غسان كامل ونوس
ما العلاقة بيني وبين الحداثة وما بعد الحداثة؟! وهل أخوّض في أمواجها، وأعيش التجربة من داخلها، من دون أن أشعر؟! وهل أنا كاتب حداثيّ أم ما بعد حداثيّ؟! أسئلة أراها نافلة، ولم يسبق أن وجّهتها إلى نفسي؛ لماذا؟! ألأنّي أعيش في عصر الحداثة وما بعد الحداثة؟! لا شكّ في أنّ هذا لا يعلّل، أو يسوّغ إطلاق التسمية أو اللقب: كاتب حداثيّ أو شاعر حداثيّ؛ فلا تقاس الحداثة بالزمن المعيش؛ إنّها مشروع فكريّ عقليّ علميّ مفتوح على اليقينيّات، التي انتقلت من الدين إلى الإنسان وعقله، وهي تجاوز لما هو قديم… لقد تنوّعت الكتابة لديّ؛ كما يعرف المتابعون، شعراً وتثراً، وتوزّعت الكتابات، التي توسم بالشعريّة، بين التفعيلة والنثر، وتعدّدت النصوص النثريّة بين القصّة والرواية والمقالة والخاطرة والمسرحيّة والزاوية، والكتابة التي لا مسمّى نهائيّاً لها؛ ولم أضع على غلاف الإصدارات، التي تضمّنتها ما يشير إلى جنسها، وأسميتها، مع سواها، ممّا لا أجد لها تصنيفاً: “كتابات”؛ لعدم قناعتي التامّة بالتسمية المتداولة، أو بالأصحّ، لا يعنيني موضوع التسمية كثيراً أو قليلاً؛ فهذا مرهون بمن يقرأ؛ ناقداً كان، أو متلقّياً مهتمّاً أو عاديّاً، وأترك لهم الشعور بذلك، أو استنتاجه؛ إن رغبوا! وموضوع التسمية هذا، لا تتوقّف إشكاليّاته عند النثر والشعر؛ بل إنّ ما يتضمّنه السؤال عن الحداثة وما بعد الحداثة، في الشعر أو في سواه، لا ينجو من هذه الإشكاليّة؛ ولا سيّما في ما بعد الحداثة! فهي تسمية تتعلّق بالحداثة؛ تنطلق منها؛ تعارضاً معها أو تناقضاً، أو تجاوزاً لها وتمرّداً عليها؛ بعدم الانصياع لسماتها ومفهوماتها أو تجلّياتها؛ هي التي لم تنج من تشكيك أو مساءلة أو استكشاف.. وإذا كانت الحداثة- وما بعدها أيضاً- لم تنبع من فراغ، ولم تكن منبتّة عن الجوانب الأخرى، الفنّيّة وغير الفنّيّة في المجتمعات، التي برزت فيها؛ من اكتشافات وتحوّلات في العلم والاقتصاد والسياسة والمجتمع، واللغة والنقد والفلسفة والجمال… وانعكس ذلك على مختلف جوانب الحياة مدّة مهمّة؛ فإنّ الحداثة ذاتها، بنتاجاتها وصياغاتها وأفكارها والقضايا المعرفيّة، والمكتشفات والاختراعات والمتغيّرات المتنوّعة، التي لم تتوقّف؛ بل تزايدت باطّراد؛ قد تبادلت التأثير في الجوانب المختلفة، وقد أصابت التبدّلات مقولاتها، وأفرزت تناقضاتها، التي انبثقت من كنفها، ولمّا لم يجد النقّاد أو الكتّاب اسماً، يلائم المرحلة هذه المواكِبة والمتابِعة زمنيّاً لمرحلة الحداثة، فقد كانت: ما بعد الحداثة؛ لتبقى الحداثة أسّها وجوهرها أو علّتها أو دليلها.. وهناك مرحلة أخرى، يجري الحديث عنها؛ هي ما بعد بعد الحداثة! ولنتاجات الشعراء- وغير الشعراء- فيها تمايز أو اختلاف عن مقولات الحداثة، وما بعد الحداثة. هذا في التسمية؛ أمّا من حيث التقرير عن نوع الكتابة أو توصيفها، فأقول: إنّني، وبكلّ شفافيّة، لا أهتمّ لهذا، وأهتمّ- فقط- بأنّني أكتب، وأراجع، وأقتنع نسبيّاً بالشكل الأخير للنصّ؛ بصرف النظر عن جنسه ولقبه، ونسبته إلى هذا الجنس الأدبيّ أو ذاك؛ على أنّ هذا ليس مفتوحاً بإطلاق، ولا يأتي من جعبة خاوية؛ بل بعد