- بلال خريس
- الجمعة 17 تموز 2020
وكان لوسائل التواصل الاجتماعي الدور الأبرز في إيصال صرخة الناس، بدون قيود أو شروط، مدعومة بصرياً بصور وفيديوات تستطيع توثيق مخالفات أو أحداث بسرعة ودقة فائقتين، حيث لم تعد تستغرق رحلة الفكرة أو المعلومة من المنشأ إلى المتلقي أكثر من ثوانٍ معدودة. كذلك، أتاح هذا التزاوج بين حرية التعبير والتكنولوجيا، إمكانية تهديم صورة الزعيم الأسطورة التي جهد الكثير على بنائها على مرّ الزمن، من خلال تمجيد أنفسهم وإنجازاتهم عبر حملات إعلامية تقليدية ترويجية لماركاتهم. كثيراً ما نرى هذا النوع من الحملات في الأنظمة الديكتاتورية التي تؤلّه الزعيم مستعينة بمنابر أبواق السلطة وطبّاليها ومأجوريها، وتلغي أيّ منافسة قد ينتجها النظام الديمقراطي القائم، وبالتالي تهيّئ الأرضية أمام انتصارات التزكية ونسب الفوز الخرافية.
ما إن تدقّ حرية التعبير ناقوس الخطر حتى ترتبك السلطة وتواجه معضلة وجودية
وما إن تدقّ حرية التعبير ناقوس الخطر، وتهمّ إلى غرز مخالبها وأسنانها في أسلاك القمع الشائكة بعد عقودٍ من الكبت والخنق، حتى ترتبك السلطة وتواجه معضلة وجودية وتشرع في ابتكار أساليب مضادّة غير علنية لتتمترس خلفها. فهي من جهة، لا تريد الانزلاق نحو تهمة قمع الحريات ومخالفة روحية الدستور كي لا تشوّه صورتها «الحضارية» وهويتها الديمقراطية المزعومة والتي تستخدمها لترضي الخارج قبل الداخل، كما أنّها في الوقت نفسه لا تحبّذ تشريع الأبواب أمام الانتقاد، لأنّه يعرّيها أمام الرأي العام ويفضح عوراتها.
تهرع، عندها، السلطة إلى حصاد ما قامت بزرعه على مرّ السنين من نفوذ وهيبة ومال، لتتحصّن في وجه ما تعتبره أصواتاً مشبوهة مؤامراتية ولا أخلاقية، تمسّ القيم وقانونية حرية التعبير. فتلجأ، بدايةً، إلى أساليب القمع الجسدي كاستدعاء ناشطين وترهيبهم بتهم القدح والذم أو التعرّض لمقامات معيّنة، محتمية باجتهادات قانونية، ومستعينة بنفوذ مكّنها من الإمساك بالمرافق المؤسساتية الأساسية كالجهاز القضائي. توازياً، تضخّ السلطة أموالاً طائلة لتجنيد جيوشٍ إلكترونية تفعل فعلها على الشبكة العنكبوتية، لتحجب وتهاجم وتتنمّر على كلّ من يتجرّأ ويعتدي كلامياً أو بصرياً على زعيم أو حزب. ويتوسّع القمع الفكري ليشمل الإعلام التقليدي، فتستثمر السلطة أموالها ونفوذها لـ«تشتري» هواء بعض الإذاعات وتوجّهاتها، مروّجة من خلالها لخطابات ومقابلات تدعو إلى عدم الشتيمة وقدسية المقامات، مشدّدة على وجود خيط رفيع بين حرية التعبير والتعبير اللاأخلاقي أو العنفي الذي لا يجوز تخطّيه. نستذكر كيف عمدت الإدارة الأميركية، أخيراً، إلى استعمال كلّ أنواع البطش وسياسات التشويه للجم غضب الشارع الذي كان يعبّر بكل حرية ضدّ ظلم مستشرٍ ومدقع متجسّد في عنصرية متخلّفة. وقد عشنا في لبنان مسلسلات متكرّرة من القمع الجسدي والفكري ضد شعب جائع مظلوم، ثائر على الفساد والطائفية. في أميركا، تمّ استدعاء مختلف أنواع الأجهزة العسكرية التي لم تتهاون في استعمال أساليب محاربة الإرهاب على شعبها. أما في لبنان، فقد قوبل اللبناني بقمع محكم ومشرعن تخلّله بناء جدران الفصل واستعمال مكافحة الشغب، بما أوتيت فيه من قوة. علماً بأنّ الشعب، في الحالتين، قد يكون تخطّى حدود اللياقة في التعبير، في بعض الأحيان، فعمد إلى العنف اللفظي والحركي. ولكن ألا يجب على الأنظمة الديمقراطية التي تدّعي حماية حرية التعبير أن تتفهّم وتتناقش وتسمع صرخة شعبها؟ أليس من المتوقّع أن يتعرّض الموظّف العام للتوبيخ إذا لزم الأمر، وخصوصاً عندما تضيع مدّخرات الشعب وتنهار العملة الوطنية، أو تشاهد عنصراً من الشرطة يقتل أخاك بالصوت والصورة؟ أليس من الأجدر أن تتّخذ الإدارات خطوات استباقية، ولو شكلية، لاستدراك الأمور قبل تفاقمها؟
تستنتج، حينها، أنّ الديمقراطية مجرّد بدعة وشعار زائف، لا يهدف إلّا إلى تلميع واقع قاتم فرضته سلطة قامعة عدوّها الأول هو الشعب الحر. قد تكون الإدارتان اللبنانية والأميركية، نجحتا في امتصاص فورة الشارع الغاضب، ولكنهما بالتأكيد خلّفتا حقداً دفيناً انزرع في نفوس شعبيهما، ولا بدّ أن يأتي يوم الحصاد.
* باحث لبناني
(سيرياهوم نيوز-الاخبار)