- لينا كنوش
- الثلاثاء 11 كانون الثاني 2022
تُواصل فرنسا العمل على حصْر وجودها العسكري في أفريقيا، في إطار ما يبدو أنها مراجعة لاستراتيجيتها في هذه القارّة. مراجَعةٌ تتفاوت تقديرات المراقبين لأسبابها وخلفياتها، على رغم وجود إجماع في ما بينهم على فشل سياسة فرنسا الأفريقية، وإتيانها بنتائج عكسية لما كان يُطمَح إليه، ليس تنامي قوّة «الجهاديين» في منطقة الساحل إلّا نموذجاً منهامثّل انسحاب القوات الفرنسية من تومبكتو، في شمال مالي، في 14 كانون الأول الماضي، مرحلة جديدة من مسار إعادة تنظيم انتشارها العسكري في منطقة الساحل. وبعد «تيساليت» و«كيدال»، يأتي هذا التطوّر في إطار خطّة تخفيض عديد قوّة «بركان»، من 5000 جندي إلى 3000 في صيف 2023. وعلى الرغم من إعلان باريس تعزيز قوّة «تابوكا» التي تضمّ القوات الخاصة الأوروبية، فإن التخفيض المُشار إليه يثير تساؤلات حول مستقبل الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل وفي أفريقيا بمجملها.
بِنَظر جيرار جيرولد، المفوّض السياسي السابق في الأمم المتحدة والباحث في «معهد الدراسات الاستراتيجية»، فإن مراجعة الاستراتيجية الفرنسية في أفريقيا ناجمة عن خلاصتَين، أمنية واستراتيجية، مقلقتَين على أكثر من صعيد. «بدايةً، فإن قوّة الجهاديين لا تزال تتنامى في منطقة الساحل، وهم يتمدّدون نحو بلدان خليج غينيا، ونحو ساحل العاج، وصولاً إلى بينين. من جهة ثانية، تتزايد التظاهرات الشبابية المناهضة للقوات الفرنسية، خاصة في بوركينا فاسو والنيجر. أخيراً، نشهد تعميقاً لانعدام الثقة بين الحكومة الفرنسية من جهة، والسلطات المحلية في هذه البلدان من جهة أخرى، وفي مقدّمتها المجموعة العسكرية التي تسلّمت السلطة في باماكو»، وفقاً لجيرولد. هو يرى أن هذا الإخفاق دولي وليس فرنسياً حصراً، لأن «المجتمع الدولي لم ينجح في التصدّي للإرهاب واستعادة الأمن بالنسبة إلى شعوب هذه المنطقة».
من جهته، يرى رحمن إدريسا، الأستاذ والباحث في «مركز الدراسات الأفريقية» في جامعة ليد في هولندا، أن الإخفاق المذكور ناجم أساساً عن غياب أيّ استراتيجية فرنسية في القارّة السمراء. لجأت باريس إلى تدخُّل عسكري صرف، وتجاهلت الأبعاد الدبلوماسية والسياسية، خاصةً تلك المرتبطة بعلاقاتها مع الدول الأفريقية واللاعبين المحليين. «تمّت إدارة التدخّل العسكري وكأنه شأن فرنسي – أوروبي، يستند إلى مجموعة الدول الـ5 في الساحل، والتي عوملت على أنها قوّة رديفة. وقد جرى التعامي عن تعقيد الساحة السياسية في داخل هذه البلدان، واختزاله إلى مسألة إثنية، وحصْر الصراع في بعد واحد، وهو مواجهة الإرهاب الإسلامي. إضافة إلى ذلك، تمّ إشراك الاتحاد الأوروبي في الخطّة الفرنسية، واستثناء المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا، وهو أمر مستغرب. هذا إذا تناسيْنا أنه كان من المفترض كذلك أن تكون الجزائر شريكاً من الدرجة الأولى. من الواضح أن الدولة الفرنسية لم تكن لديها الرؤية الشاملة الضرورية لبلورة الإطار الاستراتيجي العام الذي يندرج التدخّل العسكري في إطاره».
