*بقلم:ميرفت أحمد علي
(أخي في الحبرِ و الأحلامِ، الأديب الكبير و الإعلامي القدير وليد معماري، يُغيِّرُ عنوانهُ! أبا خالدٍ، ستبقى حيَّاً فينا ما حَيينا) بهذا القدرِ منَ التكثيفِ العاطفيِّ للوعةِ الفقْدِ، و حُسنِ تدبيرِ القلمِ في اختزالِ الألمِ، ينعى الأديبُ و السيناريست الكبير (حسن .م. يوسف) صفيَّ الودِّ و صديقَ الدَّربِ، فقيدَ الصحافةِ السوريةِ و الأدبِ الساخرِ، المبدعِ (وليد معماري)، الذي تخفَّفَ ــــ منذُ بضعةِ أيامٍ و حسب ـــ منَ الحُمولةِ الثقيلةِ لهذهِ (الفانيةِ)، و ارتحلَ عنِ (المسكونةِ) إلى غيرِ سكنٍ، في صولةٍ للقضاءِ و للقدرِ غيرِ مُنصفةٍ لهُ و لعشَّاقِ أَدبهِ النظيفِ، الشريفِ، المُلتزمِ، و الذي عكسَ مُماثلةً بيِّنةً، بل توءَمةً مشهودةً بينَ شخصهِ المُبدعِ و شخصيَّته كإنسان. إنَّه (وليد معماري)، الذي أطلَّ على المجتمعِ السوريِّ مِن تحتِ (أقواسِ قُزح)، التي تخضَّبتْ بأطيافِ سخريتهِ الواخزةِ لكلِّ ذي ضميرٍ يَقِظٍ، أدانَ بها عجرفةَ الحياةِ و توَحُّشَها على شرفاءِ القومِ و أخيارِ بني البشر، حتى غدَتْ (أقواسَ نصرٍ)، سمَتْ بقلمهِ و معَهُ إلى مصافِّ المُبدعين الفاخرينَ، و جعلتْهُ مالئَ حياةِ السوريينَ و شاغلَ أذهانَهم لسنواتٍ مُستطليةٍ. و قد أكسبَهُ أدبُهُ الملتزمُ، و قصَّتُه المتندِّرةُ الغامزةُ من قناةِ الفسادِ الأخلاقيِّ و الإداريِّ ــ أقلّه ــ مفاتيحَ الولوجِ إلى معتركِ الصحافة، ليغدوَ أحدَ أشهرِ رجالاتِها، و هوَ القائلُ: (دخلتُ الصحافةَ مِن بابِ الأدب)، (وليد معماري) و أقواسُ نصرهِ تلك، استحالتْ نياشينَ تباهَتْ بها صحيفةُ (تشرين)، و رسَّختْ أركانَ الخطابِ الجدليِّ الساخرِ في الزاويةِ العُلويَّةِ منها، بعدما اغترفَ صاحبُها من روتينِ الحياةِ المعاصرةِ، و مِن وقائعِها الخدميَّةِ و الاجتماعيةِ و الإداريةِ و الاقتصاديةِ و الثقافيةِ، قدْراً أعانَهُ على استِكْناهِ هواجسِ الناسِ، و استقراءِ خيباتِهم، و تفريغِ شُحَنِ توتُّراتِهم عاليةِ الشدَّةِ في نصٍّ وَجيزٍ، حدا بالقرَّاءِ مطلعَ كلِّ صُبحٍ إلى أن يتخطَّفوا الصحيفةَ و يتنازَعوها لأجلِ (قوسِ قُزح)، التي حمّلتْ صاحبَها أمانةَ الوَساطةِ الشريفةِ بينَ المُبدعِ و قضايا قومهِ ..أمانةَ الترجمةِ و التوصيلِ و بلاغةِ التعبيرِ، و انفساحِ آمادِ التبصُّرِ، و مغامرةِ السباحةِ عكسَ التيارِ ، و حلاوةِ المشاكسةِ الصحفيةِ، و لذَّةِ التَّعريةِ و كشفِ العوراتِ الخبيئةِ بروحٍ قتاليةٍ مُناهضةٍ مِقدامة، بعيدةِ الشُّبهاتِ عنْ غوايةِ المصالحِ الشخصيةِ، و دواعي النرجسيَّةِ الأدبيَّةِ. رجلُ الزاويةِ ذاكَ، صفيُّ الودِّ و الخافقِ و معشوقُ القرَّاءِ، أخرجَ إلى المكتبةِ العربيةِ مجموعاتٍ قصصيةً واخزةَ البوحِ، شائكةَ الحرفِ و الصَّوغِ (مرٌّ مذاقتُها كطعمِ العلقمِ)، بقدرِ ما تحملُ بينَ أعطافِها مِنْ إنعاشٍ للحسِّ الفُكاهيِّ، و تَنفيسٍ عن الخواطرِ المعتلَّةِ، و طبطبةٍ على المشاعرِ المكبوتةِ لعوامِّ الناسِ و لمهمَّشيهم، الذينَ جسَّدوا ـــ على الدوام ـــ الجِبِلَّةَ الإنسانيةَ المتجانسةَ في نظرهِ، و مُلهمَهُ، و محرِّضَ فكرهِ، و