الرئيسية » تحت المجهر » ليبيا على خارطة الطاقة.. سرقة موارد واستغلال جغرافيا

ليبيا على خارطة الطاقة.. سرقة موارد واستغلال جغرافيا

  • عباس الزين 

ليبيا التي تمتلك أكبر احتياطي نفطي في قارة أفريقيا، وتحتل المرتبة الخامسة عالمياً، تعرّضت لعملية نهبٍ ممنهجة للنفط.. ما هو دور دول “الناتو” في ذلك؟ وكيف يستغل موقع ليبيا الجغرافي؟

  • تعرضت ليبيا بعد العام 2011 مع سقوط نظام القذافي لإحدى أكبر عمليات نهب النفط.

“طائرة خاصة يملكها المشير الليبي خليفة حفتر وصلت إلى مطار بن غوريون آتية من دبي الإثنين الماضي، وبقيت قرابة 90 دقيقة، التقى خلالها صدام، نجل حفتر، مسؤولين إسرائيليين، قبل أن تقلع ثانية متوجهة إلى ليبيا”. (“هآرتس” الإسرائيلية – 8 تشرين الثاني/نوفمبر 2022).

في آذار/مارس 2014، استقل 3 رجال، اثنان منهم يحملان جوازات سفر دبلوماسية، طائرة خاصة متوجهة إلى قبرص، والهدف شراء نفط غير مشروع بقيمة 25 مليون دولار.

الأشخاص الـ3 كانوا إسرائيليَين وسنغالياً، وصلوا إلى قبرص على متن طائرة “لير” في 14 آذار/مارس 2014، واستأجروا قارباً في لارنكا، وأبحروا باتجاه ناقلة “مورنينغ غلوري”، على بعد 22 ميلاً بحرياً من الساحل القبرصي، والتي تنقل 32000 طن من النفط الليبي المسروق الذي تم تحميله من ميناء السدرة في ليبيا.

عندما اقترب الـ3 من الناقلة، نزل أحد الليبيين منها، وصعد على متن قاربهم، ثم تبع ذلك نقاش. بعدها، عاد الثلاثي إلى لارنكا، وتم اعتقالهم. وعندما مثلوا أمام قاضٍ فيها، اتضح أنهم لم يخالفوا أي قوانين، باعتبار أن جريمتهم، وهي محاولة شراء النفط المسروق، حدثت خارج حدود 12 ميلاً بحرياً من الولاية القضائية لقبرص. وبعد إطلاق سراحهم، عادوا على الفور إلى “تل أبيب”، فيما لم يتم الإبلاغ عن جواز السفر الذي استخدموه.

هذه الحادثة التي حصلت في شرقي البحر المتوسط، تختصر بتفاصيلها موقع ليبيا الجيوسياسي والاقتصادي في السنوات الـ10 الماضية، ضمن مسألة الصراع على الطاقة من جهة، والسرقة الممنهجة التي يتعرض لها القطاع النفطي في البلاد من جهةٍ أخرى. 

1970.. الغرب يخسر نفوذه في قطاع النفط الليبي

“أعلم أنّ الولايات المتحدة لن تتضرّر في القريب العاجل من توقّـف شحنات البترول الذي قرّرته ليبيا وغيرها من الدّول المنتجة، ولكنّنا مصممون على النيل من أميركا بضرب أوروبا” (معمر القذافي – 23 كانون الأول/ديسمبر 1973).

في سبعينيات القرن الماضي، تمكن العقيد الليبي معمر القذافي من تأميم معظم شركات النفط في البلاد، واضعاً قوانين جديدة للمشاركة في قطاع النفط وسقفاً للإنتاج. تلك القرارات استهدفت الولايات المتحدة بشكلٍ أساسي، باعتبار أن معظم صادرات النفط الليبي في الفترات السابقة على ذلك كان يتجه نحو الولايات المتحدة التي كانت شركاتها تسيطر على حوالى 90% من إجمالي إنتاج القطاع.

القرارات المتعلقة بقطاع النفط، والتي أعلنها القذافي بعد وصوله إلى السلطة، كانت منعطفاً تاريخياً في العلاقة بين طرابلس الغرب وواشنطن. بعد ذلك، عملت الإدارات الأميركية المتعاقبة بشتى الوسائل، مستخدمة ضغوطاً اقتصادية وسياسية مكثفة على نظام القذافي، من أجل الضغط باتجاه عودتها إلى قطاع الطاقة في ليبيا.