مراجعة الاستراتيجية الفرنسية في أفريقيا ناجمة عن خلاصتَين، أمنية واستراتيجية
تراجُع موقع فرنسا ودول الغرب ونفوذها في منطقة الساحل، يفسح المجال لتعاظم دور اللاعبين الجدد، كتركيا وروسيا، اللتين عارضتا منذ زمن بعيد الوجود العسكري لباريس فيها. لن يدفع هذا الواقع فرنسا إلى الخروج الكامل منها، بحسب جيرار جيرولد. وعلى الرغم من أن مصالحها الاقتصادية باتت أقلّ أهمّية ممّا كانت عليه قبل ثلاثة عقود، فإن المعايير التي تحدّد مصالحها الوطنية وتَحكم سياستها الخارجية لم تتغيّر. «فرنسا متوسّطية، وموقعها الجغرافي مقابل لأفريقيا، وبينهما مشتركات تاريخية ولغوية وثقافية. يعيش في فرنسا اليوم حوالى 3 ملايين مهاجر من أصول أفريقية مع عائلاتهم وأبنائهم الذين يمتلكون الجنسية الفرنسية. هذه الجاليات تُمثّل أكثر من 10% من سكّان هذا البلد، واحتفظت بصلات قوية مع دولها الأصلية. هم حوّلوا في عام 2018 ما يوازي 8 مليارات دولار إلى بلدان أفريقية، حيث لديهم وزن متنامٍ على المستوى الاقتصادي، وداخل المؤسسات السياسية. تفرض هذه المعطيات على فرنسا وأوروبا اعتماد سياسة أفريقية طموحة وفاعلة، بما فيها المجال الأمني».
يتقاطع رحمن إدريس مع هذا الاستنتاج، لأنه يَعتبر أن فرنسا غير مستعدّة للانسحاب الكامل من مستعمراتها السابقة. هو مقتنع بأن «المشكلة لا تكمن في التموضع العسكري بذاته، بل في عدم الشروع بالقطيعة مع البنى النيوكولونيالية التي أنشأها النظام الديغولي في عام 1958. على فرنسا أن تُفكّك بقايا منظومتها الاستعمارية». لكنّ إدريس يلحظ مؤشّرات إلى تحوّلات أوّلية في سياسة فرنسا الأفريقية راهناً. يَذكر الباحث أن عوامل كالبيئة الدولية، والأوضاع الداخلية في بلدان القارة، وتقدير الموقف السائد في باريس، تُعدّ مؤثّرة على الوجود الفرنسي في القارة. وعلى الرغم من أن التغيير بطيء وغير واضح المعالم حتى اللحظة، فإنه نتاج لعناصر بنيوية. ويشير إلى أن التدخّلات العسكرية الفرنسية كانت مكثّفة بين عام 1964 في الغابون لإعادة ليون مبا المؤيّد لفرنسا إلى السلطة، وبين عام 1994 خلال حملات الإبادة في رواندا. «هذه النزعة العسكرية ارتبطت بخيار الحفاظ على استقلالية فرنسا على الصعيد الدولي حيال القوّتَين العظميَين في حقبة الحرب الباردة. ولكن بعد هذه الحرب، ومع عمليات الإبادة في رواندا، حيث تورّطت فرنسا لمواجهة الأنغلو -ساكسون، وصلت سياسة العظمة إلى نهاياتها».
تزامَنت هذه النهاية مع اتّضاح عدم قدرة فرنسا على تحمّل أعبائها المالية، وفق ما أظهره تخفيض سعر صرف الفرنك (Franc CFA)، وتقليص عديد القوات الفرنسية في أفريقيا في عهد جاك شيراك. هناك أيضاً عامل ثالث ساهم في تسريع هذا التغيير، وهو الاندماج الأوروبي، الذي يتضمّن فكرة الدفاع المشترك، ومفاعيلها بالنسبة إلى التخطيط العسكري الفرنسي المستقلّ. لكن، بطبيعة الحال، فإن جماعات مصالح في باريس وفي الدول الأفريقية تقاوم مثل هذا التغيير. «عملية ليكورن في ساحل العاج هي نموذج جليّ لهذه المقاومة. أمّا عملية بركان، فهي تكشف جملة من المفارقات لأنها لا تندرج في سياق التدخّلات الاستعمارية التقليدية، لكن المقاربة الإجمالية التي حكَمَتْها لم تتخلّص من مؤثّرات المرحلة الاستعمارية. هي لم تكن ممكنة لولا البنية التحتية العسكرية التي شُيّدت في المرحلة الاستعمارية، فتمّ استقدام القوات الفرنسية المتمركزة في ساحل العاج، واستخدام مركز قيادة العمليات في الغابون، وبقايا المواقع الفرنسية في تشاد. جميع هذه الحقائق لا تتناقض مع حقيقة أخرى، وهي بداية تغيير بطيء، ناجم عن تغيّر في قناعات الأفارقة. فرنسا لم تَعُد اللاعب الوحيد في القارة»، يختم رحمن إدريسا.
(سيرياهوم نيوز-الاخبار)