تترسّخ مكانة الرئيس الصيني، شي جين بينغ، على المستويَين الداخلي والخارجي، من خلال الإجراءات التي يتبعها منذ تبوئه منصبه في عام 2012، وصولاً إلى قراره البقاء فيه مدى الحياة. قرارٌ بدأ التمهيد له باجتماع اللجنة المركزية لـ»الحزب الشيوعي الصيني» الذي يسبق مؤتمره العام المرتقب الخريف المقبل، حين سيُصادَق رسمياً على تمديد ولاية شي لفترة ثالثة. وبهذا، يعتقد الرئيس الصيني أنه سيكون في مقدوره مجابهة التحديات المتزايدة، في ظلّ اشتغال واشنطن على أخذ الصراع القائم بينها وبين بكين إلى مديات لا يزال من المبكر التنبّؤ بهاأطلقت اللجنة المركزية لـ»الحزب الشيوعي الصيني» الإطار التمهيدي لترسيخ زعامة شي جين بينغ، باجتماع مفصليّ عام، يستمرّ على مدى أربعة أيام، ويسبق بحوالى عام المؤتمر الخُمسي الذي يُتوقَّع أن يشهد المصادقة رسميّاً على تمديد ولاية الرئيس الصيني لفترةٍ ثالثة مدّتها خمس سنوات، بعد إلغاء البند الخاص بتحديد عدد الولايات الرئاسية بولايتَين. على أن أهمية الاجتماع الوحيد المجدول لهذه السنة، والذي ضمّ حوالى 400 قيادي حزبي، تكمن في كون عَقْده خُصِّص لمناقشة وثيقة ستتضمّن «قراراً تاريخياً» حيال الإنجازات الرئيسة لـ»الشيوعي» على مدى تاريخه المستمر منذ مئة عام. والوثيقة التي استهلّ بها شي الاجتماع، وفق ما أفادت وكالة أنباء «الصين الجديدة»، يُتوقَّع أن تحدِّد الإطار العام لسياسات الحزب خلال العقود المقبلة، إن كان على مستوى القضايا الداخلية أو تلك الخارجية، في ظلّ تراكم الملفّات الشائكة، من تايوان التي باتت تشكِّل صداعاً للحزب الحاكم، إلى تزايد العدوانية الأميركية في عهد إدارة جو بايدن، التي جعلت من مواجهة صعود الصين مدماك سياستها الخارجية.
باكراً، بدأت رحلة صعود شي في سُلَّم الزعامة، وبلغت أوجها بإقرار البرلمان، في عام 2018، تعديلاً دستورياً وُصف بـ»التاريخي» كونه يسمح للرئيس الحالي بالبقاء في السلطة مدى الحياة، بعد إلغاء الحدّ الأقصى القاضي بولايتَين رئاسيتَين، وقبلها إدراج «فكره» في الدستور إلى جانب ماو تسي تونغ. وإلى سجّله هذا، ضمّ الرئيس الصيني «انتصاراً» آخر بعد القضاء على وباء «كورونا»، ولو أن البلد الذي انطلق منه الفيروس لا يزال يسجِّل بؤر إصابات متفرّقة. وفي هذا الإطار، يسأل خبير الشؤون الصينية، كارل مينزنر، من «مجلس العلاقات الخارجية» الأميركي للدراسات، «إلى أيّ حدّ يمكن شي الارتقاء؟». على هذا المستوى تحديداً، سيكون اجتماع اللجنة المركزية جوهريّاً، لا سيما أن «الشيوعي الصيني» لم يصادق في تاريخه الممتدّ سوى على وثيقتَين «تاريخيتَيْن»، كلُّ منهما في مرحلة مفصليّة، وفق الخبير السياسي أنتوني سيتش من جامعة «هارفرد» الأميركية؛ في الأولى (عام 1945)، تعزّزت سلطة ماو قبل أربع سنوات من وصول الشيوعيين إلى السلطة. وفي الثانية (عام 1981)، مُنح دينغ هسياو بينغ فرصة لطيّ صفحة الماوية عند إطلاقه إصلاحات اقتصادية، من خلال الإقرار بـ»أخطاء» سلفه. ويتوقّع سيتش أن تكون الوثيقة الثالثة «أقلّ انتقاداً» لماو، إذ إن السلطة الحالية تبتعد عن مبالغات الليبرالية الاقتصادية، مثلما عمَدت في الأشهر الماضية إلى إعادة ترتيب قطاعات مثل العقارات والإنترنت. ويرى أن القرار، بجمْعِه بين الماوية والإصلاحات، «سيُظهِر شي في موقع الوريث الطبيعي لتاريخ الحزب الشيوعي الصيني المجيد».
