| د. بسام أبو عبد الله
عندما نقول إن أميركا تتراجع، يخرج عليك البعض ليقول لك إن أميركا ما تزال قوة عظمى أولى في العالم، على الرغم من أن كلمة «تتراجع» لا تعني أن أميركا ليست قوة عظمى، وبهدف الفهم الأعمق لهذه المسألة عدت إلى اللقاءات الشهيرة للصحفي الأميركي جيفري غولد برغ، المؤيد لإسرائيل، وأجراها مع الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما من خلال مقابلات شخصية، وسفرات مع الرئيس، واجتماعات مع كبار مسؤولي الأمن القومي، لتصدر لاحقاً تحت عنوان عقيدة أوباما (Obama Doctrine) في «ذي أتلانتيك» في آذار 2016، وإذا أردنا أن نلخص أهم الأفكار التي طرحها أوباما في تلك اللقاءات فسوف نصل إلى ما يلي:
قال أوباما لغولد برغ إنه دخل البيت الأبيض على أساس الخروج من العراق وأفغانستان، ولم يكن يبحث عن انتصارات واعدة في صراعات اعتقد أنها غير قابلة للربح.
في مسألة الحرب على سورية لم يرد أوباما التدخل المباشر، وكان يقف في وجه وزيرة خارجيته هيلاري كلينتون وتيارها، وممولين خليجيين، ولننتبه: ليس لأنه يحب الخير، ويحرص على السوريين، بل لأنه كان يعتقد كما وزير حربه آنذاك روبيرت غيتس الذي كان يسأل في كل الاجتماعات: «أليس علينا أن ننهي الحربين اللتين نخوضهما، يقصد العراق وأفغانستان، قبل أن نبحث عن أخرى» ويقصد سورية.
جاء أوباما على خلفية حروب جورج بوش الابن والمحافظين الجدد التي برأيه ملأت عنابر المشافي العسكرية الأميركية بالجنود المصابين، وأغرقت أميركا، وبرأيه أن المهمة الأولى لأي رئيس أميركي في المجال الدولي بعد فترة بوش: «لا تكن أحمق»!
قال أوباما لـغولد برغ: إن يوم 30 آب 2013 كان يوم تحرره، إذ إنه لم يواجه به مؤسسة السياسة الخارجية وكتاب إرشاداتها ذا الصواريخ البالستية، وحسب، بل حلفاء أميركا الغاضبين ذوي المطالب العالية في الشرق الأوسط، والذين يسعون لاستغلال العضلات الأميركية لأهدافهم الضيقة والطائفية.
شرح أوباما تفسيره للسياسة الخارجية الأميركية بأن «الانعزالية» غير ممكنة في عالم يضيق بطريقة غير مسبوقة، والانسحاب منه غير ممكن، لكن الأسس التي يعتمد عليها هي: الواقعية! لأن أميركا لا تستطيع أن تنهي كل البؤس في العالم، وعليها أن تختار «أين تستطيع تحقيق تأثير حقيقي»؟ وفي الوقت نفسه أوباما يؤيد المنظمات المتعددة الأطراف، والتطبيع الدولي.
أكثر ما كان يغضب أوباما من سماهم «الركاب المجانيين» الذين لا يريدون دفع 2 بالمئة من دخلهم القومي، ويريدون الركوب على المركب الأميركي مجاناً! لكن ما أغضب أوباما هنا أليس هو ما عبر عنه خلفه دونالد ترامب بطريقته الفجة حول الدفع مقابل الحماية الأميركية بما في ذلك للحلفاء الأوروبيين في الناتو!
ركز أوباما في حديثه الشهير على ما يسعى إليه بايدن الآن وفق مبدأ «القيادة من الخلف» وعلى حث الدول الأخرى على أخذ خطوات بنفسها بدل انتظار الولايات المتحدة للقيادة! مع التركيز على: الانسحاب، الإنفاق الأقل، تقليل المخاطر، تحويل الأعباء للحلفاء.
ويعترف أوباما في هذا اللقاء بأن «السياسة الخارجية استهلكت الكثير من انتباه الدولة، ومواردها»، وأن أميركا انجرفت للتوسع كما غيرها من القوى العظمى في التاريخ، لكنه يقر: إن جيشها لا يستطيع فرض النظام في كل مكان في العالم!
أوباما كان يعمل حسب زعمه، على إقناع القادة العرب والمسلمين أن مشاكلهم ترتبط بالحوكمة والحاجة لإصلاح ديني حقيقي، والتكيف مع الحداثة، وكان يرى أن أردوغان زعيم مسلم معتدل سيردم الهوة بين الشرق والغرب، لكن فيما بعد اكتشف أنه «فاشل واستبدادي»! إذا دققنا هنا ألا نرى أن بايدن لديه التقييم نفسه!
بعد التجارب في أفغانستان والعراق ثم ليبيا، اقتنع أوباما بضرورة تجنب الشرق الأوسط، وكان نائبه بايدن يقول عن هيلاري كلينتون التي كانت تستفزه في سياستها الخارجية: «إنها فقط تريد أن تكون غولدا مائير»!
يرى أوباما، وأعتقد بايدن أيضاً، أن آسيا تمثل المستقبل، وعلى أميركا أن تهتم بإفريقيا وأميركا اللاتينية، وأما أوروبا التي لا يحبها كثيراً فهي مصدر للاستقرار العالمي، وتحتاج لليد الأميركية في حين أن الشرق الأوسط لا يمكن إصلاحه ولا لجيل قادم!