مُستنبشَ فطرتهِ النقديَّةِ المُلحّةِ. و أَجدُ لزاماً عليَّ ــــ أنا كاتبةُ هذهِ السطورِ ــــ أنْ أُقرَّ في هذهِ العُجالةِ بفضلِ الأستاذ (وليد) عليَّ منذُ اشتغالي بالأدبِ في مطلعِ التسعيناتِ، إذْ أطلقَ المرحومُ قلمَهُ النَّاقدَ متعقِّباً خُطى إصداراتي و بواكيرَ كُتبي، و أَحلَّها في الصحفِ محلَّاً مُباركاً، و بوَّأَها موقعاً طيِّباً محلياً و عربياً. من تلكَ الصحفِ و الدَّورياتِ: تشرين، النور، الرافد، نزوى، مجلة العربي… و لا تغادرُ ذاكرتي اندهاشةٌ باذخةٌ غَشِيتْ ملامحَ وجههِ الطيِّبِ و مُحيَّاهُ الذي تتفطَّرُ منهُ السَّماحةُ، حينَ كاشفَني بأوَّلِ تعليقٍ لهُ بعدَ قراءتهِ باكورتي القصصيَّة (السيرك) صائحاً: ـــ ما هذا الإبداعُ، يا فتاة؟! و تمضي الأيامُ، فيَستذكرُني و يُهاتفُني مِن مكتبهِ في القسمِ الثقافيِّ بجريدةِ تشرين، و يزكِّيني للمشاركةِ في محافلَ و ندواتٍ أدبيَّةٍ و نقديَّةٍ مشرِّفةٍ في العاصمةِ دمشق، أبرزُها ندوةُ (كاتبٍ و موقف) التي كانَ الأدبُ المعماريُّ مَبْحثُها. و لكمْ أَبهجَني اختيارهُ لي إلى جانبِ الأديبِ و الناقدِ العريق (حسن. م. يوسف) ، لنتقاسمَ معاً أمانةَ إبرازِ ملامحِ القصةِ (المعماريَّةِ)، و مُناقشةِ بواعثِ ريادتِها، و إبرازِ خصوصيَّتها، و ركائزِها الفنيَّةِ. و مِن أَعزِّ مواقفِه الأخويَّةِ معي، و أَوقعِها أثراً في بَطانتي، أتتْ حينما سُرقَ منِّي مخطوطانِ قصصيَّانِ من قبلِ موظفةِ تنضيدٍ و طباعةٍ في صحيفةٍ دمشقيَّةٍ عريقة، و كانتْ ابتزَّتني معَ صديقةٍ لها، و هدَّدتا بنشرِ المخطوطينِ باسمِهما، و بالمشاركةِ بهما في مسابقةٍ أدبيةٍ وازنةٍ، فقامَ المغفورُ لهُ الأستاذُ (وليد) باسترجاعِ المخطوطينِ بسرعةٍ قياسيَّةٍ، مُلوِّحاً بالتشهيرِ بالسرقةِ في صحيفةِ تشرين، بعدَما توافرتْ لديهِ الأدلَّةُ الدامغةُ على ملكيَّتي لهما، و مضى بي لاهِفاً لهفةَ الأخِ على أختهِ إلى دارِ (الينابيع) في دمشق؛ للإسراعِ بنشرِ المخطوطينِ بتكلفةٍ مخفَّضةٍ و مشجِّعة، ما أثمرَ عنهُ تعرُّفي إلى الشاعرِ القديرِ، الأستاذ (صقر عليشي) . و تمَّ إشهارُ الكتابينِ بأبهى حُلَّةٍ، كُرمى لعينيِّ و لخاطرِ (أبي خالدٍ). فما عسايَ أقولُ بعدُ في عميدِ الأدبِ الساخرِ، و نصيرِ قضايا الإنسانِ، المُفتقدِ حدَّ الذُّهولِ، و الوجومِ، و عُقمِ المقالِ في حضرةِ المقام..(وليد معماري)؟ المنارةِ الوضيئةِ لأبناءِ جيلي و ما قبلَهُ! و أرى نفسي ـــ بحقٍّ ـــ في موضعِ المخذولِ مِن لسانهِ، المفجوعِ في بيانهِ و تِبْيانهِ، و أنَّني مهما بلغتُ مِن مشقَّةِ استحضارِ خصالِ هذا المعلِّم الكبير و مناقبهِ، فسيُهتَضمُ حقُّهُ، و سأَحيدُ عن مأَربي و مرَامي؛ إذ لا يَفيهِ سِفرُ كلامٍ حقَّهُ. يا صاحبَ (قوسِ النَّصرِ) في فضاءِ (تشرينَ) الأزرقِ: لمْ أكُ لأعلمَ ـــ إلا اللحظةَ ـــ بأنَّ في (وَاوِكَ) يتربَّصُ الوداعُ، و في (لامِكَ) تتخفَّى الَّلوعةُ، و في (يائِكَ) يأسُ ما بعدَ الفراقِ، و في (دَالِكَ) دموعٌ تُسفحُ منْ أسىً و احتراقِ. ارقدْ بسلامٍ (أبا خالدٍ)، للهِ دُرُّكَ ما أنقاكَ! و ما أندَى شذَاك!
(سيرياهوم نيوز20-12-2021)