منذ تولّيه منصبه أميناً عاماً لـ»الحزب الشيوعي»، في عام 2012، حدَّد شي «هدفَيْن مئويَّيْن»: الأوّل، جعل الصين مجتمعاً مزدهراً بحلول عام 2021، أي في الذكرى المئة لتأسيس الحزب؛ والثاني، بناء دولة اشتراكية حديثة بحلول عام 2049، أي بعد مئة عام من تأسيس جمهورية الصين الشعبية. وفي أواخر عام صعوده، عزَّز الرئيس الصيني سلطته السياسية عبر حملة تطهير الحزب من الفساد المستشري، وتهميش الأعداء، بحسب ما ورد في مقال للباحث الأميركي جود بلانشيت، بعنوان «مقامرة شي»، نُشر في مجلّة «فورين أفيرز» في تموز الماضي.
عزَّز الرئيس الصيني سلطته السياسية عبر حملة تطهير الحزب من الفساد المستشري
وعكف شي في مستهلّ رئاسته على «ترويض» التكتلات التجارية الطموحة العاملة في قطاعَي التكنولوجيا والمال، وسحْق المعارضة الداخلية، وتكريس نفوذ الصين على الساحة الدولية. ولأنه أراد التصدّي لكلّ المشاكل دفعةً واحدة، أطلق في العام التالي، 2013، حملةً لمكافحة الفساد والقضاء على التعددية السياسية والأيديولوجيات الليبرالية من الخطاب العام، معلناً عن حزمة جديدة من التوجيهات للحدّ من زيادة أعضاء الحزب، كما أضاف شروطاً أيديولوجية جديدة يجب على الأعضاء الجُدد استيفاءها. وقامت الخطوة التالية في أجندته على ضرورة ترسيخ المصالح الصينية على المسرح الدولي، ما دفعه إلى المسارعة في بدء استصلاح الأراضي في منطقة بحر الصين الجنوبي، وتأسيس منطقة تحديد الدفاع الجوي فوق الحدود المتنازع عليها في بحر الصين الشرقي، والمساعدة في إطلاق بنك التنمية الجديد (بنك متعدّد الأطراف تديره مجموعة دول البريكس: البرازيل، روسيا، الهند، الصين وجنوب أفريقيا)، وأخيراً إماطة اللثام عن «مبادرة الحزام والطريق».
وفيما كان دأب أسلافه قائماً على ضرورة أن تواصل الصين تحيّن اللحظة المواتية، عبر الإشراف على تحقيق نمو اقتصادي سريع، والتوسّع المطّرد في بسط النفوذ من خلال ما يسمّيه بلانشيت «الاندماج التكتيكي في النظام العالمي الحالي»، ظلّ شي يضيق ذرعاً بالوضع الراهن، «على رغم امتلاكه قدرة عالية على تحمُّل المخاطر، وشعوره الواضح بالحاجة الملحّة إلى تحدِّي النظام العالمي». ويرى الكاتب أن حسابات شي «لا تحكمها تطلعاته أو مخاوفه، بقدر ما يحدِّدها جدوله الزمني. فالأمر ببساطة أن الرئيس الصيني جمع من السلطة والنفوذ الكثير، وأحدث اضطراباً في الوضع الراهن بما امتلكه من قوّة؛ لذلك يرى أمامه فرصة ضئيلة متاحة لا تتجاوز 10 إلى 15 سنة يمكن لبكين في خلالها استغلال جملة من التحوّلات التكنولوجية والجيوسياسية المهمّة، التي يمكن أن تساعدها في تجاوز التحديات الداخلية الهائلة». ويعتقد شي بأن تضافر التأثيرات الديموغرافية، والتباطؤ الاقتصادي الهيكلي، وأوجه التقدّم السريع في مجال التكنولوجيا، والتحوّل الملموس في ميزان القوى العالمي بعيداً من الولايات المتحدة – والتي يطلق عليها «تغيّرات جذرية لا نظير لها طوال قرن» – كلها عوامل تتطلّب استجابات فورية وجريئة. على أن شي بحصْره الفرصة المتاحة أمامه في نطاق ضيِّق لا يتجاوز 10 إلى 15 سنة، غرس في النظام السياسي الصيني رؤية واضحة وتصميماً قد يُمكِّنان البلاد من التغلّب على التحديات الداخلية قديمة العهد، وتحقيق مستوى جديد من المكانة المحورية العالمية. وإذا ما قُدِّر له النجاح، فإن الصين ستتبوأ مكانتها كـ»مهندس لعهد جديد من التعددية القطبية»، على حدّ تعبير الكاتب.
(سيرياهوم نيوز-الاخبار)