|فراس القاضي
شهدت وسائل التواصل الاجتماعي منذ أيام قليلة الكثير من الحوارات والنقاشات التي كانت (البندورة) فيها البطلة المطلقة، حوارات حول إمكانية مقاطعة هذه السلعة، ثم امتد وتوسع ليصل إلى فكرة المقاطعة كاملة، ودعم البعض أحاديثهم بنموذج مقاطعة البيض الشهير الذي أدى إلى نتائج كبيرة في الأرجنتين، وساق آخرون أمثلة وأسباباً تؤكد إخفاق مثل هذه الفكرة في بلادنا.
الغريب لم يكن في طرح مسألة المقاطعة، فهو أمر يتكرر كلما ازداد سعر سلعة بشكل كبير، الغريب كان في الرفض الواضح للفكرة من الأغلبية، واليأس من إمكانية نجاحها، والبعض ذهب إلى أبعد من ذلك، وعبر عن خوفه من مجرد طرحها، مستنداً إلى قناعة أن لكل سلعة عرّاباً كبيراً ونافذاً لن يرحم من يحاول أذيته.
لكن تصريحاً صغيراً أدلى به أحد منسقي أسواق الهال في المحافظات السورية لـ «الوطن» حول أن الانخفاض البسيط في أسعار (البندورة) كان سببه عزوف الناس عن شرائها، أثار فضولنا لمعرفة المزيد عن هذه الفكرة، وعن فرص نجاحها أو فشلها، وعن سبب نفور عدد غير قليل من مجرد نقاشها.
أين وسائل التنظيم؟
الخبير الاقتصادي الدكتور شادي أحمد أيّد فكرة أن مقاطعة مادة ما ستؤدي إلى قلة الطلب عليها، وبالتالي انخفاض أسعارها، لكنه أوضح أن مثل هذه القاعدة قد تصلح مع مادة مثل اللحوم، أو غيرها من المواد الممكن الاستغناء عنها لفترة فقط.
وأضاف بأن مقاطعة البضائع لا تنجح لدينا لعدة أسباب، أولها يتعلق بفكرة المقاطعة بشكل عام، إذ لا يوجد لدينا قنوات رسمية أو أهلية تنظم سلوك المستهلك في سورية، في حين أنه في دول أخرى، أي الدول التي تصلنا منها نماذج المقاطعة الناجحة، هناك جمعيات ومؤسسات تنظم السلوك والقرار الاقتصادي للناس، وتستطيع بشكل حقيقي وبقرار واحد التأثير على أي سلعة، وبالنسبة لجمعية حماية المستهلك في سورية، فإننا لم نسمع ولم نر منها أي عمل حقيقي ضمن الأسواق، أو يخص تثقيف وتوعية الناس بحقوقهم وواجباتهم، بل على العكس، نسمع منهم في بعض الأحيان تصريحات تبرر ارتفاع الأسعار.
سلع لا بدائل لها
يتابع أحمد أسباب عدم نجاح المقاطعة، ويوضح أن هناك بضائع ذات حساسية خاصة، لا يمكن الاستغناء عنها بأي شكل من الأشكال، وليس لها بدائل، مثل الخبز، فاليوم مثلاً، قام الكثير من المعتمدين – حسبما ورد في صحيفتكم منذ أيام – برفع أسعار الخبز بعد قرار التوطين، فهل يستطيع الناس، وخاصة الفقراء، مقاطعة الخبز؟
ثالثاً والأهم، هو أن المقاطعة ليست حلاً، لأن التخفيض – إن حصل – سيكون مؤقتاً، ثم ستعود السلعة للارتفاع.
خلق منافسين
ويرى أحمد أن الأهم للوصول إلى نتائج مرضية للمستهلك، هو تنظيم الأسواق والتحكم بالأسعار، فحتى الآن، ما تزال الأسواق الرئيسية والمركزية (سوق الهال) هي التي تتحكم بالأسعار وليس سواها، وهذه الأسواق يسيطر عليها ويتحكم بها ما يعرف بالـ (الكومسيونجي) الذي يقرر سعر السلعة من دون النظر إلى النشرة الاسترشادية للأسعار، وعلى الحكومة أن تفتتح أسواقاً تخلق تنافسية وتؤدي إلى تخفيض الأسعار.
فدمشق مثلاً، بحاجة إلى أربعة أسواق (هال) في مداخلها الأربعة، كل واحد منها يجمع منتجات المناطق الأقرب إليه، وبالتالي ستُخلق تنافسية تكسر حلقة احتكار السوق الواحد الذي تتحكم به مجموعة واحدة أو شخص واحد، إضافة إلى نزع ذريعة إضافة أعباء وأجور النقل على السلعة المباعة، لأن كل بائع تجزئة سيشتري من السوق الأقرب إليه، وسيوفر الكثير مما كان يدفعه سابقاً.
