وائل العدس- ت: طارق السعدوني
الأحد, 30-01-2022
حين تعود الذاكرة بنا إلى سنوات مضت، يأخذنا الحنين إلى أصوات أطربتنا وعشنا معها قصص حب وأمل وألم، ارتبطنا بأصحابها الذين اقتحموا الساحة الفنية فلامسوا قلوبنا، وصنعوا تاريخاً عريقاً، لكنهم ابتعدوا تاركين وراءهم جمهوراً لا يزال يحفظ ويردد أغانيهم.
«ولدتُ مبتسماً» هكذا يصف المطرب السوري الكبير موفق بهجت ولادته يوم 17 آذار عام 1938 حيث حمل منذ ذلك الحين لقب «صانع البهجة»، قبل أن يبتعد عن الأضواء منذ أكثر من عشرين سنة، بعدما حفر مكاناً مرموقاً له في ذاكرة التاريخ الغنائية العربية.
هو مطرب ذاع صيته في الفترة الذهبية للأغنية السورية عندما كانت لها هوية واضحة، مقدماً للمكتبة الغنائية العربية أجمل الأغاني التي مازالت الناس وفيّة لها.
يمتلك حساً استثنائياً بالكلمة التي يغنيها، فتتسرب إلى أعماقه وتذوب في وجدانه، ويتنقل بخفة بين إيقاعات موسيقية متنوعة في أداء مبهر.
حقق شهرته الفنية في لبنان منتصف الستينيات عندما تم تصنيعه إعلامياً بشكل لائق بفضل أشخاص أوفياء للفن الراقي فأطلق أولى أغنياته بعنوان «عشقت في الأندلسية».
تعاطى بطريقة مختلفة وفريدة مع التراث الغنائي والألحان الفولكلورية، حيث لم يكن يستنسخ الكلمات والألحان بشكل ثابت كما حفظها التراث، بل أخذ يضفي لمساته عليها سواء لناحية كلماتها التي أدخل إليها إضافاته أو لناحية الألحان التي استفاد من مواهب الملحنين المحيطين به في تعديلها كما فعل بأغنية «يا صبحة هاتي الصينية» المستوحاة من التراث المغاربي.
في الحلقة الأولى نستعرض مع فناننا الكبير بداياته الفنية وانطلاقته في لبنان وأسباب ابتعاده لفترة طويلة إضافة إلى العديد من الحكايات والأسرار، وإلى التفاصيل:
• آثرت الابتعاد منذ عام 2000، أي ما يقرب من 21 سنة فما السبب؟
أحياناً يضطر الفنان إلى الابتعاد بسبب ظروف ما، صحية كانت أم اجتماعية، وأحياناً يبعده حدث جلل احتراماً، أو يفضّل الاستراحة كاستراحة المحارب، عسى ولعل أن يعود مجدداً للساحة.
قدّمتُ فناً ملتزماً واستعراضياً في مهرجانات كانت تقام في سنوات العطاء الكبير لسورية الحديثة، وكان من حسن حظي أن أكون النجم المركزي الأول الذي يُعتمد على عطائه في الأغنية الوطنية وغيرها من الأغنيات التي يحبها الشعب السوري.
منذ السبعينيات وحتى الألفين كنتُ جندياً في خدمة الوطن، فالفن سلاح أيضاً، وكنتُ ملتزماً بقناعة وجدانية بأن أنتج ما أحبه لوطني على نفقتي الخاصة، وكنتُ أطل بزخم في كبرى المهرجانات التي يستدعى إليها كبار النجوم من كل الدول العربية مثل محمد رشدي وعبد الحليم حافظ ووردة الجزائرية.
أضأتُ على مرحلة مفعمة بالعطاء والإيمان بفن خالص ووطن عزيز ورسالة خالدة، حرصاً مني أن أكون في مكان لائق.
• هل ابتعادك استراحة محارب بحق أم اعتزال مبكر؟
سأكون واضحاً للغاية، حزني كان كبيراً على رحيل القائد المؤسس حافظ الأسد، ولم أكن قادراً على الغناء بعد رحيله لفترة طويلة.
