لم تسفر قمّة فلاديمير بوتين – جو بايدن الافتراضية، عن مُخرجات ملزمة لكلّ من موسكو وواشنطن، لكنّ التصريحات الرسمية التي أعقبتها أظهرت أن الدبلوماسية نجحت، إلى حدّ ما، في منْع تدهور الأمور إلى شفير مواجهة بين روسيا والغرب في أوكرانيا، مع إبقاء هذا الخيار مطروحاً في حال «التعرّض لأمن روسيا القومي»، خصوصاً أن الأخيرة لن ترتضي هذه المرّة تعهّدات شفهية بعدم توسّع «الناتو» على حدودها، كما حدث في تسعينيات القرن الماضيموسكو | رسمت التصريحات الروسية والأميركية، قبيل اجتماع الرئيسَين، الروسي فلاديمير بوتين، والأميركي جو بايدن، صورة قاتمة عمّا يمكن أن تَخرج به «قمّة الخطوط الحُمر». تَصوّرٌ عزّزه تصريح الكرملين، قبيل القمّة، في شأن عدم تَوقّعه تحقيق أيّ «اختراق» في المحادثات، توازياً مع تسريبات صحافية أميركية عن عقوبات اقتصادية، هي بمثابة «قنبلة نووية»، ستفرضها واشنطن على موسكو في حال غزوها أوكرانيا. في ظلّ هذه الأجواء، انطلقت القمة، بين بوتين الذي حضر وحيداً، وبايدن الذي جلس بقربه وزير الخارجية، ومستشاره للأمن القومي، ومستشاره لشؤون روسيا وآسيا الوسطى، بحسب ما أظهرت الصورة المتداولة. دخَل الرئيسان بسقوف واضحة مسبقاً؛ إذ حدّد بوتين شروطه بضمانات أمنية حول منْع تمدّد «الناتو» شرقاً على حدود بلاده، وهو المطلب الذي تحدّث عنه لأوّل مرّة في مطلع الشهر الحالي، فضلاً عن منْع تجاوز «الخطوط الحمر» لروسيا في أوكرانيا. في المقابل، حشَد بايدن موقفاً موحّداً حول «عواقب وخيمة» ستتعرّض لها روسيا في حال إقدامها على غزو أوكرانيا، وذلك خلال محادثات مع المستشارة الألمانية، ورئيس فرنسا، ورئيسَي وزراء بريطانيا وإيطاليا. وكان الجانب الأميركي اجتهد، خلال الفترة الماضية، في التسويق لنيّة روسيا غزو أوكرانيا، وجرى تسريب أكثر من خطّة عسكرية لهذا الغزو المفترض، وهو ما نفته موسكو غير مرّة.
ساعتان من المحادثات، طغى فيهما الوضع في أوكرانيا على سائر الملفّات الأخرى، من العلاقات الثنائية، إلى الملفّ النووي الإيراني، إلى الوضع في سوريا وليبيا. وبحسب التصريحات الرسمية التي خرجت من الكرملين والبيت الأبيض، ومسؤولي البلدين، تشبّث كلّ من بوتين وبايدن برؤيته حيال الوضع في أوكرانيا، حيث جدّد الأوّل التنديد بتعزيز «القدرات العسكرية للحلف الأطلسي» على حدود بلاده في سياق دعم كييف. وهو ما ردّ عليه بايدن برفْض تقديم تعهّد لموسكو في هذا الشأن، والاكتفاء بوعد التباحث مع الحلفاء في المخاوف الروسية إزاء توسّع «الناتو»، بحسب ما قال مستشار الأمن القومي الأميركي، جيك سوليفان. لكنّ روسيا، التي تسودها قناعة واضحة بأن الخطأ الذي ارتُكب في تسعينيات القرن الماضي، بُعيد انهيار الاتحاد السوفياتي، عبر قبول التزام «الناتو» شفهياً بعدم التمدّد شرقاً، لن يتكرّر الآن (خصوصاً أن «الحلف الأطلسي» خالف التزامه ذاك)، تريد هذه المرّة ضمانات واضحة ومكتوبة وطويلة الأمد. وهي تعتقد أن الولايات المتحدة تسعى، من خلال إثارة المخاوف من غزو روسي محتمل لأوكرانيا، إلى تغيير مواقف دول أوروبية لا تزال ترفض ضمّ أوكرانيا لـ«الناتو»، وإقناعها بأن مواجهة موسكو في كييف ضرورة لحماية الأمن الأوروبي. وفي هذا السياق، يرى نائب مدير «مركز الدراسات الأوروبية والدولية الشاملة» في المدرسة العليا للاقتصاد، ديمتري سوسلوف، في تصريح إلى صحيفة «إزفيستيا»، أن «إدارة بايدن لا تستطيع حتى التلميح إلى حلّ وسط، مع الأخذ في الاعتبار الضغط السياسي الداخلي من الجمهوريين»، مضيفاً أن بايدن «لا يمكنه إعلان تسوية، وتقديم ضمانات واضحة لروسيا حول تمدّد الناتو».
