- نجاح محمد
- الثلاثاء 28 تموز 2020
لم يختر قيس سعيّد أيّاً من الشخصيات التي اقترحتها الأحزاب لتشكيل حكومة جديدة، بل فضّل تكليف هشام المشّيشي، وهو شخصية غير حزبية من الصفّ الثاني، تعرّف إليه الرأي العام لدى تولّيه حقيبة الداخلية في حكومة إلياس الفخفاخ المستقيلة. اختيارٌ رأى فيه مراقبون خطوة على طريق صراع النفوذ المتواصل مع حركة «النهضة» الإسلامية
تخشى «النهضة» نجاح الخيار الأول، تماماً كما تخشى حلّ البرلمان. من جهة، حرصت الحركة على التواجد في كلّ الحكومات تقريباً منذ عام 2011، وهي لا تنوي التفريط بحضورها داخل أروقة الحكم، وهو ما بدا واضحاً في بيانها الصادر يوم الجمعة، والذي دانت فيه «دعوات إقصائها من المشهد السياسي والحكومي خدمة للأجندات الأجنبية المشبوهة». ومن جهة ثانية، تخشى «النهضة» أن تخسر مزيداً من ثقلها البرلماني في حال أعيدت الانتخابات، وخاصة مع تكاثر خصومها وتصاعد نبرتهم تجاهها، وأبرزهم رئيس الجمهورية، صاحب الشعبية الطاغية.
يقوم الخيار الثاني على محاولة استرضاء «النهضة»، عبر الخضوع لمطلبها «توسيع الحزام السياسي» للحكومة، أي إشراك حزب «قلب تونس» الذي تُلاحق زعيمه – رجل الأعمال نبيل القروي – قضايا تهرّب ضريبي وتهم فساد. المشكلة أن هذا المطلب يلقى معارضة من طيف واسع من الأحزاب، ما قد يقود إلى تغيير الحزام السياسي للحكومة وليس توسيعه، الأمر الذي لا يمكن ضمان حصوله على أغلبية مريحة داخل البرلمان.
الخيار الثالث لا يلقى شعبية واسعة، لكنه بات متداولاً في أروقة بعض الأحزاب التي شاركت في حكومة الفخفاخ. ترى هذه الأحزاب أنه إن كان لا بدّ من إشراك «قلب تونس» في الحكومة، فلْيتمّ ذلك على حساب «النهضة». بعبارة أخرى، يسعى هؤلاء إلى محاربة الحركة بسلاحها، عبر محاولة فضّ تحالفها المصلحيّ مع ثاني أكبر الأحزاب في البرلمان، وخاصة في ظلّ اعتبارهم إيّاها «العائق الأكبر» أمام تقدّم البلاد بسبب تعاملها «الغنائمي» مع الدولة، كما يقولون.
لم يتبيّن بعد الخيار الذي سيتبناه المشّيشي، لكن الأمور ستتوضح تدريجياً مع انطلاقه في المشاورات. وفي الانتظار، لم يعبّر أيّ تنظيم سياسي عن رفضه أو استهجانه تكليف الرجل بالمسؤولية، على رغم أن اسمه لم يَرِد في مقترحات أيّ منها. حتى حركة «النهضة» عبّرت عن انفتاحها على النقاش معه، على رغم شنّ صفحات مقرّبة منها على مواقع التواصل الاجتماعي هجمات عليه. هذا التروّي في التعبير عن مواقف من المشّيشي مردّه إلى حياد الرجل وابتعاده عن الأضواء. يحمل رئيس الحكومة المكلّف خلفية قانونية وإدارية، وهو عمل منذ أعوام رئيساً لدواوين وزارية، قبل أن يُعيّن لفترة قصيرة مستشاراً لسعيّد في القصر، ومن الواضح أن لهذا الأخير ثقة فيه أدّت إلى اقتراحه لتولّي وزارة الداخلية، ثم تكليفه بتشكيل حكومة جديدة.
يعتبر كثير من المراقبين أن سعيّد تصدى لمحاولات الحركة «ترويضه»
لكنّ «النهضة» وحلفاءها وجهات أخرى ينظرون بعين الريبة إلى وجود شخصية مقرّبة من رئيس الجمهورية على رأس الحكومة، إذ يعتبرون ذلك انتقاصاً من دور الأحزاب وسطواً على سلطة البرلمان في ظلّ نظام سياسي لا يعطي الرئيس صلاحيات تنفيذية واسعة. في المقابل، ترى أحزاب وجهات أخرى أن ما يحصل أمر محمود، على اعتبار أن سعيّد هو الوحيد الذي نجح في الوقوف بوجه الحركة، التي مُنحت فرصة لقيادة العمل الحكومي، لكن مرشحها لم ينل ثقة أغلبية البرلمان.
في واقع الأمر، ما فعله سعيّد هو إنهاء ما عُرف في الأعوام الماضية بـ«التوافق»، أي تسيير البلاد بحلول وسط يتحمّل الجميع مسؤوليتها نظرياً، لكنها تصبّ عملياً في خدمة «النهضة». يعتبر كثير من المراقبين أن سعيّد تصدى لمحاولات الحركة «ترويضه»، وتَجنّب بالتالي مصير الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي الذي انتهى به الأمر «معزولاً» في قصره، مجرّداً من أيّ نفوذ على رغم فوز حزبه بأغلبية مقاعد البرلمان.
على عكس السبسي، ليس لسعيّد حزب أو كتلة برلمانية، لكنه تصدّى لـ«النهضة» التي تسعى إلى فرض قواعد اللعبة السياسية، مستعملاً أدوات دستورية. على أن طموح الرئيس الحالي لا يقتصر على ذلك؛ إذ يظهر – وفق ما كرّر في أكثر من مناسبة – أن معركته القادمة ستكون تغيير النظام السياسي من «برلماني معدّل» إلى «رئاسي معدّل»، مع تعديل صيغة انتخاب نواب البرلمان من الاقتراع على القائمات إلى الاقتراع على الأفراد. وعلى رغم أن مشروع سعيّد لتغيير النظام السياسي لا يزال غامضاً ويفتقر إلى آليات تطبيق، وخاصة أن تعديل الدستور يمرّ عبر البرلمان، إلا أن نجاح مرشحه في تشكيل حكومة يُعدّ مفصلاً مهمّاً في هذا السياق، على اعتبار أن إجراء انتخابات تشريعية مبكرة سيفتح الباب أمام دخوله سباق النفوذ في مجلس الشعب.
(سيرياهوم نيوز-الاخبار)