غسان كامل ونوس
حدث، ويحدث، أن يَنسب أحدٌ كتابةً ما إلى نفسه؛ وهي ليست من نتاجه، أو يدّعي آخر أنّ نصّاً أو بعض نصّ من إبداعه؛ وهما من مخيّلةٍ أخرى.. وهذه الظاهرة ليست جديدة أو عارضة أو طارئة؛ بل إنّ لها حضوراً في التاريخ الأدبيّ العربيّ والعالميّ، ونشرت أخبارها وشواهدها في أكثر من نافذة ووسيلة. ولا بأس من الإشارة إلى أنّني، سبق أن شاركتُ في أكثر من لجنة بهذا الخصوص؛ للوقوف على الحقيقة في شكاوى رسميّة، قدّمت في هذا الموضوع، إلى المؤسّسة الثقافيّة، التي كنت مسؤولاً فيها، وتوصّلنا إلى نتائج موثّقة بذلك في عدد منها. وممّا لا شكّ فيه، أنّ انكشاف مثل هذه الوقائع، وتتبّعها، والاستيثاق منها، كانت من الصعوبة بمكان، في الأزمنة التي مضت، قبل الانتشار الإعلاميّ الأرضيّ الواسع، وربّما لعبت المصادفة دوراً في ذلك، من قبل صاحب المادّة الأصليّة، أو سواه من المتابعين، وصار هذا من الممكن أكثر في ما بعد؛ أمّا بعد انتثار المواقع والصفحات الفضائيّة، والنشر الالكترونيّ؛ إضافة إلى الورقيّ، أو بديلاً منه، فقد بات الأمر متاحاً أكثر فأكثر، إذا ما أتيح له جهد دارس أو فضول متطفّل أو شاكّ، أو راغب في الفضيحة! وفي الوقت نفسه، فإنّ هذا التوسّع اللامحدود، يتيح موادّ أكثر، لمن تراوده نفسه الأمّارة بالشهرة على حساب آخرين، أن يقدم على مثل هذا الفعل الشائن.. ويبدو نافلاً القول إنّ الاستفادة من أفكار الآخرين وكتاباتهم أمر مشروع؛ مع ضرورة الإشارة إلى ذلك في مكان مناسب، ويتوقّف هذا على طبيعة الاستفادة ومقدارها وشكلها.. ويمكن لبعض أن يتذاكى؛ باستخلاص فكرة، أو تقليد أسلوب، أو استخدام ألفاظ، من مدوّنات سواهم، وإغفال التطرّق إلى المصدر؛ على أساس أنّ هذا لا يمكن كشفه، أو لا يشكّل جريرة، يُدان عليها، مع إمكانيّة تعدّد القائلين به؛ كما قد ينوّع “المختلس” موارده، ويباعد بين أحيازها؛ ليضيع حبر الجرم بين القائلين، وقد يسود هذا بين من يتقنون لغات أجنبيّة واسعة الانتشار، والأكثر سهولة، أن تكون اللغة قليلة التعامل، فيتأخّر الاكتشاف، وقد لا يحدث؛ كما قد لا يحدث اكتشاف سرقة ممّن غادر الحياة من الكتّاب والمبدعين والمفكّرين، إلّا إذا شاء أحد العارفين فضح الفاعلين.وقد يتجاوز الأمر موضوع ما هو موثّق شفاهاً، أو تدويناً، إلى مشاهد ووقائع مخزية من نوع آخر، وقد يقوم بها من هم قريبون أو أصدقاء، وفي وضح النهار، وأمام صاحبها؛ كما حدث ذات يوم مدرسيّ ثانويّ، حين أنهيت موضوع التعبير منشرحاً، ومن فرط اغتباطي، قرأته لصديقي وزميلي في الصفّ والسكن، فأخذ الأفكار الواردة في ما قرأت، وكتب موضوعه؛ فحصل للمرّة الأولى على درجة أعلى من درجتي! وفي أكثر من مناسبة، وقد يكون حوار تمهيديّ أو قد تغدو دردشة جانبيّة “ودودة” ورطة ومقدّمة لادّعاء أفكار آخرين؛ من قبل مشهورين و”كبار”؛ ففي أثناء مؤتمر ثقافيّ عربيّ موسّع، التقينا؛ نحن رؤساء الوفود وبعض أعضائها، قبل الافتتاح، في جلسة تعارف سريع، وتداول في بعض