بقلم: ميرفت أحمد علي
آنَ نقرأُ مجموعتهُ الشعريَّةَ (معنىً على التلِّ) ذاتِ الدَّمغةِ الباذخةِ جماليَّاً و فنيَّاً، سنُوقنُ ــ بلا ريبٍ ــ أنَّنا أمامَ شاعرٍ سوريٍّ مُجرِّبٍ و مُدرَّب بما فيهِ اكتفاءٌ و إشباعٌ للذاتِ الإبداعيَّةِ في الإعرابِ عن نفسها بترفُّعِ الواثقينَ، و بتبصُّرِ العارفينَ، إذ يعلمُ هذا الرجلُ جيداً مِن أينَ يُؤكلُ كتفُ الإبداعِ، و مِن أينَ تُوردُ مواردُه، فثمَّ تظاهرةٌ أدبيَّةٌ تُغني بالقليلِ منَ الكَلِمِ عنِ التَّحشيدِ و التَّكثيرِ، و تُوجزُ الدِّلالاتِ و المراميَ مصوغةً بخميرةٍ شعريةٍ تشكَّلتْ ــ على ما يبدو لدى شاعرنِا (صقر) ـــ مِن مديدِ اطلاعٍ على أشعارِ الشرقِ و الغربِ، ليأتيَ (خبزُ الشِّعرِ) شهيَّاً، مُقمَّراً، ماثلَ الطَّزاجةِ و الطراوةِ متى ما راودتكَ كقارئٍ شهيَّةُ التذوُّقِ، و على مساحةِ الديوانِ الشعريِّ ذي المقطَّعاتِ الشعريةِ المُترسِّلةِ حيناً، و الوجيزةِ تارةً. إنَّه (صقر عليشي) المبدعُ الوِتْرُ، الأَلمعيُّ، ابنُ (عينِ الكروم)، الذي آثرَ تتويجَ تلٍّ بمعنىً؛ ليبقى قِبلةً للنَّاظرينَ، مَن عاصروهُ و مَن تبِعوه، و أخذَ فيهِ مِن أسبابِ التجميلِ و التحديثِ في الصُّنعةِ مأخذَ تطويرِ المبنى و المعنى، و قد راودَ اللغةَ عن سرِّها، فسلَّمتْ مفاتيحَ وُلوجِها راضيةً مرضيَّةً ذاتَ (سِيرانٍ) لهما: (خُذِ المفتاحَ/و ادخلْ في الضَّبابِ/ وغلَّ/ لكي تغلَّ/ و ليس إلَّا/ و عبَّ منَ الغموضِ على حسابي). يُفصحُ الديوانُ عن كثيرٍ مِن لذاذةِ التَّبجُحِ بالمسموعيَّةِ الأدبيَّةِ الحسنةِ، و بجَودةِ الأداءِ و التصرُّفِ الشعريِّ، مردُّهما سعةُ اطلاعِ الشاعرِ و ثقافتهُ العامةُ، مشفوعةً بدرايةٍ حكيمةٍ بالتشكيلِ اللغويِّ المناسبِ للدلائلِ المنشودةِ، و بالَّلبوسِ اللفظيِّ المُوائمِ للفكرةِ. ما تمخَّضَ عنهُ عزفٌ منفردٌ على (كمانِ) الشِّعرِ، الشِّعرُ الذي هو في رأي (عليشي) عالمٌ سرابيٌّ، ممسوسٌ بالحُلمِ لا باليقينِ، الذي لا يعترفُ بهِ الشعراءُ، و لو فعلوا؛ لانتحرَ الشِّعرُ شهيدَ غبائِهم: (سترى هنا الأفكارَ/تلعبُ بالسماءِ على سجيَّتها/و تقضمُ كستَنا/ سترى هنا الآفاقَ تنشرُ حيرةً/ و ترى السرابَ أمامَ خيمتهِ/ وراءَ المُنحنى/ أمَّا اليقينُ؟!