رامي الشاعر
بدت لهجة وزير خارجية روسيا سيرغي لافروف متشائمة حول نتائج محادثاته مع نظيرته البريطانية إليزابيث تراس. حتى أنه وصف حوار روسيا مع بريطانيا، وربما الغرب بصفة عامة بـ “حوار الطرشان”
قالها لافروف بعبارات دبلوماسية ملطفة إن العلاقات بين روسيا وبريطانيا “تنتظر مزيداً من التحسّن” نحو ما نأمله، إلا أن العلاقات، وكما أشار الوزير الروسي أيضاً، “في أدنى مستوياتها منذ سنوات”.
إن مشكلة العلاقات الروسية الأوروبية، وعلاقة روسيا بالغرب بشكل عام هي ما يعانيه الغرب من عقدة التفوق والاستثنائية والجرأة ولا أقول التبجح في فرض قواعد اللعبة بما يتناسب والمصالح الأوروبية أو الأمريكية، دون النظر إلى مصالح الأطراف الأخرى. فما تطالب به روسيا، خلال ما عرضته من مقترحات بشأن الضمانات الأمنية، ليس سوى محاولة بناءة وشرعية للتعامل مع الشركاء الغربيين على أساس مبادئ المساواة واحترام مصالح جميع الأطراف بلا تعالٍ أو فوقيةٍ أو استثنائية، ومراعاة تلك المصالح، بندية وتساوٍ. ما تطلبه روسيا ببساطة هو ما عبّر عنه لافروف بأن العلاقة لابد وأن تكون كطريق باتجاهين لا باتجاه واحد فقط، تفرض فيه أحد الأطراف الإملاءات والشروط والإنذارات والتهديدات والحصار والعزلة على أطراف أخرى.
ليس ذلك ضرباً من ضروب الخيال، وليس “تطاولاً” روسياً على ما فرضه الغرب على روسيا في حقبة التسعينيات، بموجات تمدد “الناتو” الخمس نحو الشرق، وإنما هو واقع تفرضه دوائر الأعمال والمصالح الروسية الأوروبية المشتركة، سواء على مستوى التبادل التجاري مع بريطانيا، الذي بلغ في الفترة من يناير إلى نوفمبر من العام الماضي أكثر من 24 مليار دولار، أو على مستوى مشروع “السيل الشمالي-2” الضخم، لنقل إمدادات الغاز الروسي إلى أوروبا، وغيرها من المشاريع الناجحة اقتصادياً، إلا أن السياسة، وتحديداً الإملاءات الأمريكية، تقف حجر عثرة في سبيل تحقيقها وازدهارها.
فتبادل المنافع والمصالح، وتعزيز تلك التوجهات، لابد وأن يكون مثالاً حياً على إمكانية إيجاد أرضية مشتركة، لتقارب الشعوب، واحتمائها بمظلة أمنية تحمي أمن الجميع، دون إهمال أي طرف من الأطراف. كذلك فمن بين أمثلة التقارب بين روسيا وأوروبا ما يجري في أروقة التبادل الثقافي والإنساني، حيث تمتد تلك التقاليد إلى قرون مضت، أثرت فيها أوروبا المشهد الثقافي والفني والفكري الروسي، كما أثّر الإرث الثقافي والفكري الروسي على تطوّر الحياة الثقافية في أوروبا، حتى في أحلك عصور الحرب الباردة، التي تمكن فيها الفنانون والمثقفون السوفييت، من جميع أنحاء الاتحاد السوفيتي السابق، من مدّ جسور التعاون الإنساني مع أقرانهم في أوروبا.
