- حسين إبراهيم
- الجمعة 3 كانون الأول 2021
منذ تأسيسها قبل خمسين عاماً، لا تزال الإمارات تعيش قلقاً دائماً على مصيرها. فليس سهلاً على دولة فتيّة مُكوّنة من سبع إمارات كانت متحاربة، ثمّ أصبحت مهادِنة، ثم متّحدة، تحت عين الاستعمار البريطاني الذي غادرها لاحقاً، أن تطمئنّ إلى تماسكها واستمرارها في مثل هذه المنطقة المضطربة التي كادت دول كبيرة وراسخة فيها تفقد أجزاء منها قبل وقت ليس ببعيد، كما حصل عند إقامة خلافة «داعش» على أجزاء من العراق وسورياليست الظروف عند تأسيس دولة الإمارات في الثاني من كانون الأول 1971، مماثلةً لما هي عليه اليوم. وليس حُكم المؤسّس زايد بن سلطان آل نهيان، مشابهاً لحُكم ابنه محمد الذي يتولّى إدارة الدولة فعلياً، والمُعَدّ أميركياً منذ زمن طويل لهذه المهمّة، حتى قبل وفاة المؤسّس، وإن في الظلّ، خلْف أخيه غير الشقيق خليفة الذي أقعدته جلطة دماغية عام 2014. فأبناء زايد الستّة من زوجته الثالثة فاطمة الكتبي، يهيمنون على الحُكم فعلياً عبر إمساكهم بالمفاصل الأساسية للدولة، وهم إضافة إلى محمد، حمدان وهزاع ومنصور وطحنون وعبد الله. قامت الدولة على معادلة ثبّتها زايد، وهي أن الإمارات السبع، مهما تصارعت في الماضي، لا بديل أمامها إلّا الاتحاد، لأن لا فرصة لأيّ منها للنجاة بغير ذلك. لكن هذا الواقع لم يُعفِ زايد من الحاجة إلى توظيف كلّ مهاراته للحفاظ على لُحمتها، على رغم أنه ما كان ليستطيع أن يفعل لولا النفط، وهو سلاح أبو ظبي الرئيس، حتى اليوم، لإخضاع الإمارات الأخرى، وخاصة دبي، نظراً إلى التنافس التاريخي بين آل نهيان وآل مكتوم. فاحتياط دبي النفطي، مثلاً، لا يساوي أكثر من خمسة في المئة من احتياط أبو ظبي. ولذا، منحت الأخيرة الأولى عشرة مليارات دولار لإنقاذ اقتصادها بعد أزمة 2008 الاقتصادية العالمية.
كذلك، حرص رئيس الدولة الراحل على علاقات جيّدة بالجوار الخليجي، على رغم الخلافات الضاربة في التاريخ على الحدود والموارد. إذ استضاف قمّة تأسيس «مجلس التعاون الخليجي» عام 1981. كما انتهج سياسة عربية ودولية متناسقة، ترتكز على إيلاء اهتمام رسمي خاص لفلسطين، سابِقاً السعودية إلى فرض حظر نفطي على الغرب خلال حرب تشرين الأول 1973، وإن علم أن رعاية الغرب لسلطته تتضارب مع هذه السياسة، وأنه سيكون عليه في اللحظات الحرجة اختيار مصلحة النظام، وهو ما فعله في مناسبات كثيرة، منها حروب الخليج والبوسنة وكوسوفو وأفغانستان. وهكذا، فإن العلاقة مع الغرب ظلّت دائماً محدّداً رئيساً، منذ تأسيس النظام حين استعان زايد بالدعم البريطاني في 1966 للإطاحة بشقيقه الأكبر شخبوط الذي حَكم أبو ظبي 38 عاماً، ثمّ في مفاوضات الاتحاد بين الإمارات، التي جرت وفق قوانين وضعتها بريطانيا.