/ فما تدلَّتْ خصيتانِ لهُ هنا) و في منازلَ عديدةٍ منَ المعنى المخبوءِ في تلِّ (صقر)، يبدو شاعرُنا مأسوراً بالطبيعةِ، بل كائناً شعرياً يُعنصِرُ نفسهُ فيها، و لا يستقبحُ أيَّاً مِن مكوِّناتِها. ففِي (القصيدة العالية)، التي تتطلَّبُ ــــ وحدَها ــــ دراسةً فنيَّةً مستثناةً، يقول: (ليستْ لي حكمةُ أشجارِ الصفصافِ/ لأجلسَ قربَ النهرِ/ و أتركَ أحزاني/ تمضي معهُ/ ليستْ لي حكمةُ ماءِ النهرِ/ لأجريْ/ لا يأخذُني نحوَ الخلفِ حنينٌ/ لا أقدرُ إلَّا أنْ أتبعَهُ) و في (معنىً على التلِّ) لم يكُ شاعرُنا مغلولاً إلى حبِّ المرأةِ، أو متشهِّياً وِصالها، أو طالباً وِدَّها مِن قريبٍ أو بعيدٍ كما حالُ سوادِ الشعراءِ، و هذا ــ لَعمري ــ ما يصبُّ في مرمى شِعرهِ من أهدافٍ مُرجِّحةٍ، فنحنُ ــ وفْقَ ما يتراءى لنا ــ أمامَ شاعرٍ دأبَ على التحلُّلِ مِن كلِّ ورطةٍ، حتى لو كانتْ عاطفيةً، و تسامى عنْ كلِّ ما يُوهنُ العزيمةَ الأدبيَّةَ، و يدسُّ العصا في عجلةِ الإبداعِ؛ كُرمى للإبداعِ وحدِهِ، الهدفِ الأمجدِ و الأَجلِّ، ما وقفَ حياتَهُ عليهِ؛ فلا يأتي على ذكرِ حوَّاءَ و أَخواتِها إلَّا عرَضاً، و بتقتيرٍ بَيِّنٍ، و كأنَّما على مضضٍ، و لضرورةِ تبكيلِ المعنى، و ذلك تحديداً في الثُلثِ الأخيرِ من الديوان. حتى النبيذُ، فإنَّهُ وُجدَ لا ليُحتسى مع الحبيبةِ في الليالي الحمراءِ، بل ليُحالَ إلى الأدبِ كمعنىً و كغايةٍ في حدِّ ذاتهِ: (هذا عنقودٌ كانَ توَارى/ يظهرُ أنَّ لديهِ نوايا/ في الهربِ/ سأُلاحقهُ في العتمةِ/ و هْوَ يصيرُ نبيذاً/ و أُحيلُ لكم معناهُ/ إلى الأدبِ) و بمِخيالهِ الإبداعيِّ الذي يُلبسُ اللغةَ فِتنةَ المجازِ، يعقدُ (الصقرُ) مُنادمةً لا بدَّ منها حتى معَ المفاهيمِ الرياضيةِ المجرَّدةِ، التي يعرّي تفاصيلَها الحسيَّةَ و النفسيَّةَ بألحاظِ الصقورِ الحادَّةِ، و بمَا لها مِن قدرةٍ على التفرُّسِ و الاستبطانِ، و هذهِ مكاشفةٌ أَجراها معَ (المستقيم): (هوَ المستقيمُ الذي تعرفونَ/التقيْنا معاً ليلةً/ كانَ متَّجهاً نحوَ بعضِ الحقائقِ/ أيضاً أنا كانَ لي/ ما أسيرُ إليهِ/ شربْنا النبيذَ و راقَ المزاجْ/ و ساءَلتُهُ عن أمانيهِ بعدُ؟!/ فقالَ: قليلٌ منَ الاعوجاجْ) و تمادى الشاعرُ في الشَّخصنةِ و الأنسنةِ، فلم يُغفِلْ جماداً إلَّا و أنطقَهُ، و لا معنىً إلا و استقادَهُ إلى دروبٍ تعبيريَّةٍ مُريبةٍ و مخاتلةٍ، و لا عامراً لهذهِ الأرضِ إلَّا و أعادَ تدويرَهُ، و عبثَ بصلصالهِ و بعُنصرهِ كما شاءَ لهُ هوى الشِّعرِ و الكلَفُ بهِ. فها هوَ في بديعهِ الموسومِ بـ (فنِّ القولِ)، يفرضُ على (المرآةِ) و على (الدائرةِ) قراءةً فيزيائيَّةً تُنبئُ عن خفَّةِ ظلٍّ و دماثةِ معنىً، و يُفلسفُ موقفَ (الإبرةِ) منَ الحياةِ، و تكادُ (البصلةُ) أن تُشاكِلَ بحكمتِها و باعتدادِها بنفسِها كبارَ الشُّعراءِ المتقدِّمينَ، حتى لكأنَّها (البُحتريُّ) في تأبِّيهِ و تمنُّعهِ، إذ يقولُ في سينيَّتهِ الشهيرةِ: (صنتُ نفسي عمَّا يدنِّسُ نفسي/ و ترفَّعتُ عن جَدا كلِّ جِبسِ، و تماسكتُ حين زعزَعني الدهرُ/ التماساً منهُ لِتَعسي و نَكسي). و كذا الأمرُ يتضافرُ فيهِ الكوميديُّ و المُستملحُ، معَ الشَّفيفِ الرَّهيفِ غيرِ المُتكلَّفِ لفظاً، مُنسحباً على (السرِّ) و (النبيذِ) و سواهُما مِن شوَاغلِ فكرِ شاعرِنا الأغرِّ، الذي يوشكُ بمفرداتهِ البريئةِ المُسترقَّةِ كالكريستال أن يعانقَ الهواءَ و يُصافحَ الماءَ، متخِّففاً مِن كلِّ احترازٍ، مُتمادياً في ذاتيَّتِه و في تَذويتِ كلِّ ما يلمسُ و يرى أمامَ عينيّ ذاتهِ الحادَّتين حِدَّةَ نواظرِ الصقورِ، و يبدو في ذلك كلِّهِ آخذاً مِن اسمهِ بأَوفرِ نصيبٍ، يمارسُ الكتابةَ و العيشَ على الحافَّةِ، مُؤثراً الإقامةَ عندَ منابعِ الإدهاشِ، و منابتِ الإمتاعِ، و مُنعطفاتِ المؤانسةِ. انظرْ إلى هذا التَّخفُّفِ من وعورةِ اللفظِ، و تعقُّداتِ المعنى، و غرائبيَّةِ الترميزِ، حينما يتمجَّدُ الشاعرُ بإرثهِ الإبداعيِّ غابِطاً نفسَه عليهِ، غيرَ مُغترٍّ بهِ أو مُتصالفٍ. يقولُ في (غزو فضائي): (صعدتُ السلالمَ أجمعَها/ سُلَّماً سُلَّما/ فوصلتُ سماءً بعيدة/ صعدتُ سماءً/ سماءً/ إلى أن وصلتُ القصيدة) لقد نجحَ الشاعرُ (صقر عليشي) إلى حدٍّ جَلِيٍّ في تطويعهِ المَرنِ للفائضِ من شعورهِ إلى لغةٍ، لكنَّها لغةٌ بريئةٌ كلَّ البراءةِ منَ التَّرسنَةِ اللغويةِ التي يتحصَّنُ بها بعضُ الشعراءِ المعاصرينَ ابتغاءَ التَّمايُزِ و التَّفردِ الشكلانيِّ، فأنْ يعمدَ شاعرٌ إلى التَّمترُسِ خلفَ ترسانةٍ لغويةٍ مُطعَّمةٍ بغريبِ القولِ، و بشواذِّ اللفظِ المُنبتِّ عن لغةِ العصرِ، فيعمدُ إلى التَّقعيرِ في الكلامِ، أو استقطارِ الغرائبيَّةِ في المعنى؛ بهدفِ كسبِ الشُّهرةِ، هو برأيِ (باولو كويلو) صائدٌ في ماءٍ مُعتكرٍ غيرِ ماءِ الإبداعِ. يقول (كويلو): (وراءَ كلِّ تعقيدٍ لغويٍّ كبيرٍ، عملٌ أدبيٌّ يتوهَّمهُ الأغبياءُ، عملاً إبداعيَّاً عظيماً). و (كويلو) في ذلكَ يُقرُّ بأولويَّةِ المعنى على المبنى، و بعُمقِ الفكرِ لا بُعمقِ الألفاظِ و توغُّلِها في الماضويَّةِ و تمنُّعِها عن الأَفهامِ، و هذه الأولويَّةُ ماثلةٌ على مجملِ ما أصدرَ الشاعرُ القديرُ المُجدِّدُ (صقر عليشي) من دواوينَ شعريةٍ حتى الآنَ، و يبدو أنَّ جِبلَّتهُ الشعريةَ النقيَّةَ ، و عُنصرَهُ المصفَّى الرَّائقَ، قد بلغا أوجَ الاكتمالِ و الاستواءِ في ديوانهِ الماتعِ الرَّهيفِ: (معنىً على التلِّ)، الذي شغلَ الصحافةَ و