غياب الفاعل المدني
وفي محاولة لمعرفة أسباب عدم تشجع المواطن على خوض هذه التجربة المدنية التي من الممكن أن تحفظ حقوقه، التقت «الوطن» برئيس حركة البناء الوطني أنس جودة الذي أوضح أنه حين نتحدث عن «استجابة» لفكرة المقاطعة، فنحن نتحدث عن جهات تدعو لمقاطعة بضاعة ما أو تعمل على أن يتخذ المستهلكون سلوكاً معيناً تجاه خدمة أو بضاعة أو قانون يؤثر في مصالحهم، وهذا هو مضمون العمل المدني بشكل عام، ومضمون عمل جمعيات حماية المستهلك بشكل خاص، فمن الصعوبة في أي مجتمع أن يتم تنظيم حملات مقاطعة أو ترويج أو توعية من دون وجود فاعل مدني محترف يراكم الخبرة والمعرفة المتعلقة بالمجال المطلوب، ويعمل على المناصرة للقضايا الأساسية التي ينشط لأجلها، وهنا تتوضح الفجوة الموجودة في المجتمع السوري بغياب الفواعل المدنية القادرة على تحقيق الاستمرارية الأساسية للوصول إلى التغيير المطلوب سواء تحدثنا عن تغيير في الأسعار أو تعديل قانون أو لائحة تنظيمية أو تعديل مواصفات منتج ما وما إلى هنالك.
فشل التجربة سيلغي الإيمان بها
وبهذا المنطق يمكن تفسير إخفاق الكثير من الحملات التي قامت في الفترات السابقة على وسائل التواصل الاجتماعي، مثل حملة مقاطعة شركات الخليوي التي استمرت فترة ثم انتهت، وهذا سيكون حال أي حملة مقاطعة لأي منتج، لأنه من دون الفاعل المدني المتخصص والمتابع، ستبقى كل الحملات مجرد (هبّات) عاطفية مرحلية تضر أكثر مما تفيد، فحين يرى المجتمع أن هذه (الهبات) لم تحقق شيئاً، سيفقد الإيمان بالفكرة كلها، ويقتنع بعدم جدواها، وهذا هو السبب الرئيسي باعتقادي في رفض الكثيرين الانضمام لحملات يعرفون مسبقاً أنها لن تحقق شيئاً.
وبالحديث عن الفاعل المدني المتخصص لابد من الحديث عن جمعيات حماية المستهلك التي ينقسم دورها إلى، أولاً: دور وقائي يتمثل في إعلام المستهلك ووضعه بصورة بالأخطار الناجمة عن المنتوجات المطروحة في السوق وتحريضه على عدم اقتنائها أحياناً. وتتعاون الجمعية في ذلك مع وسائل الإعلام المختلفة بتقديم برامج تتعلق بتوعية المستهلك بحقوقه وواجباته ونشر ثقافة الاستهلاك، ولوزارة التجارة الداخلية دعوة مندوبين عن هذه الجمعيات للمشاركة في مناقشة السياسات المتعلقة بحقوق ومصالح المستهلك.
وإلى دور دفاعي ثانياً، يتمثل في مساندة المستهلك عند المطالبة بحقوقه سواء في مواجهة المنتج والبائع ومقدم الخدمة، ومتابعة معالجة شكاوى المستهلكين والتنسيق مع الجهات المعنية، ولها الحق بالتدخل إلى جانب المستهلك في حال إقامته الدعوى ضد مسبب الضرر، أو عند الدفاع عنه أمام القضاء، وهذا ما يتوافق مع المبادئ التوجيهية لحماية المستهلك التي اعتمدتها الجمعية العامة في الأمم المتحدة بقرارها 70/186 المؤرخ 22 كانون الأول2015، والتي تؤكد على مراعاة مصالح المستهلكين واحتياجاتهم في الدول الأعضاء، و«مراعاة ضرورة تمتع المستهلكين بحق الحصول على منتجات غير خطرة، وكذلك بحق تشجيع التنمية الاقتصادية والاجتماعية العادلة والمصنفة والمستدامة وحماية البيئة، والتي من بين أهدافها: تيسير قيام جمعيات مستهلكين مستقلة.
تقليص صلاحيات في سورية
وتسهم جمعيات حماية المستهلك أساساً في تحقيق أهداف التنمية المستدامة السبعة عشر، فوفقاً لمؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد)، فإن ثقة المستهلك تمثل عاملاً بالغ الأهمية للنمو والتنمية الاقتصاديين، حيث تمكّن المستهلكين من الدفاع عن حقوقهم والقيام بخيارات مستنيرة ومستدامة، كما تمكن من إنفاذ القانون في مواجهة التجار وتوفر سبلاً للتسويات والإنصاف في سياق حل المنازعات، كما تتيح لهم الاضطلاع بدور نشط في السوق، ما يحفز الاقتصاد باتجاهات أكثر دينامية وتنافسية، ويرسخ دور الكيانات المدنية ما يفضي إلى مجتمع أكثر مشاركةً وتوازناً.