لكن البحث عمّا يفرّق ولا يجمع لا يزال سيد الموقف، وازدواجية المعايير والانتقائية في قراءة الاتفاقيات والمعاهدات والقوانين وتنفيذ ما يعجب الغرب، وتجاهل بقية النقاط، لا يزال نقطة الخلاف الرئيسية بيننا وبين الغرب، الذي يصرّ على تجاهل ما تمت صياغته في قمتي منظمة الأمن والتعاون في أوروبا بإسطنبول، نوفمبر عام 1999، وفي أستانا، ديسمبر عام 2010، بشكل واضح وصريح، من التزام جميع الدول بعدم تعزيز أمنها على حساب أمن الآخرين، مع التأكيد، بطبيعة الحال، على حق كل دولة مشاركة في اختيار أو تغيير طريقة ضمان أمنها بحرية، بما في ذلك المعاهدات التحالفية أو حقها في الحياد.
تنتقي أوروبا حق الدول في اختيار طريقة ضمان أمنها، وبالتالي حق جميع الدول في الانضمام إلى “الناتو”، بينما تغفل ما يسببه ذلك من تعزيز أمن تلك الدول على حساب إهمال الأمن القومي لروسيا. بمعنى أنه من حق “الناتو” أن يتوسع شرقاً كيفما وأينما شاء، وله في ذلك كل الحقوق والمبررات، بينما لا يحق لروسيا أن تعلن عن قلقها إزاء ذلك التمدد، أو حتى أن تعيد تشكيلاتها العسكرية داخل أراضيها، دون أن يثير ذلك هستيريا جماعية غربية، وسيل من الاتهامات والأخبار الكاذبة والمفبركة حول “غزو متوقع لأوكرانيا”، بل وإجلاء موظفي السفارات الأجنبية من العاصمة الأوكرانية، وحث المواطنين على مغادرة الأراضي الأوكرانية، في خطوة أثارت حتى حفيظة الأوكرانيين أنفسهم، لما لها من تأثير سلبي على الاقتصاد الأوكراني المنهك بالأساس.
بذات الكيفية، يقول الاتحاد الأوروبي لروسيا إنه “ليس لدى الروس ما يفعلونه في البلقان”، وكذلك الحال في إفريقيا، بينما نعلم جميعاً ما حدث في ليبيا عام 2011، كما نعلم أن الولايات المتحدة الأمريكية قد عيّنت سفيراً متجوّلاً في للإشراف على “إصلاح قوانين الانتخابات في البوسنة والهرسك”! ألا يعني ذلك تدخلاً أمريكياً في العملية الانتخابية في البلقان؟ ألا يعد ذلك تعدياً على مفهوم السيادة؟
يعلن “الناتو” دائماً عن الطبيعة “الدفاعية” لوجوده كمنظمة “دفاعية” تحمي أمن أعضائها. لكن “الناتو” يعجز عن تفسير ضرباته ليوغوسلافيا أو ليبيا أو العراق، التي أعلن بعد ذلك توني بلير أنها قُصفت استناداً إلى “ذريعة خاطئة”! بهذه البساطة يتعامل “الناتو” مع قصف البلاد والعصف بأمنها واستقرارها والتضحية بمئات الآلاف والملايين من البشر، بسبب “بلاغ كاذب”، أو ربما أكاذيب مختلقة كتلك التي يختلقونها لروسيا اليوم. أقول إن الطبيعة “الدفاعية” لحلف “الناتو” لا تمنعه من “مسؤوليته الخاصة” عن ضمان الأمن في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، ولا سيما في بحر الصين الجنوبي.
لا تثير تلك العبارات حفيظة أي من الشركاء في الغرب، ممن درسوا الجغرافيا والتاريخ، ويعرفون، بكل تأكيد، المسافة ما بين تلك المناطق، وما بين أوروبا، كما يدركون مدى عبثية الحديث عن مدى “دفاعية” الحلف، بينما يتحرك على رقعة جغرافية تشمل العالم على اتساعه، حتى بحر الصين الجنوبي.
هؤلاء هم من يتهمون روسيا بـ “العدائية”، ويسممون أفكار العالم بأسره بشأن “الهجوم الروسي المزمع على أوكرانيا”، ولا زالت مشاهد الهروب الأفغاني الكبير، بعد عقدين من الفشل الذريع والفساد المرعب، ماثلة في أذهان الجميع حول العالم.
