رامي الشاعر
لقد سعى مجلس سوريا الديمقراطية “مسد” دائماً إلى التوصل لتفاهم وتعاون وتنسيق مع القيادة في دمشق بشأن محاربة التنظيمات الإرهابية بالدرجة الأولى، وكذلك كيفية المساهمة المشتركة في تأمين متطلبات الحياة اليومية للشعب السوري المتواجد في مناطق شمال سوريا. وبذلك هذه الجهود من قبل “مسد” حتى قبل التدخل العسكري الأمريكي، كما جرت بالتوازي لقاءات مع الجانب الروسي للمساهمة في الوساطة مع سلطات دمشق لقبول التعاون بينهما وتأمين احتياجاتهم الخاصة، وتحديداً فيما يخص المعدات والتسليح العسكري. وبالفعل قدمت دمشق كمية من الأسلحة الخفيفة، وإن كانت محدودة جداً، وكانت تدفع رواتب العاملين في مؤسسات الدولة السورية، التي كانت لا تزال تعمل حتى ذلك الحين.
لكن التدخل الأمريكي في شمال شرقي سوريا تسبب في وقف كل المساعدات التي كانت تقدمها دمشق لتلك المناطق، وهو ما يعني عملياً أن دمشق اضطرت في تلك المرحلة إلى سحب تشكيلاتها العسكرية من الشمال الشرقي، لتعزيز مواجهاتها مع التنظيمات الإرهابية بالقرب من العاصمة دمشق، ومناطق الساحل. حينها طلب “مسد” لقاءً مع موسكو، وأثناء هذا اللقاء، الذي عُقد في جنيف، طلب المجلس أن تقوم موسكو بتزويدهم بالاحتياجات العسكرية بغرض مواصلتهم حرب التنظيمات الإرهابية، التي دفعت قوات سوريا الديمقراطية “قسد” في دفاعها عن الأرض ضد تنظيم “داعش” الإرهابي حينها زهاء 2000 شهيد من خيرة أبنائها.
كان رد موسكو واضحاً بأن قضايا السلاح لا يمكن أن تتم سوى عن طريق الممثل الشرعي للدولة السورية في دمشق، وهو أمر يتعلق بالتزام روسيا بكافة المعاهدات والمواثيق ومواد القانون الدولي التي تقضي باحترام سيادة الدول ووحدة الأراضي. حينها تم إبلاغ “مسد” بأن موسكو مستعدة لتقديم مثل هذه المساعدات، حال الاتفاق بينهم وبين دمشق، حيث قامت موسكو بدور الوسيط، والتقى عدد من قيادات “مسد” بالمسؤولين في دمشق، إلا أن هذه اللقاءات، مع شديد الأسف، لم تثمر عن أي نتائج إيجابية.
مع مرور الزمن، واحتداد المعارك مع الإرهابيين، وتداعيات تلك المواجهات من خسائر بشرية ومادية، أعلنت قيادات “مسد” أن الجانب الأمريكي عرض مساعدات عسكرية، لم يعد في مقدور “مسد” رفضها، نظراً لصعوبة الموقف، وكانت قيادات “مسد”، والحق يقال، صريحة وواضحة في هذا الشأن مع روسيا.
بعد أن تم القضاء على الإرهابيين بشكل شبه تام، وبعد أن بلغ عدد الضحايا من “قسد” ما لا يقل عن 7000 شهيد، وتم الاتفاق على نظام التهدئة ووقف إطلاق النار، جرت عدة اتصالات مع موسكو، أكّد “مسد” خلالها دائماً على ضرورة المشاركة في عملية المسار السياسي، وأعلن عن رغبته المشاركة في أعمال اللجنة الدستورية، مؤكداً على حقوق الأكراد كأحد مكونات الشعب السوري، وفي الوقت نفسه أشار إلى أهمية الحفاظ على وحدة الأراضي، والسيادة السورية على كامل التراب السوري، ورفضه لأي مشاريع انفصالية. بالطبع ما يهم “مسد” و”قسد” بالدرجة الأولى أن يتم التعديل الدستوري، بحيث يضمن حقوق الأكراد، ويؤمّن مشاركتهم في جميع مؤسسات الدولة، بما في ذلك في قطاعات الجيش والأمن وحرس الحدود والجمارك في إطار الإدارة الذاتية التي يسعون إليها في مناطق تواجدهم.
