- علاء اللامي
- الأربعاء 2 آذار 2022
مات الإعلام الغربي المتشدّق بالتعدّدية والحرّية في الاختلاف والوصول إلى المعلومة وصياغتها وطرق تقديمها بحيادية في مناسبات كثيرة من قبل، ولكنه لم يكن موتاً نهائياً وعلنياً وصريحاً كما في هذه المرّة. فقد ظلّت هناك على الدوام أصوات كثيرة تعتز بالمُثل الحرّة والمبادئ الإنسانية والليبرالية النقدية بنسختها التقدّمية خلال حرب فيتنام، والجزائر، والعدوان والحصار على العراق واحتلال فلسطين وتشريد شعبها على سبيل المثال، وحافظ حتى الإعلام القريب من الدوائر الحاكمة والمتحكمة بالمال والتشريع على مسافة معينة تمنعه من الاندماج مع دوائر القرار السياسي والأمني.
ولكن، ومع ممهّدات الحرب في أوكرانيا يمكن القول إن هذا الإعلام قد لفظ أنفاسه الأخيرة، فوضع قلنسوة العار على رأسه، وكتم الأصوات المختلفة والمخالفة ومنعت وسائل الإعلام الخصم الروسي ومن يؤيّده من العمل والنشاط والبث في ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وأستراليا وفنلندا، كما حدث مع محطات «آر تي» (روسيا اليوم) بمختلف اللغات وأوقف بثها من خلال بعض الأقمار الاصطناعية وتفاقمت حالة «الروسيا فوبيا» (الرُّهاب من روسيا) القديمة في الثقافة الأوروبية الغربية والأميركية!
لقد انتقل الإعلام الأوروبي والأميركي – مع بعض الاستثناءات النقدية القليلة في الإعلام الأميركي بسبب رسوخ التقاليد الاستقلالية والنقدية فيه نسبياً – من دائرة تقديم مقاربات إعلامية للحقيقة إلى دائرة تصنيع الحقيقة كما تريدها وتراها دوائر السياسة والمال والأمن الرسمية، حتى شاهدنا صحيفة «ديرشبيغل» الألمانية العريقة تخاطب المستشار الألماني بعبارة مهينة هي «شولتز، عليك أن تشعر بالعار من نفسك!» لماذا؟ لأنه تردّد في إرسال السلاح إلى أوكرانيا وتحفَّظ على إخراج روسيا من نظام «سويفت» المالي أو وقف استيراد الغاز الروسي من خط «سيل الشمال» الأوّل!
أمّا بعض وسائل الإعلام العربية فهي تتصرّف كـ«صبي البلطجي» حيث باتت لا تشعر بالخجل من سيل الأكاذيب المقرفة التي تسوقها بأمر من الدوائر الأوروبية والأميركية، والتي تراجع عن بعضها حتى الإعلام الغربي والأوكراني، كقصة الصاروخ «الروسي» الذي ضرب بناية سكنية والتي ظلت قنوات «الجزيرة» و«الشرقية» و«العربية» تكرّرها طوال يوم أمس من دون شعور بالحرج رغم تراجع الإعلام الأوكراني عنها، واعتراف محافظ كييف في تغريدة له بأن ذلك الصاروخ كان أوكرانياً وأصاب البناية بالخطأ ومثلها قصة المصفحة الروسية التي اصطدمت بسيارة مدنية صغيرة وتبيّن لاحقاً إنها مصفحة أوكرانية مسلّحة! وحتى صحيفة «ديلي ميل» البريطانية اعترفت لاحقاً بأن العربة المصفحة أوكرانية ولكن جنوداً روساً سرقوها، وقتل سائقها إثناء إطلاق النار وكان القتيل يرتدي ملابس عسكرية أوكرانية! وهكذا يراد لنا أن نصدّق كل هذا الهراء ونصدّق بقصّة الجنود الروس الذين تحوّلوا إلى لصوص مصفّحات خلال حرب ضارية وكأنهم بحاجة إلى مصفحات وأسلحة!