برأي أوباما أن على السعوديين التشارك مع أعدائهم الإيرانيين في الشرق الأوسط، والتنافس بينهم، بدل الحروب بالوكالة والفوضى، وعليهم إيجاد طريقة للشراكة مع الجيران، ومأسسة بعض السلام البارد! وكأن أميركا بريئة من كل ما يحدث في المنطقة.
يضرب أوباما نموذج فيتنام ويقول: «نحن أسقطنا المزيد من العتاد على كمبوديا ولاوس أكثر مما أسقطناه على أوروبا في الحرب العالمية الثانية، ومع ذلك اضطر الرئيس الأسبق ريتشارد نيكسون للانسحاب، وذهب وزير الخارجية الأسبق هنري كيسنجر للتفاوض في باريس، وكل ما تركناه كان الفوضى والمذابح والحكومات الاستبدادية التي ظهرت من الجحيم في النهاية».
ترى عقيدة أوباما أن على أميركا أن تخشى الصين الضعيفة والمهددة، وليس الناجحة والصاعدة، وعلينا مواجهتها بتقوية حلفائنا، والحزم في المناطق التي تقوض فيها مصالحنا، أما روسيا: فتمثل تهديداً لكنه ليس في قمة التهديدات، عكس الصين، ولدى روسيا حسب قوله: مشاكل ديموغرافية، وبنيوية، واقتصادية.
خلال فترة الحرب على سورية كان جون كيري يضغط على أوباما للتدخل العسكري، وكان نائب الرئيس بايدن يتضايق أكثر من إلحاح كيري، حتى قال له شخصياً: «جون هل تذكر فيتنام؟ هل تذكر كيف بدأت»؟ ما اضطر أوباما لحصر طلبات التدخل العسكري في البنتاغون، وسحبها من الخارجية.
إن استعراضي لأهم ما جاء في عقيدة أوباما كما سموها، للتذكير بأن الولايات المتحدة تختلف على الطريقة التي تريد مقاربة مشاكلها وتحدياتها، وترامب كان يرفض بوقاحة من سماهم أوباما «الركاب المجانيين»، وكان يطالب حلفاءه الأوروبيين لتسديد ثمن دفاع أميركا عنهم، أما العرب فقد كان يجلب منهم المال باستمرار، في حين أنه هدد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بتدمير اقتصاده، ولم يكن يهمه توصيف أردوغان إن كان «استبدادياً أم لا» فهذا آخر هم لدى ترامب!
التوجه الأميركي الحالي في زمن بايدن لا يختلف كثيراً عن توجهات أوباما، وممكن تكثيفه فيما يلي حسب ما سربت أقلام قريبة من الإدارة الأميركية:
توقيع الاتفاق النووي مع إيران، ورفع العقوبات.
رفض إنشاء محاور معادية لإيران، لكن مع وضع خطوط حمراء لها من قبيل: أمن إسرائيل، حرية الملاحة، عدم التقدم نحو ما تراه أميركا مصالح لها.
الانتقال في العلاقة مع الحلفاء من مرتبة «الأخ الكبير» عسكرياً، لمرتبة «الشريك الدبلوماسي» في المسائل الكبرى.
القاعدة الجديدة: سنسعى لوضع حدود على سلوك إيران، لكننا لن نصد إيران!
الموقف من سورية تقوده الأردن ومصر والإمارات بغض نظر أميركي، وأوروبي واضح، من خلال البدء بالجامعة العربية، وبشكل تدريجي عبر بوابات اقتصادية، وهو ما سوف نلاحظه بشكل خطوات متدرجة، ومتتالية، ستظهر تباعاً.
ما قرأه حلفاء أميركا بوضوح شديد أن واشنطن لا تريد مواجهات عسكرية في المنطقة، وليست مستعدة للانخراط مع أحد، وعليهم البدء بحوارات، وفتح أقنية الاتصال مع خصومهم، وإيجاد طريقة للتعاطي الجديد، وما نراه من تحولات كبيرة حالية، وقادمة سيخضع لموسم مساومات، ومقايضات واسعة خلال الشهور القادمة، ولكن يد المنتصرين هي العليا، الذين دفعوا أثماناً باهظة لإسقاط مشروع خطير حتى لو حاول أوباما وبايدن وغيرهما الهروب للأمام من أبعاده، ولكن مستقبل المنطقة يجب أن تقرره شعوبها بعد أن يتوقف حلفاء أميركا عن «الإمساك بمعاطف أميركا» كما قال مسؤول أميركي بارز، ويدركون أن الرهان على صداقتها مكلف جداً، وسيكون أحمق من يعتقد غير ذلك، أي النصيحة «لا تكن أحمق»! فأميركا دولة مهمة في العالم، ولكن الرئيس بشار الأسد كان يلخص طبيعة العلاقة معها بالقول: أميركا يمكن التعاون معها تكتيكياً، أما استراتيجياً فلا كبيرة!
التحولات الهائلة التي ستحدث في المنطقة ونتابع أخبارها يومياً لا تعكس تغير مزاج لدى أحد، لا أميركا ولا أدواتها، بل إن صمود وصبر، وتضحيات الشعب السوري العظيمة، ودعم حلفائها هو الذي أوصلنا إلى هذه اللحظة التاريخية، التي نقطف فيها ثمرات هذا الصبر والصمود الأسطوري، لنقول: أما آن لسورية أن تنتصر.
(سيرياهوم نيوز-الوطن)