وتجري قيادات “قسد” اتصالات أيضاً مع مركز حميميم للتنسيق اليومي فيما يخص الجانب العسكري، أما قضية مشاركتهم في المؤسسات السيادية وغيرها فذلك شأن سوري يُحسم في إطار الدولة السورية الموحّدة، من خلال الحوار بين قيادات “مسد” والقيادة في دمشق.
يعتقد البعض ويصر، بحسن نية أحياناً، وبسوء نية أحياناً أخرى، أن روسيا إنما تدخلت عسكرياً في سوريا لتقف إلى جانب النظام في دمشق، ولإنقاذه بعد أن أصبح على حافة الانهيار. ويحمّل هؤلاء روسيا مسؤولية الإجرام بحق الشعب السوري، وقد واجهت مثل هذه الأسئلة مراراً وتكراراً. إلا أنني أود التوضيح بهذا الصدد أن الأزمة السورية قد بدأت عام 2011، ولم تتدخل روسيا سوى في عام 2015، بعد أن حوصرت دمشق وعدد من المناطق والمدن الأخرى لا من قبل المعارضة السورية، وإنما من قبل “داعش” وأخواتها من التنظيمات الإرهابية المصنفة دولياً “إرهابية”، وبعد أن كان الجيش العربي السوري قد قدّم حوالي 70 ألف شهيد يمثلون عامة الشعب السوري في حرب هذا الجيش مع التنظيمات الإرهابية، وبعد أن كانت كل المعطيات العسكرية تشير إلى أن دمشق كانت سوف تدمّر، إضافة إلى مقتل ما يربو على مليون مواطن من السكان المدنيين. في تلك الظروف الصعبة، كانت المهمة الرئيسية لروسيا الحفاظ على الدولة السورية وما تبقى من مؤسساتها ومدنها. ولم تكن المهمة أبداً الوقوف ضد الغرب، الذي وضع هدفاً له التخلص من النظام، وإحلال الديمقراطية في سوريا.
وعلى الرغم من أن الحديث بصيغة “لو” لا جدوى ولا طائل منه، إلا أن السؤال الملح الذي يطرحه المنطق بهذا الصدد: عن أي مسعى غربي “ديمقراطي”، وعن أي “حرية” يمكن الحديث، حينما كانت دمشق على بعد أيام، وربما ساعات، من سيطرة تنظيم “داعش” الإرهابي عليها وعلى مفاصل الدولة السورية، وهو ما كان سيروح ضحيته ما لا يقل عن مليون مواطن، معظمهم من الأبرياء. عن أي “حرية” وأي “ديمقراطية” كانت تدور خيالات وأوهام البعض في ظل من وقفوا أمام الكاميرات ينحرون الرقاب، ويبقرون البطون، بل ويستخرجون أعضاء من جثث القتلى يأكلونها على مرأى ومسمع من الكاميرات، وباستخدام أحدث وسائل التصوير. هل نسي هؤلاء معاذ الكساسبة، وهل نسوا مشهد قفص بعض الضحايا ممن كانت “داعش” وأخواتها يغمرونهم في المياه ويتلذذون بمشهد غرقهم، وهل نسوا مشاهد القتل بعرض الوطن العربي وطوله في ليبيا والعراق؟ هل كان هؤلاء يظنون، بعد تجربة طالبان، التي لا زلنا نعيش فصولاً منها حتى يومنا هذا، أن دمشق تحت حكم “داعش” سوف تكون مختلفة؟ هل كانوا يظنون أن الولايات المتحدة والغرب قد “يروّضون” التنظيمات الإرهابية بعد أن يصلوا إلى الحكم؟ أو ربما كانوا يظنّون أن هؤلاء سيجرون “انتخابات نزيهة” تحت إشراف هيئة الأمم المتحدة؟
لقد حطّم تنظيم “داعش” تراث البشرية، وأطلق تعبير “الأصنام” و”الأوثان” على أرقى ما عرفته الإنسانية من حضارة راسخة قاومت الزمن وعوامل التعرية لآلاف السنين، حطمت تلك التنظيمات والعصابات الإرهابية مدناً بأسرها، بكل ما تحمل من تاريخ وديانات وطوائف، حطمت الحجر وقتلت البشر، وحينما تدخلت القوات الروسية لحماية البشرية وليس سوريا وحدها، قامت الحملات الإلكترونية على وسائل التواصل الاجتماعي ولم تقعد، وانتفضت وسائل الإعلام الغربية لتصدّر الصور والفيديوهات، دون أن يسأل أحدهم، ماذا لو أصابت تلك الجرثومة بقية العالم.. هل كانوا يواصلون الدفاع عن “حرية القتل” و”حرية الإرهاب”.
