- خالد بركات
- الجمعة 19 تشرين الثاني 2021
منذ أن وَجد الشعب الفلسطيني نفسه أمام هجمة استعمارية تقف خلفها القوى المُنتصرة في الحرب العالميّة الأولى، وتُريد اقتلاعه من وطنه، أسَّست الكيان الصهيوني في فلسطين كقاعدة انطلاق للامبريالية وقوى الاستعمار والهيمنة، ووجد نفسه في «بوز المدفع» يتصدّى لعصابات القتل والإجرام الصهيوني وفي مواجهة معسكر يملك كل أسباب القوّة والسّلاح وتقوده بريطانيا وفرنسا والولايات المتّحدة، أطلق هذا الشعب المناضل الثورة بعد الثورة، والانتفاضة تلو الانتفاضة، واستطاع الحفاظ على وجوده وهويته والبقاء في وسط المعركة، ولم يسمح لكل هذه الأطراف حسم المعركة لصالحها ولم يرفع الراية البيضاء، وفعل ذلك برغم ما تجرّعه من الآلام وما دفعه من تضحيات. فالشعب الفلسطيني يُدرك بالتجربة التاريخية وحسّه العميق أنه يقف في الصف الأول لمعركة وحضارة كبرى وأمة عربية خرجت من تحت عباءة السيطرة العثمانية لتجد نفسها تحت نير استعمار أجنبي واستبداد داخلي ومن طراز جديد.
«ثورة حتى النصر» – 1968، شفيق رضوان (غزّة)
قد يسأل البعض: كيف يقبل الشعب الفلسطيني إذن قيادة صغيرة على شاكلة سلطة الحكم الذاتي ومحمود عباس في رام الله؟ ويصحّ السؤال نفسه أيضاً على كل شعب يقبل بنظامه السياسي اللاشرعي. كيف يقبل الشعب المصري العظيم نظام السيسي؟ وكيف يقبل الشعب اللبناني نظام المحاصصة والطائفية؟
السؤال أعلاه لا يوجّه إلى الشعب، ويحمل قدراً كبيراً من التذاكي والسطحية، فالسلطة الفلسطينية جزء لا يتجزأ من المشروع الصهيوني الاستعماري وأداة من أدوات التصفية والشطب. غير أنه سؤال يوجّه إلى القوى السياسية التي تقدم نفسها بوصفها تيارات المقاومة والتحرّر وحركات معارضة ومغايرة للسلطة ومشروعها، وتريد في برنامجها النظري هزيمة المشروع الصهيوني وتحرير فلسطين من النهر إلى البحر. ثم تستجيب لأول دعوة – أو استدعاء – يصدر عن رئيس السلطة الفاسدة وتركض إلى ما يسمى «اللقاءت الثنائية» و «جولات المصالحة» الكاذبة!
قصّة الشعب الفلسطيني مع القيادة الصغيرة، قصة قديمة عُمرها 100 سنة على الأقل. ولم تبدأ مع هذه الشريحة المهزومة في رام الله. إنها في الواقع أبعد وأعمق، ومسألة تتصل بالاستعمار نفسه وبالثقافة والتعليم وموازين القوى المحليّة والطبقات والأحزاب، وقبل كل شيء في التناقض الداخلي وجوهره الطبقي الاجتماعي. ولا تبتعد عن التحالفات والقوى الخارجية التي لها صلة مباشرة في تعزيز ودعم معكسر على حساب معسكر آخر.
السؤال: أيّ طبقات وشرائح تقرّر وتحدّد مسار القضية؟ أي قوى تملك القرار السياسي وترسم اتجاهات حركته الوطنية؟ وجوهر التناقض، ليس بين «شعب» و «قيادة» بل بين طبقات شعبية فلسطينيّة مُفقرة وطبقة أخرى مهيمنة ارتبطت مصالحها مع المستعمر ومستعدة أن تأخذ الـ 99% من الشعب من كارثة إلى كارثة أكبر حتى تحافظ على امتيازاتها الطبقية وقصورها ومصالحها. مرة أخرى، لو سأل أي مواطن عربي/ة هذا السؤال لنفسه وتأمّله في واقعه المحلّي الوطني سيجد الجواب واضحاً أمامه.
