*ميرفت أحمد علي
تكادُ ثقافةُ (التشكيك) الكورونيَّة، التي تفشَّت مؤخَّراً في أروقةِ حياتِنا الإبداعية، أن تُبليَ بلاءً أفدحَ ممَّا يُبليهِ الفايروس على المستوى البيولوجيِّ الحيويّ. فما أنْ يتحصَّلَ مبدعٌ سوريٌّ على موقعِ صدارةٍ في ميدانٍ تنافسيٍّ عربيٍّ أو إقليميٍّ و ربما دوليّ، حتى تحاصرهُ دالَّاتُ الاستفهامِ و التعجُّبِ و علاماتُ التنصيصِ؛ فيجدُ نفسهُ موقوفاً بجُنحٍ جادتْ قريحةُ بعضِ الزملاءِ في تلفيقِها، و مطلوباً للعدالةِ المسلكيَّةِ و ربما الوطنية، و قد أسَّستْ لها و فخَّختْ تُربَتها أوهامُ الحاسدينَ و الغامزينَ من قناةِ الشهرةِ و مستحقّيها، ما يجعلُ المبدعَ الرياديَّ محطَّ شُبهةٍ متجدّدةٍ مع كلِّ مُنجزٍ أدبيٍّ وصلَ ليلهُ بنهارهِ، و أضاحيهِ بأماسيهِ لإتمامهِ، ضَنيناً على نفسهِ بفُسحِ الراحةِ و الاستجمامِ لإشهارهِ بحُلَّةٍ أنيقةٍ تُبوِّئهُ الصدارةَ في المنافساتِ الأدبيةِ، البابِ الأوسعِ لتكريسِ جماهيريَّةِ الأدبِ، و لمنحِ ناجزهِ صكَّ الاعترافِ بهِ مُبدعاً تعميميَّاً، و نموذجاً يُؤتسى بهِ في ميدانهِ. و معَ جائحةِ (الإفلاس الإبداعي) و التقزُّم الثقافي التي واكبتِ الأزمةَ المعيشيةَ بشقِّها الاقتصاديِّ على نحوٍ خاص، تعطّلت ـــ إلى حدٍ ما ــــ عجلةُ الإنجازِ عندَ بعضِ المبدعين، بدلَ أن يحفّزهم الواقعُ الكارثيُّ المشهودُ على استنهاضِ الفكرِ، و إطلاقِ صريرِ القلم كيما يجتذبَ القارئَ، و يطلقَ أزمَّةَ المشاعرِ المُحتبسةِ لديه، فيفعلُ الإبداعُ فِعلهُ في التثويرِ و في إثباتِ الموجوديَّةِ و الفاعليَّة؛ فأجودُ الآدابِ ما عايشَ عثراتِ الأممِ و كَبواتها، و ما أيقظَ شهيَّة التلقِّي و التداولِ عندَ شعوبها.
أمَّا أنْ يدفعَ عاملُ الغيرةِ ببعضِ كتَّابِ اليومِ إلى إطلاقِ حملاتِ تشكيكٍ تعسُّفيةٍ بحقِّ زملائهم و أبناءِ قرابةِ القلم؛ لتصدُّرهم لوائحَ الشرفِ في تلكَ المسابقةِ الأدبيةِ أو هاتيكَ..فهذا ما لم نعهدْهُ عن الكاتبِ السوريّ.. و هوَ ــــ للأمانةِ ـــ كاتبٌ مُنافسٌ، و مقاتلٌ شرسٌ في معتركِ الحرفِ و سبَّاقٌ في مضاميرهِ، بل فارسُ كلمةٍ و فكرٍ لا يُشقُّ لهُ غبار. و مع الأسفِ، فإنَّ هذا التشكيكَ بالأحقّيةِ الرياديَّةِ الأدبيَّة يمتدُّ ليطالَ وطنيةَ بعضِ الزملاءِ، و يُلمحُ إلى تغريدِهم خارجَ السّربِ، أو إلى أنّهم يتوسَّلونَ السَّرقاتِ الأدبيَّةَ مطيَّةً لبلوغِ بعضِ الجوائز، أو إلى أنَّ عبقريَّاً فذَّاً (يتوارى) خلفَ كتاباتِ هذا، أو ذاكَ، أو ذيَّاكَ، أو تلكَ، أو هاتيكَ..دونَ بيِّنةِ حقٍّ. فهذا و مايشاكلُهُ من ضروبِ التهوُّرِ في السلوكِ، و إعمالِ سلاطةِ اللسانِ ما هو إلا صيدٌ في المسنتقعاتِ الآسنةِ، الملغومةِ بالضغينةِ و بالحسدِ، و هي لعبةُ أطفالٍ باتتْ مكشوفةً لكلِّ ذي لُبٍّ، و تعكسُ فداحةَ الشَّرخِ و التصدُّعِ في البيتِ الثقافيِّ، و في أخلاقِ و قيَمِ شاغليهِ و عامريه. و قد يتساءلُ سائلٌ: و هل (التشكيكُ) ثقافةٌ؟ فأجيبُ: يرى المفكِّرُ (زكي نجيب محمود) أنَّ الثقافةَ ممارسةٌ و ليستْ تنظيراً، فنحنُ نعيشُ ثقافتَنا في كلِّ تفصيلاتِ حياتِنا اليوميَّةِ ..الزواج، الأكل، العمل…ما يعني صنوفَ السلوكِ البشريِّ برمَّتها. و أزعُمُ أنَّ المثقفَ الحقَّ هو من اتَّخذَ من الفعلِ الثقافيِّ روتيناً يومياً و فِعلاً حيويّاً، يتنفّسهُ، يستنشقهُ، يمضغهُ، يهضمهُ، و بمعنى آخرَ يزاولهُ كروتينٍ؛ فلمَ لا يكونُ إطلاقُ الأحكامِ من هذا المأتى ثقافةً؟ ألَا، فلتكُنْ ثقافتُنا ــــ كمُبدعينَ أقلُّه ــــ تصبُّ في رصيدِنا البنكيِّ الجماليِّ، في صالحِ ما تخطُّ أقلامُنا، و ما تجودُ بهِ قرائحُنا، و ما يترجمُ لغةَ مواجدِنا، و يفكُّ شيفراتِ التواصلِ الماتعِ معَ القارئ ..لتكنْ ثقافتُنا ثقافةَ الإنجازِ لا التَّقاعسِ، و النَّأيِ باللسانِ و بالنَّوايا و بالأحكامِ عن التجريحِ و التشكيك، ثقافةَ نزعِ لا زرعِ ألغامِ التنافسِ غيرِ النظيفِ. و استريحُوا، و أريحُوا؛ يرعاكُمُ الله.
(سيرياهوم نيوز30-11-2021)