لم تكن أميركا الخاسر الوحيد من قرارات القذافي، بل إن أوروبا التي تضررت من جهة الاستحواذ ومشاركة شركاتها في التنقيب والإنتاج، وجدت نفسها أيضاً أمام واقعٍ جديد استمر حتى بداية الأحداث في ليبيا مطلع العام 2011، إذ كان قطاع النفط الليبي على جدول أعمال الغرب، ودول “الناتو” تحديداً، كأولوية أصبح فيها الصراع الداخلي في ليبيا ساحة تجاذبات مستمرة، ولا يزال كذلك حتى الآن. وضمن المسار ذاته، فإن قطاع النفط الليبي لم يتعرض لهيمنة غربية تقليدية فحسب، بل لسرقة ممنهجة من الإنتاج أيضاً، وصولاً إلى الأسواق.

سرقة النفط في ليبيا

“يجب أن نقول للمتمردين في ليبيا: سنساعدكم، لكننا نريد 50٪ من نفطكم.. سيقولون لنا: ماذا عن الـ75%؟” (دونالد ترامب – 24 آب/أغسطس 2011).

تعرضت ليبيا بعد العام 2011، مع سقوط نظام نظام القذافي، لإحدى أكبر عمليات نهب النفط، بدءاً بتدخل “الناتو” عسكرياً. على مدى سنوات مضت، كانت براميل النفط – ولا تزال – تهرّب من حقول الإنتاج إلى الأسواق الأوروبية بأساليب ملتوية، ومن خلال شركات وهمية وجوازات سفرٍ دبلوماسية! 

معظم التحركات العسكرية في الداخل الليبي للميليشيات كان يستهدف حقول النفط وموانئ التصدير، حيث دارت المعارك بشكلٍ أساسي على هدفٍ محدد يتمثل بمن يسيطر على تلك الحقول ومن يفرض نفوذه على الموانئ. تلك الميليشيات كانت تتحرك بدعمٍ خارجي يعطي انطباعاً عن وجهة النفط المسروق والمتورطين فيه.

في تشرين الأول/نوفمبر 2017 على سبيل المثال، كشفت تحقيقات عن تورط شركة مالطية في سرقة النفط الليبي من مصافي مدينة الزاوية التي تبعد 40 كم عن غرب العاصمة طرابلس، بالتعاون مع مجموعات ليبية مسلحة هناك. الشركة ساهمت في عمليات تجارة مشبوهة من ليبيا، استخدمت فيها سفناً غير مرخصة لشحن النفط الخام إلى المصافي الإيطالية. النفط والغاز الليبيان كانا يسرقان من مصافي مدينة الزاوية، ومن ثم يتم نقلهما لاحقاً عبر ميليشيات مسلحة إلى الساحل، ومن ثم إلى صقلية، ليتم بيعهما بوساطة الشركة المالطية لأسواق إيطاليا وأوروبا. أيضاً، إن تحقيقات أخرى كشفت في العام 2020 أن شركة “Kolmar Group AG” السويسرية، وهي شركة كبيرة لتجارة الوقود والوقود الحيوي، ومقرها زوغ، متورطة في التهريب غير المشروع للوقود الليبي.

هذه عينة وأمثلة عن شركات دولية ساهمت وحرضت وأدارت عملية سرقة النفط الليبي تحت أعين وغطاء الدول المعنية بالملف الليبي، بما أن هذا الوقود كان يتجه إلى أسواقها، لكن هذه الدول تحركت قبل ذلك من خلال التدخل العسكري المباشر لإسقاط نظام القذافي ودعم الفوضى والميليشيات المسلحة، والهدف الأبرز كان حقول النفط.

الوثائقة المسربة من بريد هيلاري كلينتون تحدثت في هذا السياق عن 5 أسباب دفعت فرنسا إبان عهد ساركوزي إلى التدخل في ليبيا من أجل إطاحة القذافي، من ضمنها الرغبة في الحصول على حصة أكبر من إنتاج النفط الليبي. تلك التسريبات تدعم ما أوردته صحيفة “ليبراسيون” اليومية الفرنسية في أيلول/سبتمبر 2011 بكشفها رسالة مؤرخة بتاريخ 3 نيسان/أبريل 2011، تظهر تعهد ما سميَ بـ”المجلس الوطني الليبي” بحصول فرنسا على 35% من إجمالي النفط الليبي الخام، مقابل حصول المجلس على دعم باريس. والجدير ذكره في هذا السياق أن فرنسا كانت أول دولة تعترف بالمجلس كممثل لليبيا في آذار/مارس 2011.