فالقيادات والزعامات الفلسطينية تمثّل الشرائح الطبقية التي سيطرتْ منذ قرنٍ تقريباً على قيادة المجتمع والشعب والثورة، وأسّست الهيئة العربيّة العليا، وهيمنت على منظّمة التحرير ومؤسسات وأجهزة السلطة. هذه الشرائح لها تعريفاتٌ ورموزٌ تتبدّل في كلّ مرحلة. لا غرابة أن تكون للعائلات ذاتِها تقريباً، ولكنّ أداءها يتغيّر في الشكل مع تغيّر أنماط الإنتاج، ومع تغيّر علاقتِها بالمستعمِر الأجنبيّ وأنظمةِ الوصاية الرجعيّة ثمّ الاحتلال الصهيونيّ، ولكنها في كلّ الحالات تحتلّ الموقعَ المركزيَّ المُقرِّرَ ذاتَه.
الكتلة الفلسطينيّة الشعبيّة الكبيرة التي أشعلت الانتفاضة، لا تفتّش عن «دولة» بل تناضل من أجل العودة وتحرير الأرض والحقوق والأملاك المنهوبة
هذه الأقلية الحاكمة للقرار السياسي تصل بنا، بعد كلّ مرحلةٍ أو معركةٍ أو ثورةٍ أو انتفاضة، إلى كارثة كبرى. لقد حدث هذا على يد الباشوات وبقايا الإقطاع الفلسطينيّ واللبناني وكبارِ المُلّاك والتجّار التي شاركتْ في إجهاض ثورة 1936 ــــ 1939. وحدث الأمرُ ذاته عام 1947، وفي مراحلَ لاحقة، وصولاً إلى إجهاض مسيرة الانتفاضة الكبرى (1987 ــــ 1993) والانتفاضة الشعبية المسلحة (2000 ــــ 2005). وما دامت هذه الأقليّة الطبقية، من أصحاب المال والنفوذ، وهي لا تتجاوز بضعة مئات، تُقصي وتقمع الأكثريّةَ الشعبيّةَ الفلسطينيّة، وتقبض على مفاتيح القرار السياسيّ الفلسطينيّ، فسيظلّ شعبُنا يحصد المزيدَ من الخيبات. وليس الحل في استبدال أشخاص بأشخاص آخرين بل الحل في هيمنة نهج آخر ونقيض، وتسيّد مشروع سياسي اقتصادي ثقافي بديل.
لقد خسرت الأكثريّةُ الشعبّية الفلسطينيّة كلَّ شيء تقريباً، بما في ذلك موقعُها «الطبيعيّ» في «الثورة» ومنظّمةِ التحرير و«المشروعِ الوطنيّ الفلسطينيّ»، لصالح طبقة الرساميل الكبيرة التي سيطرتْ على كلّ شيء. وإذا كانت الطبقاتُ الشعبية هي التي وَضعتْ مداميكَ الثورة ومنظّمة التحرير، ولا تزال تدفع كل الثمن فإنّها تجد نفسَها اليوم على قارعة الطريق! نعم، إنّ هذه الطبقات المناضلة والكادحة في فلسطين المحتلّة والشتات، من عمّالٍ وفلّاحين وصيّادين ومعلّمين ومحامين ومهندسين وطلبةٍ وحِرَفيّين وأصحابِ مصانع وورشٍ ومشاريعَ وطنيّةٍ صغيرة، هي التي حملتْ كلّ أعباء الثورة والانتفاضة والعمل المسلّح. وهي الخصم التاريخيّ لسكّان القصور الفارهة، وللكيان الصهيونيّ. خصوصاً في المخيّمات، صاحبةَ المصلحة الأساسيّة في إنجاز مشروعها الوطنيّ: العودة والتحرير .