القضايا، التي ينبغي أن يكون للمؤتمر إزاءها تحليل وقول وموقف، وذكرتُ بعض المقترحات، فتبنّى أهمّها وفد آخر، سبقني إلى الحديث، في الاجتماع الرسميّ، أمامي وفي حضوري، ومن دون أن يشير إليّ! وفي أثناء رحلة قصيرة ضمّت مشاركين في ندوة فكريّة، طرح بعضٌ آراءه، وبعد الترحيب بهم، فطلب أحدهم الكلام أوّلاً، وتطرّق إلى أفكار أحد مرافقيه، وأسقط في يد صاحبها! ومن الغريب أنّك قد تخجل من الحديث في هذا؛ كما تخجل من مواجهة الفاعل، فيما لا يخجل هذا (المثقّف) من التجرّؤ على القيام بذلك، وفي حضرة من شهد الأمر، وعلى مرأى من صاحبها وعلى مسمعه! وتتكاثر الأمثلة في هذا، ولعلّ كثيرين يتذكّرون حوادث مشابهة أو مقاربة، في أثناء الحوارات الخاصّة والعامّة، التي تدور في مختلف الأوقات، وقد تقول فكرة يكتبها سواك، أو يقارع بها محاوريه، من دون الإشارة- طبعاً- إلى مصدرها!وهناك سرقات أخرى، تتمّ من قبل دارسين، أو طامعين بترفيع ودرجة وكرسيّ، تشمل- ربّما- كرّاسات وأبحاثاً؛ كلّاً أو جزءاً! كما أنّ هناك عمليّات نصب أكبر، وادّعاء أخطر، ربّما؛ منها ما يجري من قبل باحثين وعلماء، في شتّى المجالات، ويتّصل بفكرة ما، قد تؤدّي إلى اكتشاف أو اختراع، يدخل التاريخ الإنسانيّ، ويأخذ قدراً كبيراً من الشهرة والاهتمام والتاريخ والإعلام!وكما في كثير من مفارقات الحياة ومنغّصاتها المرّة، فقد ينجو كثيرون من المحاسبة والعقاب، وحتّى الذكر العابر؛ لموقع لهم وحيّز ونفوذ؛ فيما يشهّر بآخرين، ويُفضحون، ويتعرّضون لإجراءات تأديبيّة! وإذا كانت السرقات الموصوفة، تطلق على من يقوم باختلاس ما ليس له، من أشياء مادّيّة وعينيّة، لها قيم ومواصفات معروفة، وتتطلّب عمليّة الوصول إلى السارق دلائل وبصمات ومخلّفات وآثار، يتركها غافلاً، أو قد يضبط بالجرم المشهود، فإنّ الأفعال التي ذكرت، أعظم وقعاً وآثاراً وتشوّهاً وأذيّات؛ وهي اعتداء على العقل الذي فكّر، وحلّل، واستنتج، وتبنّى؛ وانتهاك للوعي الذي توصّل إلى هذا تمثّلاً وصياغة؛ وازدراء للّاوعي الذي حثّ، وطوّف، وأوحى؛ وطعنة في كيان الثقافة التي حصّلت وشذّبت واكتنزت، وبثّت؛ واستلاب للقناعة التي تطلّبت الكثير من التساؤلات والسعي والجهد والمقاربة والخلاصات، فتغدو الروح الحريصة على الإسهام في تأكيد حيويّتها وجدارتها وحضورها، معذّبة، مخيَّبة، قانطة.. إنّ في هذا امتهاناً للكرامة والشخصيّة، وطعناً مقصوداً عن سابق تصوّر وتصميم، للكيان الثقافيّ مجسّداً أو مرمّزاً.. وهو عَكَر في تيّار الثقافة الفيّاض، وفضاء الإبداع المحلّق؛ كما هي السرقة المادّيّة شذوذ في تيّار الحياة المشروع للتحصيل والإنجاز، الذي لا يتوقّف؛ وليس من اليسير التخلّص من سرقة الجيب والبيت والمكتب والمعمل… أو السطو على موئل الأفكار، وبيدر العواطف والمشاعر، وأيكة الروح… ولكن، لا بدّ من العمل المتواصل ضدّ ظاهرة كهذه، ومن الضروريّ الإشارة والتذكير والتنبيه والتحذير، لعلّ وعسى!***
(سيرياهوم نيوز-الثورة الثقافي٢٩-٩-٢٠٢١)