في أوكرانيا، نصت اتفاقيات مينسك، التي وقع عليها ممثلو أوكرانيا وروسيا وألمانيا وفرنسا فيما يسمى بـ “رباعية نورماندي” بحضور ممثلين عن جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك الانفصاليتين، على أن يكون الحوار هو طريق الحل للأزمة الأوكرانية بين المركز في كييف، والجمهوريتين الانفصاليتين، وأن يلتزم الطرفان بوقف لإطلاق النار، والعفو عن المعتقلين، وإدراج وضع خاص لإقليم الدونباس في الدستور الأوكراني في إطار تعديل دستوري يسمح باللامركزية، ثم إجراء انتخابات تحت رعاية منظمة الأمن والتعاون في أوروبا بالاتفاق مع دونيتسك ولوغانسك، ثم بعد ذلك تُستأنف سيطرة السلطات الأوكرانية في كييف على طول الحدود بأكملها.
ما يحدث اليوم هو أن ما تريده كييف ومن ورائها الغرب، هو إعادة النظر في “تسلسل خطوات تطبيق اتفاقيات مينسك”، بمعنى أنهم يريدون استئناف السيطرة على الحدود أولاً، حتى يتسنى للنظام في كييف التعامل مع تلك الأزمة بمعزل عمّا توافقت عليه الأطراف، ووافق عليه مجلس الأمن الدولي. أي أن كييف والغرب، مرة أخرى، يمارسون ذات الانتقائية وازدواجية المعايير، ويختارون ما يعجبهم من بنود اتفاقيات مينسك، ويتجاهلون بقية البنود المرتبطة شرطياً ببعضها البعض، بنفس التسلسل الذي كتبت به هذه الاتفاقيات ووقعت عليها جميع الأطراف.
وكان الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، قد علّق على موقف كييف من تنفيذ اتفاقيات مينسك، بعبارة من قصيدة شعبية روسية: “يعجبك أم لا، لا مفر من الصبر يا جميلتي”، كناية عن ضرورة التزام الدول بالالتزامات المحددة التي تفرضها الاتفاقيات الموثقة بقرار من مجلس الأمن، بصرف النظر عمّا إذا كانت تعجبنا كافة النقاط أم لا، حيث أشار بوتين إلى صيغة التعليق: “يعجبني ولا يعجبني” من رئيس دولة بخصوص اتفاقيات أساسية حول علاقات بالغة الأهمية، هي صيغة “غير مناسبة”.
إن روسيا لا تهدد أحداً، وروسيا، كما ورد على لسان الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، ووزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، وغيرهما من جميع المسؤولين الروس على جميع المستويات، لا تعتزم الهجوم على أوكرانيا، أو تهديد أي من جيرانها بأي شكل من الأشكال. كل ما تريده روسيا هو الحفاظ على أمن أراضيها ومواطنيها، ومساندة الحقوق المشروعة لأهالي إقليم الدونباس، ومن بينهم بالمناسبة 700 ألف مواطن يحملون الجنسية الروسية، ممن يعدون أقلية داخل أوكرانيا، في الحفاظ على ثقافتهم ولغتهم وانتمائهم للعالم الروسي، دون أي تعدٍ على السيادة الأوكرانية، أو حتى مساندة تلك النزعات الانفصالية لدى تلك الجمهوريات.
لا يضاهي تلك البلطجة وازدواجية المعايير في فجاجتها وتبجحها سوى العربدة الإسرائيلية بقصف مناطق في محيط العاصمة السورية دمشق منذ أيام، ما أسفر عن مقتل جندي سوري، وإصابة خمسة آخرين، وخلّف أضراراً مادية.