هذه الكتلة الفلسطينيّة الشعبيّة الكبيرة التي أشعلت الثورةَ – الانتفاضة- الهبة – لا تفتّش عن «دولةٍ» بل تناضل من أجل العودة وتحرير الأرض والحقوق والأملاك المنهوبة. فكيف لطبقاتٍ وتجمّعاتٍ فقيرةٍ وفئاتٍ مهمّشةٍ بلا سلاح أن تكون قادرةً على استئناف الثورة المغدورة؟ هل يمكن أن يعود غسان كنفاني قبل أن تهزم أولاً مشروع أبو الخيزران؟
غياب الإستراتيجيّة السياسيّة البديلة لحركة المقاومة الفلسطينيّة، التي من المفترض أن تعبّر عن طموحات وأهداف الشعب، مَبعثُه غيابُ الحوار الداخلي من جهة، وهيمنةُ طبقة فلسطينيّة تضع الكوابحَ والعراقيلَ أمام المشاركة الشعبيّة الفلسطينيّة وتعيق ولادة وبناء جبهة وطنية موحّدة للعودة والتحرير. تحرم شعبنا من المشاركة في صنع القرار السياسيّ والخيارات الوطنيّة البديلة. رأينا نتيجة «الديمقراطية» تحت حراب الاحتلال في انتخابات فازت فيها حركة حماس فتعرّض كل الشعب في غزة إلى الحصار وخمس حروب.
ولو افترضنا أن الشعب الفلسطيني قرّر استبدال قيادته وانتخاب أخرى فهل يمكنه فعل ذلك بعد أن صادروا منه كل آليات التغيير وهمّشوا المؤسسات الوطنية التي تحولت إلى مزرعة خاصة يحدّد قرارها ومصيرها حفنة من الفاسدين ورموز التنسيق الأمني مع العدو؟
نحن إزاء سياسةٍ إقصاء منهجيّةٍ يحترفها كهنة أوسلو، تعبر عنها سلطة فاسدة لا تحرم شعبَنا حقَّه في المشاركة وحسب، بل تدفعه دفعاً أيضاً إلى الاغتراب عن وطنه وتخلعه عن قضيّته، وإنِ استدعتْه للاحتفال بعيد الاستقلال!
والحال أنّه من دون الدعوة إلى المشاركة الشعبيّة الحقيقيّة ومن دون فتحِ الباب واسعاً أمام شعبنا في المخيمات وكتلٍ وتيّاراتٍ ونُخبٍ ثقافيّة وجمعيّاتٍ أهليّة وشخصيّات وازنة تشارك في عملية النضال الوطنيّ وإعادة إطلاق المشروع السياسي لحركة المقاومة الفلسطينيّة، بحيث يكون للجيل الشابّ والمرأةِ الفلسطينية دورُ القائد الأساس والعمود الفقريّ فيها؛ من دون ذلك كلّه سيتعذّر على شعبنا اكتشافُ طاقته الكامنة والإقلاعُ نحو فجر جديد.
تحقيق هذا الهدف أعلاه يشترط أن تعي الأكثريّة الشعبية وقوى المقاومة دورَها التاريخيّ الحاسم في الثورة وحركة التغيير الاجتماعيّ. هذا الدور لا يقتصر على هزيمة مشروع التصفية الصهيونيّ الأميركيّ الرجعيّ فحسب، بل سيعني أيضاً دحرَ مشروع الأقليّة الفلسطينيّة ومشروع الحكم الذاتي أيضاً. والانتقالَ إلى زمن الثورة وحركة التغيير الشاملة بقيادة الطبقات الشعبيّة التي لا تحتاج إلى «أب» و«زعيم» و«مختار» و«ختيار» و«قائد» بقدر ما تحتاج إلى تحرير وعيها وإرادتها وصناعة رؤية ثورية واضحة ومسار ثوري بديل
* كاتب فلسطيني
(سيرياهوم نيوز-الاخبار)