آخر الأخبار
الرئيسية » كلمة حرة » المأُسَسةُ الثقافيَّةُ

المأُسَسةُ الثقافيَّةُ

ميرفت أحمد علي

تميلُ الأنظمةُ السياسيةُ المعاصرةُ ذاتُ الحكمِ المركزيِّ و التوجُّهِ الاشتراكيِّ إلى تأطيرِ مظاهرِ الحياةِ العامةِ لرعاياها، و إلى إشهارِها في نماذجَ مُقوننةٍ ذاتِ تراتبيَّةٍ إداريةٍ أو قياديةٍ برؤىً تعميميةٍ تضمنُ سيرورةً سلِسةً للحياة، عبرَ مؤسساتٍ و منافذَ تترجمُ التوجُّهَ الحكوميَّ في كافةِ قطاعاتِ الدولةِ، و ما يمكنُ أن نسمّيه اختصاراً: الأنظمةُ المرعيَّةُ. و في الوقتِ الذي يخضعُ فيهِ الاقتصادُ و السياسةُ ( و تدَابيرهُما النافذةُ إلى أدقِّ جزئياتِ الحياةِ) إلى النَّمذجةِ و التنميطِ كضرورتينِ تُمليهما المصلحةُ العامةُ، ووجوبُ حيازةِ الدولِ على شهادةِ حُسنِ سلوكٍ في تسييرِ شؤونها الداخليةِ، تقفُ الثقافةُ في صراعٍ ــ غالباً ــ مع سياسةِ التأطيرِ ، و مع الاحتكامِ إلى ضوابطِ المؤسسةِ و (ريتْمِها) ، و التي نادراً ما تتحلّى بفضيلةِ نقدِ الذاتِ و تطويرِ الأداءِ، بَدءاً منَ القانونِ النائمِ ــــ نومةَ أهلِ الكهفِ ــــ منذُ عقودِ التأسيسِ و حتى الوقتِ الراهنِ. فإذا كانَ مفهومُ (المأْسَسة) يُومي إلى إضفاءِ الطابعِ المؤسساتيِّ على النشاطِ البشريِّ، فلْنَقُلها بصراحةٍ، و بالفمِ الملآنِ: إنَّ مؤسساتِنا الثقافيةَ لا تكادُ تقدّمُ حتى يومِنا هذا زاداً طيّباً، أو دفعاً معنوياً ملموساً لكلِّ ذي فكرٍ و قلمٍ و فنٍّ، و لكلِّ مُرتادٍ لها ،فالجمودُ و البلادةُ ما يزالانِ يَسِمانِ نواتجَ و مُفرزاتِ المؤسسةِ الثقافيةِ بتمظهُراتِها و بمسمَّياتها المتداولةِ، و بعباءتِها التي تضيقُ يوماً إثرَ يومٍ عن احتواءِ كلمةِ (ثقافة)، و عن الغوصِ إلى عمقِ المداليلِ و المُوحياتِ التي تتحدَّرُ عن هذه اللفظةِ. و كذا الأمرُ مع (القَوْلبةِ) التي يفرضُها العملُ المؤسساتيُّ، و تعني لغةً: إفراغُ شيءٍ ما في قالبٍ، بحيثُ يُضفي المُفرَغُ فيهِ على المُفرَّغِ شكلاً محدَّداً لا يحتملُ التعديلَ أو المغايرةَ. و أساسُ التضادِّ و التنافرِ بينَ الثقافةِ و (المأْسَسة) يكمنُ في أنَّ الأولى لا تعرفُ الثباتَ، و تخضعُ للنموِّ الذاتيِّ، للبناءِ و للتشييدِ، للخلْقِ و لتخطّي الحواجزِ التي تُعيقُ السيرورةَ و انفساحَ الرؤى. بينما نجدُ أنَّ القوْلبةَ المؤسساتيّةَ في عجزٍ عن استيعابِ التّنامي الثقافيِّ و التطورِ و الإبداعِ الذي يختصُّ بهِ صانعُ الثقافةِ الحرّيفُ، و مُنتجُها الحصيفُ، ما يُفضي إلى إعاقةٍ ملموسةٍ في العلاقةِ بينَ الثقافةِ و مَأْسَستِها، و إلى خللٍ بينَ المؤسسةِ و المثقفِ، سيّما النخبويِّ. فالثقافةُ حرَّةٌ ، طليقةٌ، تحلّقُ و تضربُ بأجنحتها بينَ أقطارِ الأرضِ رافضةً أيَّ إملاءٍ أو تكبيلٍ. لا جُناحَ عليها في تخطِّي المألوفِ إلى الخلَّاقِ مادامتْ لا تقترفُ جُرمَ الخيانةِ الوطنيةِ، و لا تخدشُ الحياءَ العامَّ. و إنَّما هيَ حالةُ حِراكٍ شعبيٍّ لها أن تُجنِّدَ الكلمةَ و الفنَّ و الصورةَ و السمعيَّ و البصريَّ لنسفِ بُؤرِ الظلمِ و الغُبنِ الواقعِ على الإنسانِ، و لها أن تفخِّخَ بالقيَمِ الجماليةِ و الأخلاقيةِ المُثلى أرضيةَ الانتهاكاتِ لحقوقِ الفردِ و المجتمعِ و سواهما من قضايا الوجودِ الشَّائهةِ، فتقلبُ أعاليها أسافِلَها. و هذهِ الخاصيَّةُ (التمرديَّةُ) و الثوريةُ المبدئيّةُ هيَ السِّمةُ الفاخرةُ التي على الثقافةِ الحقَّةِ أن تزدانَ بها، الثقافةِ الجدليَّةِ، الثقافةِ المُحسِّنةِ، و الناجزةِ و الدَّافعةِ بمجتمعاتِها مِن دهاليزِ (الأنفاقِ) إلى فضاءاتِ (الآفاقِ).