بعدها اختلطت أمور الفن كثيراً، وانحدر المستوى الثقافي والفني، وفضّلت ألا أكون شاهداً على ذلك، فآثرت الابتعاد رفعة واحتراماً لنفسي حتى لا أكون رقماً على الهامش.
وهناك سبب آخر للغياب أنني تزوجت عام 1985 في تشيكوسلوفاكيا من فتاة جميلة تدعى دانييلا بعد قصة حب، وأنجبت منها ثلاثة أطفال هم كريم وآلان وجوليا، ليصبح عندي خمسة أطفال أحبهم جداً إلى جانب حسام وطارق اللذين أنجبتهما من زوجتي «أم حسام» رحمة اللـه عليها.
حينها كنت بحاجة للأبوّة، لأنني حُرمت منها في زواجي الأول بسبب كثرة سفري حيث كانت «أم حسام» تحمل الحمل وحدها.
• كيف تصف علاقتك مع الرئيس الراحل حافظ الأسد؟
كان جاري في شارع الباكستان في دمشق، وعلاقتي به هي علاقة الجار العظيم المتواضع.
وطبعاً، لم يرض عني بعض الساسة قبل تقلد الرئيس الأسد الحكم فأبعدوني إلى بيروت، لكنني بعد السبعين استعدت كرامتي وقوتي بفضله.
غنيتُ في عهد القائد الخالد حباً ووفاء، وأكملت المسيرة وغنيتُ في عهد الدكتور بشار الأسد حُباً وأملاً، وكنتُ وسأبقى وفياً لهما ولوطني.
• خلال العشرين سنة التي كنت فيها غائباً عن الأضواء كيف كنتَ تقضي وقتك؟
كنتُ الحاضر الغائب، والغائب الحاضر، أو وربما مغيب أو طي النسيان، وهنا لا أوجه الاتهام لأحد، بل أعتقد أن سوء التنسيق الإعلامي غيبني عن الشاشات السورية بعدما كنتُ ضيفاً دائماً عليها في كل المناسبات والأزمان والأمكنة. وأظن أن سورية بحاجة للأغاني القديمة التي أضاءت درب الثقافة وأطلقت الأفراح وأثرت في الشعب ونالت إعجابه.
• لكن أغانيك حاضرة على مواقع التواصل الاجتماعي.
هذا المهم بالنسبة لي، فالجمهور هو بوصلتي، وأنا حريص على التواصل مع هؤلاء الناس الذين يحتفظون بذاكرتهم ويعرفون قيمة ما قدمته بعدما سكنتُ قلوبهم.
لا أريد الإضاءة على نفسي استجداءً للقاء أو تواصل، وقد آثرت الانسحاب عندما وجدت دوري قد انتهى، وربما هذا القرار أفرح البعض وأصاب البعض الآخر بالنسيان.
• هل مازلتَ قادراً على العطاء لتقديم أغنية تختم فيها مسيرتك بعد انقطاع طويل؟
لم أنقطع طويلاً، وقدمتُ عدة أعمال في عهد «الأمل والعمل»، لأنني كنت ومازلتُ وفياً لبلدي ولرئيس بلدي.
ما حصل أن محاولاتي كانت تذهب للمكاتب وتُدفن في الدروج، وقد نفذتُ بعضها على نفقتي الخاصة بحب وأمل، فغنيت للجيش العربي السوري ولدمشق قلب العروبة النابض، وإحدى الأغنيات التي كتبتها ولحنتها وغنيتها أبكتني مرتين، لأنني تأثرت فيها من ناحية ولأنها لم تأخذ حقها الطبيعي من ناحية ثانية.
• لنعد إلى الوراء، من اكتشف موهبتك؟ وكيف تيقنت أنك ستصبح مطرباً مشهوراً؟
كنتُ صديقاً للفنانين، وكنت متذوقاً للفن الراقي، كنا نعقد جلسات واجتماعات وسهرات في منزلي بمشاركة العديد من الفنانين منهم خلدون المالح وفهد بلان وشاكر بريخان وعبد الرحمن آل رشي وعبد الفتاح سكر وسمير حبيب وحينها لم أكن قد تعاطيتُ الغناء، بل كنتُ آمل أن أكون مخرجاً للمنوعات وحسب.
