الجديد هو موقف ألمانيا وفرنسا الذي لم يعد متماهياً كالسابق مع بلاد العمّ سام وبريطانيا.
إنّه الغاز. العنوان الرئيسي للصراع الكبير على مصادر الطاقة بين الولايات المتحدة من جهة، وروسيا والصين من جهة أخرى، وجوهر الأزمة القديمة المستجدة في شرق أوروبا عند حدود أوكرانيا. هذا الأمر بات بديهياً ومعلوماً. الجديد فيه هو موقف ألمانيا وفرنسا الذي لم يعد متماهياً كالسابق مع بلاد العمّ سام وبريطانيا، التي لم تكن يوماً جزءاً من الوحدة الاقتصادية الأوروبيّة، بل كانت شريكاً مضارباً.
يُعتبر الغاز الروسي مصدر الطاقة الرئيسي في أوروبا، ويتمّ نقله عبر الأراضي الأوكرانية، ومنها إلى باقي دول الاتحاد، بموجب اتفاق مع كييف يمتدّ إلى العام 2025.
يبلغ طول خطّ الغاز حوالى 37 ألف كلم من شبكة الأنابيب التي تصل روسيا بأوروبا عبر أوكرانيا، وتضخّ من خلالها 32 مليار متر مكعب، أي ما يعادل 21.3% من حاجة أوروبا، تحصل من خلالها كييف على ما قيمته 4.5 مليار دولار سنوياً.
المستجدّ الكبير اليوم هو الاقتراب من دخول خطّ “نورد ستريم 2” أو “السيل الشمالي 2” الخدمة الفعلية، وهو خطّ أنابيب لنقل الغاز الروسي إلى ألمانيا عبر قاع بحر البلطيق، يبلغ طوله 1200 كلم. وقد وصلت كلفته إلى 10.5 مليار دولار.
يستطيع هذا الخط ضخّ 54 مليار متر مكعب من الغاز سنوياً، لتلبية 65% من حاجة الغاز في أوروبا، بكلفة أقل وسرعة أكبر، ما يحوّل ألمانيا إلى مركز توزيع لأوروبا، ويمنحها دوراً أكبر من المرسوم لها أميركيّاً وبريطانيّاً.
العقوبات والخلافات
يحدّ “نورد ستريم 2” من قدرة أميركا على فرض العقوبات والتحكّم في مصادر الطاقة، ويعطي ألمانيا القدرة على توزيع الغاز والاستفادة من الاستثمار فيه، إضافة إلى أنّ التبادل يمكن أن يتمّ باليورو، ما يعطي قوّة مالية للبلدين خارج نفوذ الدولار، حيث تتحكّم الولايات المتحدة في نظام “السويفت”.
وبالتالي، يشكّل هذا الخط ضربة قويّة للنفوذ الذي تفرضه واشنطن من خلال نظام العقوبات، ولا يتبقى أمامها لإفشاله سوى فرض عقوبات على برلين، ما يعني فعليّاً فرض عقوبات على كل دول الاتحاد الأوروبي.
أما في ما يتعلّق بالاقتصاد السياسي المرتبط بمصادر الطاقة، فللمرّة الأولى يظهر صراع علني بين فريقي واشنطن ولندن من جهة، وباريس وبرلين من جهة أخرى، حول الجهة التي ستحكم قبضتها على عملية استيراد الغاز وتوزيعه، وإقامة علاقات مع الدول المنتجة والمصدّرة لهذه المادة الحيوية. وفي حال انكسار إرادة الولايات المتحدة، يصبح بإمكان الفريق الآخر المساهمة في إنشاء منظمة مستقلّة للغاز خارج النفوذ الأميركي.
بهذه الطّريقة، يكون بوتين قد أضحى القيصر الذي التفّ على العقوبات، وقيصر الغاز والتحالفات الاستراتيجية، مع الصين تجارياً، ومع إيران وأوروبا في مجال الطاقة والغاز، وصولاً إلى دوره في شرق البحر المتوسط.
أميركا الأضعف
إنّ السيطرة على موارد النفط والغاز وخطوط النقل وأسواق الاستهلاك هي جوهر الصراعات والحروب، إذ إنها تضمن النفوذ السياسي وتعززه. وتُشكّل خطوط الأنابيب أحد أبرز ميادين الصراع، وقد تكون الولايات المتحدة هي الحلقة الأضعف فيه لسببين: الأوّل، أنَّ روسيا استطاعت خلال الأعوام الماضية مدّ شبكة أنابيب نحو أوروبا وآسيا، والآخر أنّ أميركا تواجه مشكلة تراجع الإنتاج وارتفاع كلفة استخراج الغاز الصخري، إذ إنّ سعر الغاز الطبيعي المسال الأميركي في السوق الأوروبية أعلى بنسبة 30 إلى 40% من الغاز الروسي الَّذي يصل عبر خطوط الأنابيب. يضاف إلى ذلك أنّ روسيا تعتبر دولة عبور إلزامية رئيسية لغاز تركمانستان.
وتمتدّ خطوط الأنابيب الروسية إلى أوروبا على الشكل التالي:
“السيل الأزرق” أو “Blue Stream”: خط أنابيب غاز يمر عبر البحر الأسود، ويحمل الغاز الطبيعي من روسيا إلى تركيا. وُضع في الخدمة في العام 2003، وينقل 16 مليار متر مكعب سنوياً.
“السيل التركي” أو “ترك ستريم”: خط أنابيب آخر يمتد من أنابا في منطقة كراسنودار الروسية، ويعبر البحر الأسود، وينتهي في كييكوي على ساحل تراقيا التركي. تم افتتاحه في كانون الثاني/يناير 2020، وتبلغ سعته الإجمالية 31.5 مليار متر مكعب سنوياً.
“يمال – أوروبا”: خط أنابيب غاز يمتدّ من روسيا إلى بيلاروسيا وبولندا، وصولاً إلى ألمانيا، بطول 4196 كلم، وبسعة إجمالية تبلغ 33 مليار متر مكعب سنوياً.
يبقى السؤال: هل سيكون العامل الجغرافي أقوى من العامل السياسي؟ وهل سيتحكّم الاقتصاد في السياسة أو العكس؟ وختاماً، هل ستكون الغلبة لروسيا، وستسري مقولة: “كل الخطوط تؤدي إلى أوروبا؟”.
(سيرياهوم نيوز-الميادين٢٠-٢-٢٠٢٢)