بريطانيا كان لها أيضاً دور بارز في محاولة سرقة حصة من “كعكة” النفط الليبي. الدور البريطاني بدأ في العام 2011، حين كشفت هيئة الإذاعة البريطانية في أيلول/سبتمبر 2011أن رئيس الحكومة البريطانية آنذاك ديفيد ماكرون أنشأ “وحدة” للقيام بعمليات سرية ضد نظام القذافي. تلك الوحدة سميت “خلية النفط الليبي”. وقد ساهمت بشكلٍ أساسي في عرقلة وصول إمدادات الطاقة إلى طرابلس الغرب، مع ضمان وصولها إلى الميليشيات المسلحة في شرق ليبيا، وذلك من خلال عمليات استخبارية مكنت الميليشيات المسلحة من قطع تلك الإمدادات، فيما أعطت الضوء الأخضر لشركات وتجار نفط بريطانية لبيع الوقود للمسلحين في بنغازي. إلى جانب ذلك، كانت “الوحدة” تعمل على تأمين عودة شركات النفط الكبرى إلى ليبيا.

تلك المساهمة البريطانية الفاعلة إلى جانب ميليشيات المعارضة كان يراد منها تفعيل دور لندن في مستقبل النفط الليبي. عشرات المسؤولين من دولٍ عديدة، من بينها بريطانيا، أمضوا أشهراً في ليبيا محاولين إبرام صفقات مع المجلس الوطني الليبي، وفق ما تذكره وكالة “رويترز” في تقريرٍ بتاريخ 25 أيلول/سبتمبر 2011. من ضمن هؤلاء، كان الضابط السابق في القوات الجوية البريطانية جون هولمز، الذي كان يقضي معظم وقته في بهو فندق “تيبستي” في بنغازي، متحدثاً إلى مسؤولين في “المجلس الوطني” يمكنهم المساعدة في تسهيل الدخول إلى قطاع النفط. هولمز يمثل شركة النفط البريطانية “هريتدج أويل”، التي كانت تسعى إلى تأمين الحقول وعمليات الصيانة. والمقابل: حصة في إنتاج البلاد النفطي.

حتى العام 2018، وفي أوج الصراع الداخلي الليبي، بلغت خسائر قطاع النفط في البلاد بسبب التهريب والسرقة حوالى 750 مليون دولار سنوياً، وفق ما ذكره رئيس مجلس إدارة مؤسسة النفط الليبية في حينها مصطفى صنع الله. وإلى جانب القوى الغربية، أدت الإمارات دوراً فاعلاً في عملية تهريب النفط وسرقته، من خلال دعمها الجنرال الليبي خليفة حفتر في وجه قوات حكومة فائز السراج.

صحيفة “وول ستريت جورنال” تحدثت عن هذا الأمر، بكشفها عن محادثات سرية جرت بين المسؤولين في أبو ظبي وحفتر، لمساعدته على بيع النفط الليبي بعيداً عن “المؤسسة الوطنية للنفط” التابعة لحكومة طرابلس الغرب. ولذلك، كثفت الإمارات في تلك الفترة دعمها لقوات حفتر من أجل السيطرة على ما يعرف بـ”الهلال النفطي” الليبي (منطقة بين بنغازي وسرت). بالتوازي، أصدر حفتر قراراً بإنشاء مؤسسة نفطية موازية في بنغازي، منفصلة عن المؤسسة الوطنية الليبية. والسعودية أيضاً وعدت حفتر بملايين الدولارات في حملته العسكرية ضد حكومة فائز السراج.

الموقع الجغرافي.. وأمن الطاقة في شرقي المتوسط

“النفط هو الشيء الوحيد في ليبيا الذي يستحق القتال من أجله” (من مقال في صحيفة “فورين بوليسي” الأميركية – 4 تشرين الثاني/نوفمبر 2015)

الدعم السعودي – الإماراتي، ومعه الفرنسي، لقوات حفتر في صراعها مع حكومة السراج لم يرتبط فقط بقطاع النفط في ليبيا، بل امتد بين العامين 2019 و2020 ليطال موقعها الجيوسياسي في شرقي البحر المتوسط. كان الهدف هو إسقاط حكومة السراج، لتسقط معها الاتفاقية الموقعة بين الأخيرة وتركيا، والتي حددت من خلالها أنقرة حدودها البحرية في بحر المتوسط.