وفي يوم ما، كان عبد الفتاح سكر يردد أغنية أمام فهد بلان ليحفظها، فتدخلتُ حباً، فاستشاط غضباً مني وسألني: «عم تعملّي فيها مدرّس أمامي أنا المعروف من المحيط إلى الخليج»، فقلت له إنني أستطيع الغناء وملء المسرح فرحاً وحركة، فطلب مني أن أغني فغنيت من باب التسلية فقال لي إن صوتي جميل.
ووقتها لم يكن في بالي الغناء أبداً، وكنتُ صديق الفنانين فقط، لكنهم كانوا يصفوني بـ«الذواق»، ولاحقاً عندما بدأت مشواري الفني وصفوني بـ«صانع البهجة» لأنني أطل على المسرح وأنا مبتسم دائماً.
• وأنتَ قلت إنك ولدتَ مبتسماً؟
نعم وغنيت مبتسماً، هذه نصيحة والدتي عندما كانت تقول لي: «لا تكن باكياً لأن البكاء ما حدا فاضي له، ولا تكن ضاحكاً لأن الضحك ينقص من الإنسان، فقط ابتسم يتوه خصمك ويحبك».
• ولنعد إلى بداياتك، كيف أكملت مشوارك الفني؟
سافرتُ إلى بيروت التي شكّلت لي نقطة انعطاف، وكنتُ مصمماً أن أصنع لوناً خاصاً بي، فاخترت أغنية للشاعر السوري مصطفى البدوي اتكأ عليها مطرب عالمي اسمه إنريكي ماسياس وهي بعنوان: «أنا هجرت وطني» للملحن سليم الهلالي، وقد استعرتها لأنني كنتُ معجباً بالفلكور الجزائري، وأحببت حينها الغوص بالأغاني الشعبية فكان ظهوري ملفتاً منذ المرة الأولى.
• ما هو سر ظهورك الملفت رغم أنها أول أغنية لك وسط زحمة من النجوم في لبنان؟
ربما يكون الموضوع قدرياً، فقد كنتُ في سهرة مع المايسترو عبود عبد العال ومعد برنامج «11بـ 11» خلدون المالح، وكان حينها برنامجاً مشاهداً جداً وكان خلدون نفسه شاغل الدنيا في لبنان، فقدّمني لأول مرة في حياتي وقال للجمهور: «سأفاجئكم بشخص عزيز عليّ، إن نجح فصفقوا له، وإن لم ينجح سيكون حظه عاثراً، لكنني سمعته وأحببت صوته، معكم الفنان الجديد موفق بهجت».
فصعدتُ إلى المسرح وأمسكتُ الميكروفون بيدي رغم أن كل الفنانين كانوا ملتزمين بالميكروفون الثابت، فغنيت لثلاث دقائق ونصف ومجرد ما انتهيت حتى صفق لي الجمهور بحرارة، ووقف في وجهي مدير التلفزيون وطلب مني الإمضاء على عقد وقال لي: «إنك ولدتَ نجماً يا بني»، كان عمري حينها 24 عاماً وكنتُ أقف فيها أمام الجمهور للمرة الأولى، لكن اللـه وفقني فيها.
• الأغنية التي غنيتها وقتها كانت «عشقت في الأندلسية» وهي جزائرية الأصل.
طبعاً، كانت هذه الأغنية مدخلي للشهرة، فتبنوني هناك في لبنان لثلاث سنوات، ولم يسألوني عن ديني ولا أصلي ولا فصلي، بل قاموا بدعم موهبتي فقط.
وفقني اللـه في أول إطلالاتي، لكني كنتُ قد خططت لها بحركاتي ولباسي لأكون فريداً لا أشبه أحداً ولا أحد يشبهني.