هذا ما لمْ تزلِ (المأْسَسة) بعيدةً بُعدَ أكوانٍ عن هضمهِ و  تشرُّبهِ. و هكذا يبدو منَ العسيرِ و الشَّائكِ أن نُقولبَ الثقافةَ أو نُدجِّنَها بتقييدِها بأنظمةِ عملٍ، و بلوائحَ و ببرامجَ مكرورةٍ مملَّةٍ و دوريَّةٍ، و بإخضاعِها إلى تقاليدَ إداريةٍ لا تختلفُ كثيراً عن مثيلاتِها في القطاعِ المؤسساتيِّ الخدَميِّ و الاقتصاديِّ و الطبيِّ أو البيئيِّ و سواه…و أحدُ أبرزِ نواتجِ هذا الارتهانِ هوَ ردودُ الفعلِ المتحصِّلةُ عنهُ، و التي جذَّرت الكارثةَ الثقافيةَ بدلَ أن تلتفَّ حولَها و تتفاداها، و تُخرجَ المثقفَ العربيَّ من عنقِ الزجاجةِ الضيِّقِ. و أَعني بردودِ الأفعالِ (حِيالَ الروتينِ الثقافيِّ)  الموقفَ الشعبيَّ و الأهليَّ من تقاعُسِ المؤسسةِ الثقافيةِ، كبُروزِ حلولٍ بديلةٍ لم تُجدِ كثيرَ نفعٍ هيَ الأخرى، منها إشهارُ المنتدياتِ الثقافيةِ، و إقامةُ الملتقياتِ و المهرجاناتِ الأهليةِ، و تأسيسُ الجمعياتِ الأدبيةِ و الفنيةِ الخاصةِ هنا و هناكَ، و على يدِ هذا و ذاكَ. و هو ردُّ فعلٍ قد يكونُ معلَّلاً ــــ إلى حدٍّ ما ـــــ لكنَّهُ لم يقدِّم علاجاً ناجعاً للصَّنميَّةِ الثقافيةِ. إذ لم تفلحْ في الغالبِ هذهِ البدائلُ في ضخِّ الكفاءاتِ الثقافيةِ المُعتبرةِ و المُجيدةِ و المشهودِ بأدائِها إلى حياتِنا الثقافيةِ الظَّمأى إلى السموِّ و الجَودةِ و الفرَادةِ.

و قد ابتدعتْ بعضُ تلكَ البدائلِ أسماءً مفخَّمةً، و اتَّبعتْ تقليعاتٍ لافتةً  في  مُوضةِ الألقابِ، ليس آخرَها تقليعةُ: (قصورِ الثقافة)، التي لم ترأبْ ـــ كَسِواها ـــ الصَّدْعَ الثقافيَّ. فإذا كانتِ التعبئةُ الشعبيةُ الثقافيةُ ــــ كمَا البُنى المؤسساتية ــــ قد تلكَّأتْ هيَ الأخرى في إنهاضِ الثقافةِ من تخبُّطاتِها، و غلَّبَتْ خَيارَ الكَمِّ على خَيارِ النوعِ، فمَن يُنهضُ الثقافةَ اليومَ مِن كبوتِها و من فُتورِ همَّتِها؟ و مَن يطلقُ أَعِنَّةَ جُموحِها المكبوتِ؟، كيما تتأصَّل و ترتقي بالفعلِ الحضاريِّ للشعوبِ؟

(سيرياهوم نيوز 1٤-١٢-٢٠٢١)

x

‎قد يُعجبك أيضاً

حين يرتجف الوطن من داخله..!

  د. سلمان ريا في لحظة مفصلية من التاريخ السوري، تحوّلت محافظة السويداء من معقل للكرامة والصمود إلى بؤرة تتقاطع فيها خطوط النار الداخلية والمخططات ...