اطّلاع واهتمام، ومتابعة لمختلف النظريّات والمدارس الفكريّة والفلسفيّة والأدبيّة والنقديّة، وللأجناس الأدبيّة والكتابات الناجزة عنها اتّفاقاً أو تعارضاً؛ والرؤى، التي تتكوّن عنها، والأصداء التي تتركها في الذاكرة والوعي وما وراءه أيضاً، ويمكنني القول استطراداً: إنّ لديّ نظرة، تكتنف الكثير من كتاباتي وأفكاري، إلى الوجود بكلّيّته وجزئيّاته، ببداياته، وتمظهراته واحتمالاته، ومشهديّاته القارّة والمتبدّلة؛ بدوران مشهود، أو بإشعاع حادّ أو مشاكس؛ فهل هذه المركزيّة الوجوديّة، تنسجم مع مقولات الحداثة؟! هذا مع ميل مريح من جهة القناعة، وغير مريح من حيث النتيجة، إلى عدم وجود يقينيّات باتّة أو مبتوتة في الحياة، وأنّ لديّ شكّاً في حقيقة أيّ استقرار منظور أو متصوَّر، وربّما في الوجود الفعليّ في اللحظة المقارَبة، وفي النظر الخدّاع؛ وأحسب أنّ من قرأ، ويقرأ ما كتبت، سيقف على كمّ الأسئلة والتساؤلات، التي تحتشد بها النصوص، النثريّة والشعريّة، من دون إجابات، بالرغم من محاولة البحث المستمرّة قراءة أو تفكيراً أو تأمّلاً أو كتابات؛ فهل ينسجم هذا مع بعض أدبيّات ما بعد الحداثة؟! كما أنّني لا أقف على برّ آمن من الانزلاقات والاهتزازات، في ما فكّر فيه العلم الحداثيّ طويلاً، وكتب نظريّات وأفكاراً وتفسيرات وتوقّعات وتكهّنات، وما زلت غير واثق من حقيقة أيّ شيء، أراه، أو أسمعه، أو حتّى أقوم به، أو من صوابه، أو جدواه، وهذا لا يدفعني إلى التوقّف عن العمل أو الأمل أو الحياة؛ لأصبح عدميّاً تماماً؛ كبعض مفاهيم الحداثة وبعد الحداثة وما قبلهما؛ بل أستمرّ في ممارسة الطقوس، التي تناسب العقل، أو المنطق العام، أو الوراثة، أو الأسطورة، أو المجتمع؛ وهي أيضاً من مكوّنات الحداثة، لكن.. إلى أين وصلتُ، أو سأصلُ؟! لا أدري، ولا يهمّني كثيراً ربّما! وأقول بصدق؛ بل أعترف بأن لا حقيقة بين يديّ، ولا في وعيي، وإذا كانت لديكم فاهدوني إليها أرجوكم، لكن أقنعوني بها، ولا تلقّنوني إيّاها؛ فلست مستعدّاً للعودة إلى القرون الوسطى، وللأسف إنّ التقديس والتصنيم من مشكلات العصر، الذي نعيش، وتقترب سماته في بعض المناطق من العالم من ظلاميّة تلك العصور؛ ولست قابلاً للتسليم، الذي لا بدّ منه للقبول؛ كما أعتقد، ولست في حال، تمكّنني من تقبّل أمر أو فكرة من، دون إعمال العقل الحداثيّ، ولا أكتفي بذلك، أو قد لا يكفيني، أو لا يصل بي مع الحواس كلّها إلى مستقرّ مادّيّ أو معنويّ؛ فلا بدّ من الاعتماد على الحدس والتوقّع والاحتمال الما بعد حداثيّ! ومن حيث ما يغلب على الأسلوب والشكل؛ فإنّه لا ينبتّ عن المضمون؛ كما تقول الحداثة؛ وإنّني لم أكتب الشعر العموديّ، الذي يلائم الخطابيّة والمناسباتيّة، وتوسّل إعجاب المتلقّي بالمواكبة والترديد والتصفيق والبكاء ربّما- وهذا ليس تعميماً، فإنّ بعض الحداثة موجود في نصوص عموديّة قديمة وحديثة- ولا تستهويني القافية، أو الموسيقا التقليديّة في النصوص الشعريّة، على الرغم من كتابتي التفعيلة، واتّخاذ بعض الوقفات المقفّاة متّكآت ونهايات جزئيّة أو كلّيّة، ولست أدري إن كانت هذه من نتاج الإرث المقروء أو المسموع، أو من تأثير ما