لكن الفارق الأساسي بين زايد وابنه، يبقى شخصياً؛ فالأوّل يبدو للإماراتيّين وكأنه نبَعَ من الأرض، بينما الثاني يحاول أن يظهر بمظهر مَن يكمل مسيرة الأوّل، لحاجته إلى شرعيّته كحاكم لأبو ظبي، والتي استمدّها من رضى قبلي واسع بحُكمه قبل قيام الدولة، ثمّ مصلحةٍ مثّلها النظام الوحدوي للإمارات الأخرى بعد تأسيس الاتّحاد، إلّا أن الابن يفعل العكس، أو على الأصحّ يصل إلى نتيجة معاكسة تماماً. ففي أيام زايد، ظلّت الإمارات نسبياً خارج الصراعات العربية، وكان هذا عاملاً حاسماً في تطوّرها اقتصادياً. ثمّ تَغيّر كلّ شيء فجأة بعد «الربيع العربي»، وصعود الإسلام السياسي لملء الفراغ الذي أحدثه سقوط عدد من الحكّام العرب، ثمّ تزايُد نفوذ إيران، عندما حقّق محور المقاومة تقدّماً كبيراً ضدّ ما استهدفه من ذلك «الربيع»، من خلال هزيمة تنظيم «داعش» في سوريا والعراق، وكسْر المعارضات السورية المسلّحة بأطيافها كافة، والوقوف إلى جانب اليمن في تصدّيه للعدوان السعودي – الإماراتي – الغربي.
المنبع الحقيقي لسياسة ابن زايد هو الخوف، ليس من الإسلام السياسي ولا من إيران فقط، بل من كلّ الآخرين
ما ورثه ابن زايد عن أبيه وطَبّقه بأمانة، هو العداء للإسلام السياسي، وخاصة لجماعة «الإخوان المسلمين». هذا العداء بنيوي في النظام، وإقصائي لا يحتمل أنصاف الحلول، باعتبار أن زايد ورث عن أجداده الحُكم بفعل انتمائه القبلي، بينما الجماعة تدعو إلى ممارسة السياسة على أساس ديني، ما يلغي عملياً أيّ ميزة للانتماء القبلي. الكثير من إسلاميّي الإمارات ينتمون إلى حركة «الإصلاح» الإخوانية، وهي منظّمة تأسّست في سبعينيات القرن الماضي، وكان من بين أعضائها الآلاف من المقيمين الأجانب، وخاصة المصريين، ممّن وصلوا إلى الدولة لسَدّ حاجتها إلى موظّفين وعمّال وأساتذة. في البداية، قبلت العائلات الحاكمة بوجود «الإصلاح» بوصفها حركة دعوية لا سياسية، لكن مع تَحوُّل وزارتَي التربية والعدل إلى معقلَين للإسلاميّين، سرى القلق في دوائر الحُكم. وقام أبناء زايد، بقيادة محمد، بحملة «تطهير» للدولة من الموظفين الإسلاميين، وغيّروا المناهج التربوية والقوانين، وأقاموا نظاماً صارماً للمراقبة يضع جميع الأنشطة تحت عين الدولة، ويشمل عمليات التحويل المالي، بحثاً عن أيّ أثر للميول الإسلامية مهما كان طفيفاً. وبالنتيجة أصبح «إخوان» الإمارات وإسلاميّوها موزّعين بين السجون والمنافي.
اللحظات الأصعب لأبناء زايد كانت عندما بدا أن الولايات المتحدة نظرت إلى «الإخوان المسلمين» بصفتهم أحد العوارض الجانبية الحتمية للديموقراطية. وهو ما مثّل سبباً رئيساً لخلاف وليّ عهد أبو ظبي مع باراك أوباما الذي رفض الاستماع إلى نصائح الأوّل، وبدا عازماً على الخروج من الشرق الأوسط. ولذا، عندما وصل دونالد ترامب إلى الرئاسة في 2016، سارع ابن زايد إلى إرسال موفديه إليه بعروض يسيل لها اللعاب، فقام التحالف غير المُعلَن الذي ضمّ أيضاً محمد بن سلمان وبنيامين نتنياهو، وأخذت مغامرات ولي عهد أبو ظبي مداها الكامل، ليتورّط في أزمات لا سبيل لديه لمعرفة كيفية الخروج منها. هنا، كان الانحراف الكبير عن نهج الوالد، فلم يُبقِ ابن زايد لبلده صديقاً، ثمّ انتهى به المطاف متحالفاً مع إسرائيل، بحماسة غير مفهومة، ومحاوِلاً فرض هذا التحالف بالقوّة على شعبه المتمنّع والخَجِل ممّا فعَله حكامه، خاصة بعد أن صار كثيرون يصفون الإمارات بأنها «إسرائيل الخليج». تجاوَز وليّ عهد أبو ظبي بذلك، ما فعله أنور السادات بزيارته إلى القدس، حتى بمعايير الزمن الحالي، على رغم أن التجارب الماثلة أمامه للدول التي سبقت إلى التطبيع مع العدو، سواءً كانت راغبة أو ادّعت الإكراه، أظهرت أن هذا طريق مسدود بالنسبة إلى الأطراف العربية، على اعتبار أن إسرائيل تأخذ ولا تعطي.