وفي الوقت الذي نشرت فيه وسائل الإعلام الروسية إحصائية لمركز أبحاث الرأي العام الروسي تقول إن بوتين يتمتع بتأييد 64 في المئة فقط من الروس، أمّا رئيس وزرائه ميدفيديف فيحظى بأقل من 37 في المئة، في هذا الوقت بالذات تسود حالة من الاتفاق والهستيريا الحربية والرُّهاب الغربي التقليدي من روسيا في الدول الغربية الرئيسية ويتوحّد خطاب النخبة والجمهور والسلطات الحاكمة بشكل ملحوظ ومتماسك، إلى جانب القمع الإعلامي وإسكات صوت الطرف المقابل الروسي والمؤيّد له تماماً وحملة العقوبات الاقتصادية التي سيدفع المواطن الروسي ثمنها في حياته اليومية ومنع الرحلات الجوية من وإلى روسيا… إلخ!
من خلال متابعتي الشخصية – وهي تبقى متابعة شخصية وغير شاملة إلى حد بعيد – لبعض وسائل الإعلام الغربية، لم أجد طوال الأيام الماضية صوتاً مختلفاً أو حتى صوتاً معتدلاً يدعو إلى التهدئة وتفادي دفع الأمور في أوكرانيا إلى التدمير المتبادل بين الروس والأوكرانيين. المفاجئ، وقد يكون طريفاً أيضاً، أنني شهدت صباح اليوم السادس لبدء العمليات الحربية الروسية صوتاً معتدلاً وعقلانياً على إحدى القنوات الفرنسية، وكان صاحب الصوت – ويا للمفاجأة – باحثاً وكاتباً سياسياً أوكرانياً فرانكوفونياً، لم أحتفظ باسمه للأسف. وقد انتقد هذا الكاتب والباحث الأوكراني مواقف أوروبا الرسمية، ولكنه لم يسكت عن عدوانية بوتين وانتقده بشدة ودافع عن استقلال بلاده، وركّز المتحدّث على «خوفه من تدمير واحدة من أجمل مدن أوروبا ومقتل الآلاف من سكانها إذا حدث اقتحام روسي لها، كما قال، ويقصد كييف العاصمة. وقال إن الدول الغربية لا يبدو أنها تهتم لمصير كييف وأهلها ويهمّها تسجيل نقاط ضد بوتين. الإعلامية الفرنسية التي حاورت الرجل، كانت ترد عليه بقسوة وتشكيك ولم يبدُ عليها أنها كانت سعيدة بكلام هذا الباحث وهو من أهل البيت المشتعل كما يقال!
في ضوء هذه الوقائع أتساءل: كم ستكون نسبة تأييد الجمهور والنخب الأوروبية للخطاب السلطوي الرسمي المسعور في هذه الحرب لو أجريت إحصائية مماثلة للإحصائية الروسية سالفة الذكر، وأي الاستنتاجات يمكن أن يخرج بها المراقب المحايد المنصف؟!
من الأصوات المختلفة النادرة أيضاً صوت المخرج الأميركي الجنسية غونساليو ليرا، الذي ظهر في مقطع فيديو، صوَّره وهو متجوّل في شوارع العاصمة الأوكرانية؛ أن الوضع في المدينة يتسم بفوضى وسط حالات متزايدة لتبادل إطلاق النار (القوات الروسية لم تدخل المدينة بعد). وأضاف: «الإعلام الغربي لا يتحدّث عن أن قرار (الرئيس الأوكراني فلاديمير) زيلينسكي توزيع السلاح على المدنيين أدّى عملياً إلى تسليح عناصر إجرامية في المدينة، الذين وبعد تصفية الحسابات والصراع على النفوذ في ما بينهم، سيتحوّلون إلى استهداف المواطنين العاديين». وتابع ليرا قائلاً: «زيلينسكي خلق فوضى في أوكرانيا بذريعة التصدي للروس… هذا هراء ودليل على قلة المسؤولية… والأمر سينقلب على الأوكرانيين أنفسهم وسيؤذيهم… نظام زيلينسكي شرّير وأصيب بالجنون». وفي تسجيل آخر قال الكاتب الأميركي مخاطباً الجمهور الغربي: «قادتكم السياسيّون ــــ بوريس جونسون وجو بايدن ـــــ لا يريدونكم أن تفهموا ما يحدث. لقد اختاروا الطريق السهل وهو شيطنة الروس».
حتى الأصوات النقدية والمحسوبة على التيار الليبرالي اليساري أصبح يقدّم نصوصاً معيبة كالنص الذي كتبه الباحث و«الفيلسوف» السلوفيني المعروف سلافوي جيجك
وأيضاً، من الأصوات التصالحية الأميركية يأتي صوت النجم السينمائي ستيفن سيغال، الذي قال إنه ينظر إلى الجانبين كـ«عائلة واحدة». وفي تصريحات لقناة «فوكس نيوز»، قال: «معظمنا لديه أصدقاء وعائلة في روسيا وأوكرانيا… أنا أنظر إلى كليهما كعائلة واحدة، وأعتقد حقاً أن كياناً خارجياً ينفق مبالغ ضخمة من المال على الدعاية لإثارة الخلاف بين البلدين».