تربّيت عليه في المدارس أو في الوعي الجمعيّ، أم إنّها حاجة يفرضها ظروف الكتابة وموضوعاتها، التي يتناغم كثير منها مع الجوّانيّات والأحاسيس والارتدادات المتنوّعة في النفس؛ إضافة إلى أنّ لبعض النصوص وحدة الموضوع، وهذا أيضاً من ملامح الحداثة؛ على أنّي كتبت النصوص النثريّة، التي تعبّر عن حالات معنيّة بالجزئيّات والتفاصيل والهوامش والاحتمالات، ككثير من النصوص المكتوبة على نظام التفعيلة، وأظنّ أنّ هذا من أجواء ما بعد الحداثة، وهي تأخذ لبوسها، الذي يخرج بها على هذا النحو. مع حرصي، آناء التشذيب، إلى عدم الوضوح الفاقع، أو الغموض القاتم، ولا أدّعي نجاحاً في هذا، بالرغم من اقتناعي بما أنفث؛ فهو يتوقّف على رأي المتلقّي! ولكن.. أيّ متلقٍّ؟! إنّه المتلقّي المهتمّ المتابع المساير، والمشارك في البحث والتقصّي والتساؤلات والانفعالات.. كما أنّني أحاول الابتعاد في كتابتي عن الجمل الجاهزة، والصيغ المألوفة أو المستهلكة، والكلمات المقعّرة، والاستطرادات الشارحة المفسّرة النافلة.. وأميل إلى اقتناص الحالة بأقلّ التعبيرات وأشفّ الكلمات، مقسّمة إلى مقاطع في المتن الطويل، والحالات المتعدّدة لموضوع واحد، أو من دون ذلك، تلك التي لا أفرضها على النصّ أيضاً؛ بل هي وليدة الانفعال، الذي أحاول نثره على الورق، وقد تبدو اللغة جديدة لدى قرّاء تقليديّين، أو صعبة لدى عاديّين؛ كما أسمع من بعض المتلقّين، وأعترف أنّني أعاني أحياناً من قراءة هذه النصوص التفعيليّة أو النثريّة على الملأ؛ لأنّني أواجه سؤالاً داخليّاً متواصلاً- يتصادى ربّما مع أسئلة دواخلهم- عن نسبة الذين يصلون إلى الحالة، التي أودّ أن يعيشوها معي؟! أو يعيشوا بعض أجوائها، وليس بالضرورة أن يكون هذا ما أريده تماماً أو ربّما يقاربه؛ وهل أعلم ما أريد حقّاً؟! وهل ما يتدفّق، أو يُنحت على الورق، هو من نتاج الوعي والعلم بالأمر، أم أنّ النصّ يسهم في كتابة ذاته، وأنّ عبارات تأتي لتدهشني، حين أعود إليها، متى كانت؟! وكيف؟! ولماذا؟! ألا يتعلّق كلّ هذا بالحداثة وما بعدها؟! وأعترف أيضاً أنّني لا أختار اللغة، التي أكتب فيها؛ بل هي بضاعتي التي أمتلك، أو تتمثّلني، وتتمثّل أفكاري، أو هذياناتي، أو بوحي، ونوحي وشكواي وتساؤلاتي، وقد تتشظّى، أو تتجدّد، وتشرق، أو تكتئب، مع توقي إلى التعبير عن الملامح والظلال والانعكاسات والرؤى، التي تهمّني بالتأكيد، وتهمّ الناس في معاناتهم الحياتيّة المتنوّعة والمتقاربة، وأرصد، أحاول، بعض الأركان والزوايا والكائنات المهمّشة أو الحائرة، التي تبحث عن انتماء أو تعيين، وهذا ما يدور في أحياز ما بعد الحداثة. هل أوغلت في التعرّي أمامكم، في الحديث عن نفسي ومعاناتي، قد أتحدّث أيضاً عنها في كتاباتي، للتعبير عن معاناة وجوديّة، تتعلّق بالأسباب والنتائج والمصائر، التي تنتظرنا؛ مذنبين ومتّقين، “ومن كان بلا خطيئة…”! ربّما شاقني الأمر فأسرفت في البوح، لكنّكم لن تجدوا ضالّتكم لديّ؛ فما زالت أوراق توت كثيرة، ربّما لا أعرف ما تخفيه؛ فما عندي عسير اصطياده، ربّما، عصيّ على القبض والتقرّي، وما أريد “جلّ أن يسمى”!!
(سيرياهوم نيوز-الشارقة الثقافية ١٧-٩-٢٠٢١)