• وهل كان لوسامتك دور بحضورك المتميز؟
سؤال خطير جداً، الوسامة لم تكن تكفي في ذلك العصر، فإلى جانبها من المفترض أن تمتلك الحضور والصوت الجميل والأغنية المتميزة والعلامات الفارقة.
• لكنك حينها كنتَ معشوق البنات.
كنتُ محبوباً ومدعوماً من الشباب والبنات، وخاصة من الفئة المثقفة، وقد تجاوزت كل العقبات التي واجهتني في لبنان.
• مثل «يا صبحة» و«بابوري رايح»، ما السر بأنها ما زالت حاضرة حتى الآن؟
لأنها تنتمي إلى السهل الممتنع، عندما غنيتُ القصيدة وسمعني صباح القباني والشاعر الكبير نزار القباني قالا لي «ابق على هذه ثقافة الرحابنة وحافظ على السوية نفسها»، لكنني تعثرت بأن أكون في مجموعة الرحابنة، فقد غلبني عبد الفتاح سكر على مضض ولم يكن يريد لأحد أن يلحن لي، وفي أحد الأيام أخبرني بأن «الدور جاء على الأغاني الشعبية، فإن لم تغنها لن تترسخ بأذهان الجمهور، وأنت بحاجة لها لأنها ستدعمك بين الناس»، فقدمت تلك الأغاني وكثير من الأغنيات الفلكورية.
أغنية «بابوري رايح» قدمتها في حفل تلفزيوني، وفي اليوم التالي أصبح الناس يلحقونني في الشارع ويرددونها على مسمعي.
ومن المؤسف أن الفنان العراقي إلهام مدفعي غناها منذ عدة سنوات ونسبها إلى الفلكور ولم ينسبها لي ولا لعبد الفتاح سكر ولا للشاعر عبد الجليل وهبي، وحزنت لأن فناناً محبوباً مثله لا يذكر مصدر الأغنية، علماً أن كثيراً من الفنانين قدّموا أغنياتي.
هذه الأغنية تصدرت المشهد الفني منذ عام 1966، إلى أن رحلت إلى القاهرة وغنيت في أضواء المدينة مع الكبير جلال معوض المسؤول عن احتفالات صوت العرب، وكانوا يلقبونني بـ«المسحراتي» لأنني كنت أوقظ الناس النائمة بأغنية «بابوري رايح» و«يا صبحة».
وللأمانة، كنت أرفض هذه الأغاني لأنني لم أكن ميالاً لهذا النوع، لكنني غيرت بها وأصبحت جماهيرية.
وعلى فكرة حضرت مسرحية عام 1978 على مسرح الحمراء، ولفتتني جملة فيها، فأوحت لي بأغنية «جايتني مخبابة» التي سجلتها في بيروت وكانت علامة فارقة في الغناء العربي، فغناها كثيرون ولكنهم لم يذكروا أن الأغنية لي بالأصل أيضاً.
• بالعودة إلى أغنية «يا صبحة»، هل ورودها في مسلسل «ملح وسكر» ساهم في انتشارها؟
لا شك من ذلك خصوصاً بوجود نجوم عظام أمثال دريد لحام ونهاد قلعي وناجي جبر ونجاح حفيظ وياسين بقوش ومحمد عقاد وغيرهم، هؤلاء كانوا الجنود المجهولين لظهوري اللائق.
ويومها ذهبنا إلى منزل دريد لحام أنا وشاكر بريخان وعبد الفتاح سكر لترتيب أغنيات المسلسل، فطرحتُ عليهم أغنية من الفلكلور التونسي باعتبار كنتُ أدرس الفلكلوريات العربية، وأغنية «يا صبحة» من كلمات وألحان شاكر بريخان، وحققت نجاحاً منقطع النظير.
البعض ربط الأغنية باسم والدة الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، وهذا غير صحيح أبداً، لأن الأغنية قُدمت منذ عام 1971 وليس في الثمانينيات عندما منعوني من دخول العراق، فالأغنية ليس لها أي توجيه ولو بمثقال ذرة.
(سيرياهوم نيوز-الوطن)