وبما أن هذه الاتفاقية تعرقل مسار خط “إيست ميد” للغاز، والمدعوم من فرنسا ودول خليجية والاحتلال الإسرائيلي وقبرص واليونان قرب جزيرة تكريت، فإن الصراع في ليبيا دخل مرحلة جديدة في حينها، تحولت معه البلاد إلى ساحة اشتباك إقليمي ودولي، بين السيطرة على حقول النفط والموانئ في الداخل، والظفر بموقع ليبيا الاستراتيجي على سواحل المتوسط ضمن صراع الغاز.

فرنسا ودول خليجية كانت تريد إسقاط الاتفاقية بدعمها حفتر، وتركيا كانت تريد الحفاظ عليها بدعمها حكومة السراج. بالتوازي، وفي حزيران/يونيو 2020، أعلن الرئيس التركي خلال لقائه السراج في أنقرة “بدء التنقيب عن مصادر الطاقة قبالة السواحل الليبية”.

  • خط “إيست ميد”

ليبيا.. حلم الاستقرار!

لقد أخذ الرئيس (ساركوزي) مخاطرة سياسية وعسكرية.. تدرك السلطات الليبية والشعب ما هم مدينون به لفرنسا.. لن نخجل من مساعدة شركاتنا للاستفادة من هذه الميزة” (وزير التجارة الفرنسي بيير لولوش – 6 أيلول/سبتمبر).

وفقاً للبنك الدولي، تشكل عائدات النفط أكثر من 95% من ميزانية الحكومة في ليبيا، في حين أن حوالى 80% من الليبيين يتقاضون رواتب حكومية. وأمام الخسائر الفادحة التي تتعرض لها البلاد نتيجة السرقة والنهب في قطاع النفط، تبقى أي آمال معقودة على الاستقرار مرتبطة بمنع ذلك.

ليبيا التي تمتلك أكبر احتياطي نفطي في قارة أفريقيا، وتحتل المرتبة الخامسة عالمياً في هذا المجال، يسرق نفطها ويهرّب إلى الدول ذاتها التي تعقد المؤتمرات من أجل “السلام والاستقرار” فيها. الأمر ليس مجرّد وقاحة تنتهجها الدول الغربية في مقاربة ملفات المنطقة. هذه سياسة واستراتيجية متبعة منذ عقود. لذا، إن “الحلول” التي تخرج من الاجتماعات الدولية حول الانتخابات وغيرها، وآخرها من باريس، لا تعبّر عن مصالح الشعب الليبي، بل عن مصالح هذه الدول. 

الاستقرار في ليبيا، حاله كحال الاستقرار في أي دولة في المنطقة، لا يتحقق من دون قيادة وطنية تضع في أولوية عملها كف يد الهيمنة الغربية وداعميها عن موارد البلاد، ومن ضمنها النفط. وعليه، يبقى حلم الاستقرار مؤجلاً إلى حين حصول ذلك. حينها، لن يكون بمقدور الإسرائيليين القدوم بجوازات سفر دبلوماسية لشراء نفط ليبي مسروق في البحر المتوسط. لن تساوم فرنسا وتفاوض، ومعها بريطانيا، على الدعم العسكري مقابل النفط، وستبقى يد أميركا مغلولة في السواحل الليبية، ومعها إيطاليا وتركيا وكل “الناتو” طبعاً.

ولعلّ مقولة المجاهد الليبي الشهيد عمر المختار تعطي تصوّراً عن حالة الصراع في ليبيا وعليها من قبل ميليشيات مسلحة وتدخلٍ خارجي، والحاجة إلى قيادة شعبية وطنية:

“حين يقاتل المرء لكي ينهب، قد يتوقف عن القتال إذا امتلأت جعبته أو أنهكت قواه، ولكنه حين يحارب من أجل وطنه، يمضي في حربه إلى النهاية”.

(سيرياهوم نيوز-الميادين١٨-١٢-٢٠٢١)

x

‎قد يُعجبك أيضاً

حلفاء كييف يستعدون للأسوأ: «التنازل» عن الأراضي حتمي؟

ريم هاني       لم يعلن أي من الرئيسين، الأميركي المنتخب دونالد ترامب، أو الروسي فلاديمير بوتين، عن شروطهما التفصيلية لإنهاء الحرب في أوكرانيا ...