آخر الأخبار
الرئيسية » كلمة حرة » عمُّــــنا (تشــــــيخـوف)

عمُّــــنا (تشــــــيخـوف)

بقلم: ميرفت أحمد علي

من أروع هِباتِ القرنِ التاسعَ عشرَ و عطاياهُ ــ و بالتحديدِ عشريناتهِ ــ الأدبُ التشيخوفيُّ الذي تجاوزَ تقليديةَ (دوستوفسكي) و (تورغينيف) و (تولستوي) و أحزانَهم المعتَّقةَ، و صرامةَ آدابِهم، و خرجَ إلى العالمِ برؤيةٍ قصصيةٍ و مسرحيةٍ مُمايزةٍ و جدليَّةٍ، هازئةٍ من كلِّ ما يُضيمُ الإنسانَ و يحطُّ من قدْرهِ. تلك هيَ الثِّيمةُ الأساسيةُ لمُجملِ ما تركَ لنا (أنطون تشيخوف)، طبيبُ الجسدِ و النفسِ في كائناتهِ الأدبيةِ التي اكتسبتْ مزيةَ الخلودِ، و براءةَ اختراعِ الديمومةِ، و عبورَ الأزمنةِ و الأمكنةِ و الأمصارِ و الأعراقِ، مُؤثِّرةً في جيلِ (تشيخوف) تأثيراً بيِّناً جليَّاً صقلَ وعيَ القارئِ و إدراكَهُ، و أحدثَ رجَّةً في ذاتهِ المبعثرةِ المُتشيِّئةِ، و في شتاتهِ المُتناثرِ. و استمرَّ (تشيخوف) مؤثِّراً في القراءِ بـ(أعمالهِ الكاملةِ) بالعمقِ و بالجلاءِ ذاتِهما، دامغاً الأجيالَ ببصمةٍ لا تُمحى منَ التأثيمِ و مُحاكمةِ الذاتِ الإنسانيةِ؛ لارتهانِها الطويلِ للنَّبذِ و للتجرُّدِ منَ القيمِ، و لارتضائِها بالأقلِّ منَ القليلِ، و بالحدِّ الأدنى لتجاوزِ الحيوانيَّةِ و البهائميَّةِ إلى تُخومِ الأنسنة. فكيفَ ننسى (تشيخوف)، نحنُ القرَّاء؟ و قد أوقدَ في نفوسِنا حسَّ الرومانسيةِ الناقدِ في مسرحيتهِ الألمعيَّةِ المُشاغبةِ: (الدبّ)؟ و في مسرحيَّتيهِ الفذَّتيْنِ: (فانيا) و (بستان الكرز)؟

و كيفَ ننسى قصصاً مِن قبيلِ (العنبر رقم 6) و (حكايا رجل مجهول)، و ذلكَ القدْرَ المثيرَ منَ التكثيفِ و الإيجازِ و الإشباعِ النصيِّ بمُغرياتِ الولوجِ إلى عالمٍ دلاليٍّ ساخرٍ، فكاهيٍّ، طريفٍ، مضحكٍ و مُؤنسٍ حيناً، و مترعٍ بالأسى و بالجنائزيَّةِ و بالنَّدبِ حيناً آخرَ؟ و كيفَ ننسى إدانةَ روتينيَّةِ الحياةِ الروسيةِ و بلادتِها و تكلُّسِها في السهوبِ السيبيريَّةِ و في الأصقاعِ النائيةِ، كما في المدنِ الآهلةِ بالسكانِ، و خاصةً لدى شريحةِ موظّفي الحكومةِ، و مؤسساتِها و مُؤسِّسيها المدموغينَ بالبيروقراطيةِ، و بالبُنى و المفاهيمِ و الشعاراتِ الحزبيةِ الصمَّاءِ البكماءِ؟…تلكَ الشواردُ و الشوائبُ التي لا تَغفلُ عن لَحْظِها و تعريتِها فطانةُ (تشيخوف) و نجَابتهُ، بل تُدينُ من خلالِها النمطَ السلوكيَّ الابتذاليَّ، الوصوليَّ و الانبطاحيَّ؛ بتصديرهِ إلى القارئِ بصورةٍ كاريكاتوريةٍ جوَّالةٍ، كما في نصِّ (تشيخوف) اللمَّاحِ اللاذعِ نقدياً و تهكميَّاً (المساعد بريشيبييف).

إنّهُ (تشيخوف)، الذي تتلألأ عيناهُ  ـ كما إبداعهُ – ببريقٍ ساخرٍ ينفذُ إلى أصلبِ القلوبِ و أمنعِها على التأثرِ، مَن جعلَ منَ الحوارِ القصصيِّ الوامضِ الذكيِّ عنصراً تشويقياً أساسياً في البِدعَةِ القصصيةِ، على حسابِ السردِ و التوصيفِ التقليديَّيْنِ النمطيَّيْن، ما أكسبَ نصَّهُ سمةَ التحليقِ بفضلِ الإيجازِ المركَّزِ، و لغةٍ أدبيةٍ بسيطةٍ، مأنوسةٍ، لم تخلُ من استعاراتٍ و جوازاتٍ وصفيَّةٍ مثيرةٍ للدهشةِ كقوله: (التربةُ رائعةٌ جداً، إلى حدِّ أنكَ لو زرعتَ فيها رجلاً ناحِلاً، فستُنبتُ مارداً). كما استطاعَ التَّعامُلَ بحنكةٍ و بدرايةٍ مع الأدبِ الاستيلاديِّ؛ فكانَ يكتبُ قصةً داخلَ قصةٍ خُلوصاً إلى المغزى المنشودِ.

إنَّ مبدعاً عالميّاً كبيراً مثل (أنطون تشيخوف)، قد فهمَ كُنهَ الأدبِ النبيلِ القابلِ للتَّوريثِ و للتعميمِ على أنَّهُ الأدبُ القائمُ على المفارقةِ بينَ المُتاحِ و المُقيَّدِ، و الممنوعِ و المرغوبِ، و الحرِّ  و الاشتراطيِّ، و أحسنَ قراءةَ النفوسِ و استجلاءَ الدواخلِ و السرائرِ، و استخدمَ حسَّهُ النقديَّ كسلاحٍ للقدْحِ و للذَّمِ، و انصبَّ جلُّ همِّهِ على التنبيهِ إلى أهميةِ الحياةِ المُنحسرةِ بسرعةِ البرقِ، و إلى ضرورةِ استجلاءِ معانيها، و تصويرِ فداحةِ خسارتِها و فقدانِها، ذلكَ كلُّه قدَّمَ  المسوِّغاتِ التي جعلتْهُ أُقنوماً من أقانيمِ الإبداعِ المُجلِّي، و أستاذَ حياةٍ قبلَ أن يكونَ أستاذَ قلمٍ.

(سيرياهوم نيوز3_5-4-2022)

x

‎قد يُعجبك أيضاً

بين وجع السوريين وصمت الأمم… “كوردوني”يدخل الساحة ومعه ملامح تحوّل خفي

  د. سلمان ريا   في خطوة لافتة تحمل أكثر مما تعلنه بيانات الأمم المتحدة التقليدية، عيّن الأمين العام أنطونيو غوتيريش الإيطالي كلاوديو كوردوني نائبًا ...