ربما يستحق رئيس الوزراء البريطاني جونسون لقب الكذوب الأوّل في المعسكر الغربي، والذي اتخذ موقع أقصى التطرّف وقام بدور حمّالة الحطب والمحرّض على الحرب حتى آخر أوكراني. وآخر أكاذيبه، التي قالها قبل دقائق في مؤتمر صحافي سمعته وأنا أكتب هذا النص، هو أن الروس يستعملون القصف بالقنابل العنقودية ضد السكان المدنيين في أوكرانيا، الأمر الذي لم يزعمه حتى الإعلام الأوكراني الخاضع للميليشيات النازية الجديدة. وجونسون هنا يستكمل دور طوني بلير مع جورج بوش في حرب تدمير العراق بدقة المسطرة حتى استحق لقباً أطلقه عليه الإعلام البريطاني نفسه وسمّاه «كلب بوش المطيع»!
المدهش في كل هذا هو غياب الصوت العقلاني النقدي الأوروبي المعروف بتقاليده النقدية الشجاعة وتمايزه عن خطاب السلطات الحاكمة والمهيمنة على الدولة منذ حرب فيتنام مروراً بحرب تدمير العراق، حتى الأصوات النقدية والمحسوبة على التيار الليبرالي اليساري أصبح يقدّم نصوصاً معيبة كالنص الذي كتبه الباحث و«الفيلسوف» السلوفيني المعروف سلافوي جيجك تحت عنوان «هل كان «اغتصاب» أوكرانيا حتمياً؟» متّهماً بوتين بأنه يفكّر في اغتصاب أوكرانيا تحت وطأة هواجسه الجنسية، وينتهي إلى المطالبة وبلغة فاحشة بـ«يجب أن نعي جميعاً، نحن الذين ننتمي إلى البلدان التي عليها أن تشهد اغتصاب أوكرانيا، أنَّ إخصاءً حقيقياً فحسب هو الذي يمكن أن يمنع الاغتصاب. ولذلك يجب أن نوصي بأن يجري المجتمع الدولي عملية إخصاء لروسيا، متجاهلاً ومهمِّشاً إيّاها قدر الإمكان، بحيث يتأكّد أنَّ لا شيء من سلطتها العالمية سوف ينمو بعد ذلك! (موقع «أوان»).
فإذا كان «المثقف التنويري الليبرالي اليساري» من أمثال جيجك يفكّر ويكتب بهذه الطريقة، فماذا نقول عن «مثقفينا» العرب من ضيوف «الاتجاه المعاكس» وأمثاله من برامج صراعات الديكة؟!
عملياً وعلى الأرض، وفي اليوم الرابع من بدء الحرب، من الواضح أن القوات الروسية قد حقّقت الهدف السياسي الرئيس الذي انطلقت من أجله، وهو إفشال محاولة أوكرانيا الانضمام إلى «حلف الأطلسي» والتسلّح بالسلاح النووي، فقد وافق الرئيس الأوكراني على جعل بلده محايداً وبادر إلى طلب مفاوضات مباشرة مع الكرملين. وافق الكرملين وحدّد مينسك أرضاً للتفاوض، وأوقف تقدّم قواته. لكن القيادة الأوكرانية تملّصت من عرضها وقطعت الاتصالات بالروس. أعاد الروس إطلاق عملياتهم العسكرية فوصل عرض جديد من كييف ببدء التفاوض. وافق الروس وأرسلوا وفداً إلى بيلاروسيا ولكنهم لم يوقفوا عمليّاتهم هذه المرّة وأعلنت كييف أنها سترسل وفداً، وأعلنت واشنطن أنها ستراقب هذه المفاوضات. في الواقع، فإن الخلط بين هذا الهدف الروسي المركزي، وهو منع أوكرانيا من الانضمام لحلف «الناتو»، وبين البلاغات الإعلامية الحربية كإقصاء الرئاسة الأوكرانية واستبدالها ومعاقبة المنظمات والميليشيات القومية الفاشية الأوكرانية لم تكن في صميم الأهداف الروسية بل جزءاً من الحرب الدعائية، وإلا كيف توافق موسكو على التفاوض مع زيلينسكي وهي تريد الإطاحة به؟
إن هذا التخبط الأوكراني بين طلب التفاوض والتراجع عنه ثم طلبه مجدداً يؤكد حقيقتين: الأولى، أن الروس حسموا الموقف عسكرياً مبكراً كما قلنا، ولكن ليس بشكل نهائي، وأجبروا القيادة الأوكرانية على التفاوض تحت النار.
