيمان بالشفاء أول سلّمِ العلاج. أن تسلب إيمان أحدهم بأنه سيكون على ما يُرام فذلك يعني أنك لا تستحق لقب “الطبيب” ولا قلب الإنسان، وأن تمنح أحدهم ذلك الشيء الصغير جداً في روحه فكأنما أحييت أهله جميعاً، وهذا ما لم تدرسه في مادة الـanatomy حين أعطوكَ تشريح القلب.

إلى جمال ، الإنسان قبل أن يكون الممرض : ربما لا تعرفني ، وأنا لا أعرف إلا إسمك الأول ، لكن ذلك الألم الذي كان في قلبك أمام كل مريض، ذلك الإهتمام بأصغر التفاصيل، تلك النظرات التي تغرز بذور الأمل في صدور المرضى ثم تكبر على حين غرّة من هذه الحياة ، كل ذلك لا يقدّر بثمن، ولا تعرف الجامعات حتماً كيف تدرّسه للجميلين مثلك .

حين أخبرتك عن ذلك الذي باع قلبه وأخبرني أن لا أمل من حالتي، قلت لي: كيف لنا أن نستمع للذين يكذبون حين يفشلون؟ الأمل هو ذلك الشيء الخفي الصادق الذي سيخبركِ دوماً أنكِ بخير رغم كل كذبهم، ورغم كل شيء.

سيرياهوم نيوز 6 – رأي اليوم

x

‎قد يُعجبك أيضاً

“اليونيسيف”: أكثر من 200 طفل قُتلوا في لبنان من جراء العدوان الإسرائيلي منذ نحو شهرين

منظّمة الأمم المتحدة للطفولة “اليونيسيف” تعلن استشهاد أكثر من 200 طفل في لبنان من جرّاء العدوان الإسرائيلي منذ نحو شهرين، في وقتٍ “يجري التعامل مع ...