المنبع الحقيقي لسياسة ابن زايد هو الخوف، ليس من الإسلام السياسي، ولا من إيران، فقط، بل من كلّ الآخرين، وخاصة من الحلفاء، الأمر الذي يفسّر جزئياً، ربّما، التصاقه بإسرائيل. فهو حَذِر من الأميركيّين، وعلاقته بحكّام الإمارات الأخرى الذين لم يَعُد خافياً أن عدداً منهم، ليس موافقاً على سياسته المغامرة، لا في ما يتعلّق بالتطبيع مع العدو فحسب، وإنّما أيضاً في كلّ الورطات التي أدخل البلاد فيها، من حرب اليمن التي جعلت قصف الإمارات نفسها وارداً، إلى ليبيا، إلى مقاطعة قطر والعداء لتركيا، وأخيراً إلى الخلاف المستجدّ والمتصاعد مع ابن سلمان. لكن ذُعْر ابن زايد من الآتي، وهو يرى رعاته الأميركيّين يخفّفون وجودهم في هذه المنطقة، ليس جديداً على الإمارات. فقد سبق لوالده أن خبِر ظرفاً مماثلاً عندما انتهى فجأة الحُكم البريطاني للمنطقة بعد 150 عاماً من الاستعمار، وغادر الجنود البريطانيون ميناء عدن عام 1967، وفقدت أبو ظبي الحماية البريطانية، وبدا أنها تُركت لمصيرها نظراً لوقوعها بين دول أكبر منها بكثير، مثل إيران أيام الشاه والعراق وسلطنة عُمان والسعودية.
أمّا الخوف الأكبر لابن زايد فيبقى هشاشة الدولة، على رغم تقديمها كقصّة نجاح اقتصادية، وهي فعلاً كذلك، لكن مَن يضمن استمرار هذا النجاح إذا طرأ تحوّل كبير مِن مِثل تغيير جذري في موازين القوى الإقليمية، أو تحوّل أساسي في قطاع الطاقة يضرب وظيفتها، أو بقاء حاكم مثل ابن سلمان الذي يريد سلب دبي دورها كمركز تجاري عالمي؟والهشاشة ليست حكراً على الإمارات، لكنها الدولة الأصغر عمراً بين الدول العربية، وخلافاتها مع جيرانها قديمة، ويمكن إذا ما هبّت رياح غير مواتية أن تُرجع الأمور إلى الوراء، خاصة أن وتيرة توالُد الأزمات وتبدّل التحالفات سريعة جداً، ولا تُقارَب من قِبَل مؤسسات ديموقراطية في البلدان المختلفة، بل تخضع لأمزجة شخصية لحكّام مطلقين، فيصبح عدو الأمس حليف اليوم، والعكس بالعكس. قد يكون وليّ عهد أبو ظبي أفاق متأخّراً على مخاطر الخيارات المتطرّفة التي اتّخذها، فنفّذ تراجعات تجلّت خاصة في الانسحابات من اليمن، وفي المصالحة مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، والسعي إلى تحسين العلاقات مع إيران التي سيرسل إليها وفداً قريباً، لكنه متأرجح وحائر، وهو ما لم يكن عليه زايد في يوم من الأيام.
(سيرياهوم نيوز-الاخبار)