لقد ساعد الاتحاد السوفيتي أوروبا وحررها من النازية، تماماً كما دافعت روسيا عن تراث البشرية في سوريا، ودافعت لا عن المنطقة، وعن سوريا، وإنما عن الإنسانية جمعاء بمكافحتها الإرهاب، والتنظيمات الإرهابية المصنفة دولياً بالإرهابية.
يختلف الوضع بين الشمال الشرقي والغربي وجنوب سوريا. حيث لا يوجد تواجد عسكري غير رسمي هناك، وحتى التواجد الإيراني فهو وجود رسمي بطلب من الحكومة السورية الشرعية، والشرطة العسكرية الروسية وتواجدها في تلك المناطق هو أمر لا يخالف القوانين الدولية نهائياً، ويندرج تحت بند طلب المساعدة العسكرية من دولة صديقة، بغض النظر عما يزعمه البعض، ويروجون له. فالضوابط والمعايير الدولية المعتمدة من قبل هيئة الأمم المتحدة هي الضوابط والمعايير التي تلتزم بها روسيا، بصرف النظر عن القيل والقال هنا وهناك.
من هنا جاء التنسيق مع دمشق للتوصل إلى اتفاق مع المسلحين في الجنوب، نظراً لأن دمشق تتمتع بعلاقات واتصالات مع كل من روسيا وإيران، وهو ما أسهم في تفادي حدوث صدام عسكري في الجنوب، والتوصل إلى اتفاق يحول دون حدوث ذلك. أما الشمال السوري فالوضع أعقد بكثير، ولن يتم التوصل إلى اتفاق سوى من خلال بدء العملية السياسية السورية، والتوصل إلى اتفاق سوري سوري، تحاول واشنطن حتى اللحظة إعاقته، وتقاطع جميع محاولات روسيا ومجموعة أستانا، والتي كان أهمها مؤتمر سوتشي للحوار السوري السوري، وكذلك تمثيل الولايات المتحدة الأمريكية الضعيف والشكلي في جميع لقاءات أستانا أو جنيف، وهو ما يدعو للأسف حقيقة.
لقد وعدت الإدارة الأمريكية الجديدة بالعمل الجدي جنباً إلى جنب مع موسكو للسير في تنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 2254، إلا أننا لا زلنا لا نشعر بجدية على مستوى الاختصاصيين، بينما تخالف الولايات المتحدة الأمريكية ذلك القرار، الذي ينص صراحة على إدارة حوار بين الطرفين: النظام والمعارضة. وواشنطن لا تعترف بالنظام، وتفرض عقوبات عليه من خلال قانون “قيصر” المجحف بحق الشعب السوري، وتقيّد كل ما يمكن أن يساعد سوريا على الخروج من أزمتها الإنسانية الخانقة، وهو ما ينعكس سلباً على الشعب السوري، ويمثّل عقاباً جماعياً لا لسوريا وحدها، وإنما إلى لبنان بالتبعية. فالولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل تحاربان إيران، ولا يهمها بأي حال مصير الشعوب.