والثانية، هي أن القيادة الأوكرانية خضعت للضغط الغربي وابتزاز «الناتو» فتراجعت عن التفاوض ثم وافقت تحت الضغط العسكري الروسي. ومن الواضح أن القيادة الأوكرانية خسرت وقف العمليات العسكرية ثم جاءت للتفاوض تحت النار وهذا لا يدل على أنها اليوم في وضع ميداني أفضل من وضعها يوم أمس.
كما تبيّن حتى الآن أن الروس لا يريدون دخول المدن الأوكرانية الكبيرة، وبخاصة العاصمة، ويريدون الاكتفاء بتدمير الماكينة الحربية الأوكرانية وتطويق المدن لتفادي الخسائر بين صفوفهم وصفوف المدنيين وعدم التورّط في إدارة مدن محتلة. وتبيّن أيضاً أن المقاومة الأوكرانية كانت أقوى مما توقّعه الروس، وهذا ما تسبّب في تباطؤ التقدّم الروسي وفي تطويق المدن وفشل محاولة دخول بعضها مثل خاركيف.
أعتقد أن حساب الوقت ليس في مصلحة القيادة الأوكرانية وعليها أن تستثمر ما بيدها من أوراق، ومنها المقاومة الجيّدة التي أبدتها حتى الآن، فالضغط العسكري الروسي سيزداد والمدن الأوكرانية سيتم تطويقها وسيتم تدمير ما تبقى من الآلة الحربية الأوكرانية وهو قليل. ومن الأفضل لها الموافقة على وقف إطلاق النار والموافقة على خيار الدولة المحايدة وعدم التفريط بأراضيها مقابل تطبيق «اتفاقية مينسك» لتطبيع الأوضاع في منطقتي دونيتسك ولوغانسك.
إن لجوء الغرب إلى استعمال سلاح منظومة «سويفت» للتحويلات المالية بنسبة 80 في المئة وضخ المزيد من الأسلحة الفتاكة وفتح باب تطوّع المقاتلين الأجانب إلى جانب الأوكرانيين يعني أن الأمور ليست على ما يرام عسكرياً بالنسبة للقوات الأوكرانية. لا أحد يفكر في استجلاب المتطوّعين الأجانب وهو على وشك الانتصار أو أنه نجح في صد هجوم العدو، أمّا ترحيب الرئيس الأوكراني بالمتطوّعين واستعداده لتشكيل فيلق عالمي لهم وأن تتولّى الخارجية البريطانية الإعلان عن ذلك في سابقة تاريخية لم تحدث في كل تاريخ حروب أوروبا، فهي أمور تؤشّر إلى مأزق الغرب والقيادة الأوكرانية لا العكس.
لا أحد توقّع أن تحسم روسيا الوضع العسكري في ثلاثة أيام، وأكثر من مسؤول روسي قال، ومنذ اليوم الأوّل، إن الحسم قد يتطلّب ثلاثة أسابيع فما فوق لتتضح الأمور على الأرض، والرئيس الفرنسي حذّر مبكراً من أن «الحرب ستطول وعلينا أن نستعد لذلك».
إن قرار الرئيس الروسي بوضع أسلحة روسيا للردع النووي في حالة التأهّب القصوى يمكن أن يقرأ في باب تحذير حاسم للغرب من التمادي في العقوبات، وخصوصاً بعد استعمال سلاح «سويفت». ويلاحظ أن لهجة الغرب الإعلامية الحادة والمتشنجة قد تراجعت في الساعات الأخيرة.
إن الوضع لا يزال خطراً، ودخول التهديد بالسلاح النووي حيّز المشهد العالمي يجعله أخطر، والعربدة الغربية الأميركية تتصاعد وقد تزج الإنسانية في مرحلة حساسة وكارثية، فالغرب الإمبريالي «الأوروإنكلوسكسوني» يدرك أن ما بعد هذه الحرب لن يكون كما قبلها على الصعيد الجيوسياسي العالمي!
* كاتب عراقي
(سيرياهوم نيوز-الاخبار)