وفي سورية، أحدثت جمعيات حماية المستهلك لأول مرة بالقانون رقم (2) تاريخ 10 آذار 2008، وكرسها أيضاً القانون الذي تلاه رقم (14) تاريخ 26 تموز 2015 الذي أعطى جمعيات حماية المستهلك صلاحيات أكبر من سابقه، ثم انتقل تنظيم هذه الجمعيات لقانون حماية المستهلك الأخير الصادر بالمرسوم التشريعي رقم (8) تاريخ 12 نيسان 2021 ولكن بصلاحيات أقل من تلك التي كانت تتمتع بها في ظل التشريع السابق، والذي يعرف جمعية حماية المستهلك بأنها جمعية تُعنى بمصالح المستهلك في المجالات التي يشكل فيها تقديم المادة أو المنتج أو السلعة أو الخدمة خطراً على صحته أو سلامته أو ضرراً بأمواله، وتمثل مصالح المستهلكين وتقوم بالدفاع عنها لدى الجهات المعنية.
وحدد القانون أهداف جمعية حماية المستهلك بـ:
• تمثيل مصالح المستهلكين والدفاع عنها لدى الجهات المعنية.
• العناية بمصالح المستهلك في المجالات التي يشكل فيها تقديم المادة أو المنتج أو السلعة أو الخدمة خطراً على صحته أو سلامته أو ضرراً بأمواله،
• المساهمة في إرشاد المستهلك إلى طرق الاستهلاك الأفضل وتقديم الاستشارات والخدمات التي تزوده بالمعلومات الضرورية.
• التنسيق مع الجهات المعنية في مجال الرقابة على المادة أو المنتج أو السلعة أو الخدمة المقدمة للمستهلك.
• الاستفسارات من الجهات المعنية وتقديم المقترحات التي تعنى بحقوق ومصالح المستهلك.
• إصدار المجلات والنشرات والمطبوعات المتعلقة بتوعية المستهلك وفق القوانين والأنظمة النافذة.
حماية المستهلك لم تحقق دورها
عملياً، لم تستطع جمعية حماية المستهلك تحقيق الأدوار المطلوبة منها، فاقتصر نشاطها الرئيس على متابعة الأسعار في دور مشابه لدور الوزارة، ما شكل ازدواجية أثرت في وجود الجمعية وفعاليتها فلا فاعل مدني يكون قادراً على القيام بدور الحكومة، وأصلاً لا يجوز له القيام بهذا الدور، فللمجتمع المدني مساحته وأدواره، وللحكومة أدوارها ومساحتها ويتم نظم العلاقة بينهما وبين القطاع الخاص أيضاً على هذا الأساس، ولكن عندما تتراكب الأدوار نتيجة عدم المعرفة بالمساحات، بالتأكيد سيكون الدور الأقوى للفاعل الحكومي بحكم الواقع، وهذا ما يجعل المدني محجماً وبعيداً عن ساحة الفعل والتأثير، وهذا ما حدث مع جمعية حماية المستهلك.
ثقافة المقاطعة
ومن حيث انتهى جودة، بدأت «الوطن» الحديث مع رئيس جمعية حماية المستهلك في دمشق عبد العزيز المعقالي، الذي كان رده مقتضباً، لم ينفِ فيه إمكانية نجاح مقاطعة البضائع بتخفيض أسعارها، لكن بعد توافر شروط حدوثها، لأنها تحتاج أولاً إلى خلق ثقافة المقاطعة عند المستهلك، وهذا يحتاج إلى تركيز من وسائل الإعلام على الأمر، وتحفيز المواطن على الشكوى وخلق ثقافة الشكوى غير الموجودة أيضاً، أي إن الأمر يحتاج إلى تجهيز طويل مسبق قبل أن نطلب من الناس محاربة ومقاطعة سلعة معينة، كي لا تفشل المقاطعة وتتسبب بردة فعل سلبية، إذ إن استجابة 5 أو 10 بالمئة من المجتمع لن تؤثر في السلعة، ونحتاج بالحد الأدنى 25 أو 30 بالمئة للمقاطعة، مؤكداً أن نجاح تجربة المقاطعة الأولى ستؤدي إلى نجاحها في كل المرات، وسيكون لها أثر إيجابي كبير في المجتمع والمستهلك والتاجر نفسه، لأنها ستلزمه بالتعامل دون جشع، وبالتالي سيستعيد الناس الثقة به.
لا تخالف القانون.. لكن بشرط
ولمعرفة ما إن كانت هناك مسؤولية قانونية على من يدعو ويحرض على المقاطعة، تواصلت «الوطن» مع المحامي عبد الفتاح الداية، الذي قال: إن السؤال فاجأه كمحام، لأنه لم يطرح عليه سابقاً خلال سنوات عمله، ما استدعى منه القيام ببحث مطول حول الأمر، ليصل إلى نتيجة مفادها عدم وجود نص قانوني صريح يجرّم الدعوة لمقاطعة منتج أو سلعة بشكل عام، لكن في الوقت ذاته، إن كانت الحملة تحرض على مقاطعة منتج أو تاجر أو صناعي معيّن بالاسم، فبإمكانه تقديم شكوى ذم أو تشهير أو ما شابه ذلك، ومن الممكن أن تكون ضمن نطاق الجريمة الإلكترونية، وما عدا ذلك، يعتبر نقاش رأي، وهذا لا يشكل أي جرم على الإطلاق.
سيرياهوم نيوز3 – الوطن