تتمتع روسيا بعلاقات وطيدة مع تركيا، يسعى الطرفان إلى تطويرها في كافة المجالات، ولا يمكن بأي شكل من الأشكال أن يحدث خلاف جذري يمكن أن ينعكس على نحو سلبي على مسار تطوير تلك العلاقات. والأمثلة على ذلك كثيرة، أذكر منها، على سبيل المثال لا الحصر، اللقاء الذي جرى بين بوتين وأردوغان عام 2019، والذي حال دون أن تقوم عملية عسكرية تركية ضد “مسد” و”قسد”. بالإضافة إلى أن أي إشكال يمكن أن يعكّر صفو العلاقات، فإن آلية تصفية الأجواء بين الدولتين، والاتصال المباشر على مستوى المسؤولين المتخصصين والمعنيين، يسهم في تفادي أي تصدعات في هذه العلاقة. ولا ننسى أن إسقاط المقاتلة الروسية في الأجواء السورية، وقتل الطيار، وكذلك اغتيال السفير الروسي، وتلك أمور كان من الممكن جداً أن تقطع العلاقات بين البلدين للأبد، إلا أن قنوات الاتصال الدبلوماسية، والمسؤولية الرفيعة التي تتمتع بها القيادة السياسية في الدولتين، لا تسمح بمراهنة الأعداء على إحداث شرخ في هذه العلاقة. فتبقى تلك الرهانات الخاسرة مجرد محاولات بائسة، لا تؤثر في علاقات متينة تقوم بالأساس على المنفعة المشتركة، وتأمين أجواء الاستقرار والأمن، وعدم التورط في خلافات وتوترات استراتيجية مع الناتو. وهو ما بدأت غالبية دول المنطقة في استيعابه، وبدأت في فهم إمكانية وأهمية دور الوسيط الذي يمكن أن تلعبه روسيا في التوصل إلى حل للقضية الكردية، بتأييد حقوق الأكراد والعمل على إقناع الجانب التركي بذلك، حيث تقف روسيا اليوم كصمام أمان لتفادي حدوث أي صدام محتمل في شمال شرق سوريا.
فيما يخص إسرائيل، توجه روسيا انتقاداتها للمسؤولين الإسرائيليين لمخالفتهم القانون الدولي وتعديهم على السيادة السورية، وتعتبر ذلك أمراً غير مقبول، ولا يمكن تبريره بأي من الذرائع الواهية التي تسوقها إسرائيل، من التوسع الإيراني، أو تغلغل حزب الله وخلافه. في الفترة الأخيرة، أصبحت وزارة الدفاع الروسية تصدر بيانات بشكل علني ضد عمليات القصف الإسرائيلي على أي مواقع داخل الأراضي السورية. وبالمناسبة، فقد قامت روسيا بدور الوسيط، ووافقت إيران على سحب تواجد أي ميليشيات أو حتى مستشارين أو اختصاصيين إيرانيين من الحدود مع الجولان لمسافة تبعد أكثر من 70 كلم. إلا أن إسرائيل واصلت عمليات القصف، وهو ما دفع الإيرانيين بدورهم إلى عدم الالتزام بتعهداتهم رداً على عدم التزام الجانب الإسرائيلي بتعهداته. بل نقلت إيران بعض منظومات الدفاع الجوي على مقربة من الحدود مع إسرائيل، وهو ما يعني أن إسرائيل قد تتعرض قريباً لجزاء انتهاكاتها، والرد على عدوانها.
إن إيران، وأقولها للمرة الأولى، تعتبر تعزيز مواقعها في سوريا ولبنان مرتبط بمواجهة الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، وإحباط مخططاتهما ضد إيران، ومشاريعها في استخدام الطاقة النووية السلمية، وضد تطبيع العلاقات مع دول المنطقة، بينما تعتبر إيران تلك الجبهات في سوريا أو لبنان خطوط أمامية للدفاع عن نفسها وعن أمنها القومي.
سيرياهوم نيوز 6 – رأي اليوم