حذرت روسيا من أن الغارات الإسرائيلية المتواصلة من حين إلى آخر على سوريا غير قانونية على الإطلاق على مستوى القانون الدولي، وتؤثر سلباً على الوضع في المنطقة، حيث صرّح السفير الروسي لدى سوريا، ألكسندر يفيموف، بأن روسيا “تدين بشدة الغارات الإسرائيلية، وتدعو إلى وضع حد لها”. وحذّر السفير من أن هذه الهجمات “تخلّف ضحايا بشرية، وتلحق أضراراً مادية ملموسة، وتنتهك السيادة السورية، وتشكل خطراً على الطيران المدني الدولي، وتزيد التوتر في الوضع العسكري-السياسي المتصاعد بالأساس”، من جانبها أكدت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، أن الضربات الإسرائيلية المستمرة لسوريا قد تؤدي إلى تفاقم حاد للأوضاع هناك، حيث أنها “تؤدي إلى انخفاض القدرة القتالية للقوات المسلحة السورية، وتؤثر سلباً على فعالية الجهود التي يبذلها السوريون وحلفاؤهم للقضاء على الوجود الإرهابي في البلاد”.
بهذا الصدد تساءلت بعض أوساط المحللين السياسيين والصحفيين بشأن تلك التصريحات، وما إذا كانت اللهجة “الحادة” للمسؤولين الروس تمثّل مؤشراً على تغيّر السياسة الروسية تجاه إسرائيل. أقول إن ذلك ليس تغيّراً للسياسة الروسية تجاه إسرائيل بشكل عام، وإنما هو تغيّر في طريقة التعاطي الروسية مع مثلث سوريا-إيران-إسرائيل، فما تريد قوله موسكو، هو أن تصرفات إسرائيل، وإلى جانب تشكيلها خطراً على أجواء الملاحة الجوية في سوريا ولبنان والأردن وغيرها، فإنها تهدد بجرّ إيران إلى حلبة الصراع بشكل مباشر، وهو ما قد يجرّ المنطقة بأسرها إلى مواجهات خطيرة غير متوقعة العواقب، ربما تشمل إلى جانب سوريا مناطق أخرى من براميل البارود المنتشرة في الإقليم.
كذلك ترى روسيا في الاعتداءات الإسرائيلية دعماً لموقف واشنطن في عدم الاعتراف بالحكومة الشرعية في سوريا، وسيادتها على التراب السوري، ودعماً لسياسة العقوبات والحصار الاقتصادي على سوريا، وهو ما يعيق الجهود الروسية والدولية للحفاظ على الأمن والاستقرار في المنطقة، ويعرقل التوصل إلى حل للأزمة السورية.
لن يكون من المستغرب هنا العثور على خط رفيع يربط بين الأزمتين السورية والأوكرانية، وتدخل الإسرائيليين على الخط لخدمة الحملة الإعلامية الأمريكية الغربية، التي ترافقها تعزيزات عسكرية لـ “الناتو” في أوروبا الشرقية وأوكرانيا، لتصوير روسيا بالدولة “المعتدية”، التي يجب التصدي لها، وإفشال جميع جهودها في مينسك وأستانا وجنيف لحل الأزمات الأوكرانية والسورية، حيث تجري أنشطة مريبة وواضحة للطعن بكافة الأساليب بهيبة روسيا وسياساتها، أعتقد أن من بينها إظهار روسيا وكأنها “عاجزة” بأسلحتها وعتادها في سوريا، عن حماية الأراضي السورية من ضربات إسرائيل، التي لا تأخذ في الحسبان أي دور للتواجد الروسي في سوريا.
تزامنت لهجة وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، خلال مؤتمره الصحفي مع وزير الخارجية البريطانية، إليزابيث تراس، مع تصريحات الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، خلال مؤتمره الصحفي مع الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، بشأن انتقائية كييف في التعامل مع اتفاقيات مينسك، ومع بيان وزارة الخارجية بشأن الاعتداءات الإسرائيلية على سوريا، لتشكل جميعها عبارة روسية واضحة تشبه تعبيرنا البليغ باللغة العربية الفصحى:
“لقد طفح الكيل وبلغ السيل الزبى”..
سيرياهوم نيوز 6 – رأي اليوم