عزّز الارتياحَ الذي أعقب القمّة إقرارُ الكونغرس الموازنة الدفاعية من دون تضمينها عقوبات على روسيا
بدلاً من ذلك، حذّر بايدن، بوتين، من أن بلاده تُحضّر لعقوبات قاسية لم تُفرَض في عام 2014 بعد استعادة موسكو لجزيرة القرم. وهي عقوبات ستؤثّر، بحسب ما سُرّب في شأنها قُبيل القمّة، على «الدائرة المقرّبة» من بوتين، وستمنع مبادلة الروبل بالدولار واليورو والجنيه، كما قد تطاول أكبر البنوك الروسية وصندوق الاستثمار الروسي. أمّا العقوبة الأقسى، والتي شبّهتها «بلومبرغ» بـ«القنبلة النووية»، فتتمثّل في فصْل روسيا عن نظام الدفع الدولي «SWIFT»، فيما تُناقش الإدارة الأميركية تقييد قدرة المستثمرين على شراء ديون الحكومة الروسية في السوق الثانوية، وحرمان شركات الطاقة الروسية من الوصول إليها. وإزاء تلك التهديدات، دعا بوتين، نظيره الأميركي، إلى «عدم إلقاء المسؤولية على عاتق روسيا»، متّهماً كييف بالوقوف خلف التصعيد الحاصل أخيراً عبر اعتمادها «سلوكاً مدمّراً»، معتبراً أنها تسعى لـ«تفكيك اتفاقات مينسك» المبرَمة عام 2015، والتي يُفترض أن تضع حدّاً للنزاع بين القوات الأوكرانية والانفصاليين الموالين لروسيا في شرق أوكرانيا.
على رغم كلّ ما تَقدّم، ساد جوّ من الرضى والارتياح بُعيد اتفاق بوتين وبايدن «على الطلب من ممثّليهما بدء مشاورات حول جوهر هذه المواضيع الحسّاسة»، وأبرزها الوضع في أوكرانيا. وعزّز ذلك الارتياحَ، أيضاً، إقرارُ الكونغرس الموازنة الدفاعية في عام 2022، بعدما استبعد منها العقوبات على أنبوب الغاز الروسي «نورد ستريم 2»، و35 كيانا روسياً، ولم يضمّنها عقوبات على ديون روسيا السيادية. ومع هذا، قرّر الكونغرس تخصيص 4 مليارات دولار للاحتواء العسكري لروسيا، مقابل 3.43 مليارات دولار طلبها البيت الأبيض في البداية. وأجمع المحلّلون في موسكو على أن الإجراء المذكور له علاقة بالمفاوضات، فيما عَدّ محلّلون تخصيص 300 مليون دولار لدعم أوكرانيا عسكرياً، إشارة إلى أن «واشنطن لن تقاتل من أجل كييف، ولا تنوي حتى تعديل التوازن العسكري بين أوكرانيا وروسيا».
بناءً عليه، وبالنظر إلى الوضع الحالي للعلاقات الروسية – الأميركية، وفي ظلّ طلبات موسكو وتهديدات واشنطن بشأن أوكرانيا، يمكن القول إن قمّة بوتين – بايدن كانت مفيدة نسبياً، بالنظر إلى أنها ستساهم في التخفيف من حدّة الخطاب المتوتّر، خصوصاً أنه كلّما «طال التزام الدبلوماسيين والسياسيين بالصمت في العلاقات الدولية، زاد الخطر الذي ستُحدثه المدافع بدلاً منهم»، بحسب توصيف الصحافة الروسية.
سباق التسلّح لا يزال قائماً
منذ قمّة فلاديمير بوتين – جو بايدن في حزيران الماضي، وإطلاق الحوار الإستراتيجي بين الجانبين، سارت العلاقات الروسية – الأميركية على خطَّين متوازيَين: تقدّمٌ في مجال الرقابة على انتشار الأسلحة والأمن السيبراني، وفي المقابل تباينٌ حول الأسلحة النووية المتوسّطة المدى، وتسابقٌ على التسلّح بصواريخ أسرع من الصوت، على رغم التوقيع على معاهدة «ستارت 3» حول الأسلحة الاستراتيجية. كذلك، لم يتوصّل الجانبان، بعد، إلى آلية لتبادل السجناء، فيما يستمرّ الطرد المتبادل للدبلوماسيين بينهما، بسبب قيود جديدة فُرضت في واشنطن، ردّت عليها موسكو بالمِثل. وفي هذا الجانب، اقترح بوتين، على بايدن، رفْع كلّ العقوبات التي فُرضت على البعثات الدبلوماسية للبلدين في الأشهر الأخيرة، «ما قد يسمح بتطبيع أوجه أخرى من العلاقات الثنائية».(سيرياهوم نيوز-الاخبار)