الإعلامَ و ما يزالُ منذُ إشهارهِ عام 2014، علماً بأنَّهُ ليسَ إصدارَهُ الأخيرَ، فقد أصدرَ للتوِّ (أسطورةٌ فينيقية). وفي (معنىً على التلِّ) جازفَ الشاعرُ؛ فاقتعدَ على (الحافَّةِ)، مؤثراً المقامرةَ بكلِّ ما يملكُ مِن رصيدٍ لغويٍّ شديدِ العَصرنةِ، و حسٍّ بلاغيٍّ و تصويريٍّ عالي الدِّقةِ، آلتْ بموجبهِ الكلماتُ إلى أرياشٍ لفنَّانٍ تشكيليٍّ بارعٍ، أنفذَ سهمَ إبداعهِ في المياهِ العميقةِ لذواتِنا الحسَّاسةِ، و نحتَ (بورتريه) معنوي مُستظرف، مُستلطف، أنعشَ مكامِنَ التفكيرِ الرَّاكدِ لدينا، و ألَّبَ الخيالَ على الجموحِ، و على التَّحررِ من الأُنشوطةِ الآخذةِ بتلابيبهِ، و على مُشاطرةِ الشاعرِ لعبةَ المَجازِ. فالكتابةُ فعلٌ تنويريٌّ، انقلابيٌّ على الواقعيِّ و المأنوسِ، حتى لكأنَّها تنتمي إلى كوكبٍ آخرَ. قال (وديع سعادة): (الكتابةُ لا تسكنُ في الحياةِ، مسكنُها في مكانٍ آخرَ، على الحافَّةِ، في المُتوهَّمِ). هذا ما أدركَهُ مُبكراً صاحبُ ديوانِ (معنىً على التلِّ)، فقد بلغَ السِرَّ، و كشفَ المستورَ بقصائدَ مُؤلِّبةٍ، لكأنَّهُ ــــ هوَ نفسُهُ ـــ كائنٌ شعريٌّ مسكوبٌ في نصٍّ نبيذيٍّ معتَّقٍ. و لنُسائِلْ أنفسَنا، و قد دأبَ الموتُ على التَّطويحِ بالمبدعينَ الكبارِ مؤخَّراً: ما مفهومُنا للشاعرِ (الكبير)؟ أهوَ مَنْ بلغَ أرذلَ العُمرِ، فاستحقَّ (كرَمَ الالتفاتةِ) لمجرَّدِ طُعونهِ في السنِّ؟ أم أنَّه صائدُ الجوائزِ الأدبيةِ عن حُسنِ حظٍّ و بلاء، أو محضَ صُدفةٍ غرَّاء؟ أم هوَ صاحبُ أوقعِ أثرٍ في نفوسِ القرَّاء؟ و لَعمري، فإنَّ صاحبَ المعنى المكنوز في التلِّ المحظوظ، (صقر عليشي)،يقفُ على التُّخمِ الخَضرميِّ المناسبِ للحظةِ الالتقاطِ قبلَ فواتِ الأوان، فهوَ ليسَ بالشاعرِ الكهلِ، و لا بالشاعرِ الصَّاعدِ، بل إنَّه المُجَوِّدُ في صنعتهِ، و علامةٌ بارزةٌ ــــ حتى للعُميانِ ــــ في المشهدِ الفُسيفسائيِّ الشعريِّ الراهنِ. فماذا ننتظرُ لتكريمهِ؟ تعريف صقر عليشي هو شاعر سوري من مواليد 1 ديسمبر 1957 قرية (عين الكروم( ، سهل الغاب في محافظة حماة السورية..مقيم في دمشق..مؤسس دار (الينابيع) للطباعة و النشر في دمشق. من إصداراته الشعرية: 1984– (قصائد مشرفة على السهل) 1989 – (الأسرار) 2000 – (قليل من الوجد) 2003 – (أعالي الحنين)، منشورات رؤى ثقافية، بيروت .2007 – (عناقيد الحكمة) .1990 – (أحاول هذا الكلام الوثير) قصيدة حب، دار الحصاد للنشر والتوزيع 2014 ــ (معنى على التل) الهيئة السورية للكتاب 2022 ــ (أسطورة فينيقية)
(سيرياهوم نيوز١٧-١-٢٠٢٢)