عبد اللطيف شعبان
إن الادخار النقدي لجزء من الدخل حاجة ماسة لكل فرد ولكل أسرة ولكل مؤسّسة، حال كان ذلك ممكناً، أكان في الحسبان استخدام هذا الادخار لغايات استهلاكية أو خدمية، ذات حاجة معهودة قريبة أو بعيدة، أو طارئة نتيجة لأسباب يندر ألا يتَعرَّض لبعضها أحد، أو لأهداف استثمارية لاحقاً، لهذا الادخار النقدي أوجهه المتعدّدة المتمثلة بحفظ مبالغ مالية في المنزل، أو بالإعارة للغير لأجل أو بإيداعه أمانة لديهم، أو بالإيداع المصرفي بدون فائدة. إلاَّ أن الخيبة تملكت جميع هؤلاء المدخرين نتيجة التناقص الفعلي لمدخراتهم، بسبب غلاء الأسعار المتتابع لجميع أنواع السلع الاستهلاكية والإنتاجية، والسنوات الأخيرة أثبتت أن الكسب كان حليف أولئك الذين ادَّخروا بالذهب أو ببعض العملات غير السورية، علماً أن الادخار بالذهب لم يكن مناسباً قبل عدة أعوام، أيام استقرار سعره لأمد، يوم كان يخسر المدخر -البائع لما يملكه من ذهب- أجرة الصياغة على الأقل، كما أن العديد من المدخرين بالعملات غير السورية سابقاً خسروا جزءاً من مدخراتهم نتيجة انخفاض قيمة هذه العملات، بسبب التغيرات التي طرأت على اقتصاد دولها، ومن هؤلاء المدخرين، أولئك الذي عمدوا سابقاً لأن تكون مدخراتهم بالعملة اللبنانية. بعض المدخرين كانوا أكثر وعياً اقتصادياً، إذ عمدوا لأن تكون ادخاراتهم ذات طابع إنتاجي، فأودعوها في المصارف لقاء عوائد مالية، ولكن تغيّرات الأسعار التصاعدية جعلت هذه العوائد المصرفية قليلة الجدوى، ولا تغطِّي إلا جزءاً يسيراً من تغيرات الأسعار الكبيرة، التي تتجاوز كثيراً المبالغ المودعة وفوائدها، وآخرون عمدوا لادخار أموالهم لدى الغير بمقابل عائد مادي، ولكن لم يخلُ هذا الإيداع من مخاطر، حتى في حال وجود ضامن قانوني، لأن أغلبية حالات هذا الضامن مجحفة ولها عواقبها الوخيمة، وكثيراً ما فقد بعض المدخرين أموالهم المودعة وفق هذه الطريقة، لدى عشرات المحتالين من جامعي الأموال، أما المدخرون الكبار فقد لجؤوا للادخار العيني من خلال شراء عقارات زراعية أو أراضٍ للبناء أو أبنية سكنية أو تجارية -سواء استثمروها أو جمدوها- إذ هي بمثابة أموال بين أيديهم، قابلة قيمتها للزيادة من خلال ارتفاع قيمتها المتتابعة، ولكن المؤسف أن هذه الزيادة المتحققة من قيمة هذا الادخار لم تسفر عن أي إنتاج سلعي. إن ضعف جدوى حالات الادخار السابقة يوجب العمل المدروس والسريع (شعبياً ورسمياً) باتجاه المزيد من الادخار الاستثماري في مجالات الإنتاج السلعي، في ميداني الزراعة والثروة الحيوانية، وفي ميادين المنشآت الخدمية وذات الإنتاج السلعي الحرفي والصناعي، فالادخار الاستثماري هو الأفضل والأكثر ضماناً لدخل كبير متتابع، ويضمن وجود المبالغ المالية المطلوبة للحالات الطارئة المرجوة من الادخار التجميدي، علماً أن واقع الحال يظهر أن حالات الادخار الممكنة أصبحت قليلة في هذه الأيام لدى شريحة كبيرة من الأسر، نتيجة الحاجة لتوجيه نسبة كبيرة من الدخل لغايات الاستهلاك اليومي، ولكن مصلحة الشعب والوطن تقتضي اعتماد سياسة اقتصادية ناجحة باتجاه تشجيع تحقيق زيادة الادخار على حساب التقنين المتحقق من المبالغ المخصّصة للاستهلاك، شريطة تمكين تجميع المبالغ المتحققة من هذا الادخار -مهما كانت صغيرة- لغاية الاستثمار في مشاريع إنتاجية متنوعة، بدءاً من إنتاج السلع الأكثر حاجة والبديلة عن السلع المستوردة، أكان ذلك من خلال الجهات الرسمية أو المنظمات أو النقابات أو الاتحادات أو الجمعيات الأهلية، أو تشريع تنظيم الحالات الاتفاقية بين مجموعة مدخرين، شريطة قيام الجهات المعنية بتوفير جميع مقومات الاستثمار اللازمة، إذ أن ما نشهده حالياً من ارتفاع متزايد ومتتالٍ للأسعار، ناجم في معظمه عن ضعف الإنتاج، هذا الضعف الذي يعود في قسم كبير منه لضعف توفر مقومات الاستثمار اللازمة، حيث كان للسياسات الاقتصادية الخاطئة دور كبير في إضعاف هذه المقومات، ومنها السياسة المصرفية التي تعطي الحدّ الأدنى للمودعين وتأخذ الحدّ الأعلى من المقترضين، بل وكثيراً ما تسهِّل على القروض الاستهلاكية وتضيِّق على القروض الإنتاجية، لا بل وقد مرت فترات شهدت تجميد مبالغ كبيرة في المصارف دون استثمار. فليدرك الجميع أن ما من وسيلة لتنشيط الوضع الاقتصادي الآيل إلى مزيد من التدهور، ما لم يتحقق المزيد من الاستثمار الإنتاجي، ومراجعة السياسات الحالية، التي تحدّ من توفير متطلبات الاستثمار، بحجة تكثيف الجهود لتوفير متطلبات الاستهلاك، ما يكرِّس النزعة الاستهلاكية التي تضعف التحضير لمتطلبات الادخار الإنتاجي. عبد اللطيف عباس شعبان / عضو جمعية العلوم الاقتصادية السورية
(سيرياهوم نيوز6-البعث 8 / 4 / 2022)