| عبد المنعم علي عيسى
ما لم تحدث مفاجأة كبرى في الأيام الأخيرة التي تفصلنا عن 24 نيسان الجاري، موعد إجراء الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية الفرنسية، فإن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون سيكون على موعد مع التجديد لولاية ثانية ستمتد به حتى العام 2027.
المفاجأة التي ستكون من العيار الثقيل، فيما لو حدثت، كان من الممكن الرهان عليها لتصبح راجحة الحصول، لو لم تكن تلك الجولتان الأولى 10 نيسان والثانية التي ستجري بعد أسبوعين منها، قد حصلتا في مناخات الحرب الأوكرانية الشديدة التأثير في العالم أجمع وعلى وجه التحديد في القارة الأوروبية التي تقع فرنسا في القلب منها.
جاءت نتائج الجولة الأولى لتعطي ماكرون تقدماً على منافسيه الاثني عشر بحصوله على 27.6 بالمئة من الأصوات، تلاه في المرتبة الثانية مرشحة اليمين جان ماري لوبين بواقع 23.4 بالمئة من الأصوات، والفارق هنا ضئيل فهو لا يتعدى الـ3.2 بالمئة مما لا يمكن الركون كثيراً إليه، بل وكان من الممكن حدوث تغيير جذري فيه بعد تشظي شارع الخاسرين في كلا الاتجاهين، لولا أن ظلال الحدث الأوكراني، الذي يبدو أنه جاء وبالاً على مرشحة اليمين التي تتمتع بعلاقات حسنة مع الرئيس الروسي وهي ما انفكت تبدي إعجابها بقيادته في محطات عدة منذ وصولها إلى منصبها الراهن خلفاً لأبيها، ستكون ثقيلة بما يكفي لحدوث انزياحات أكبر، لدى هؤلاء، باتجاه ماكرون، المعزز بسموم الإعلام الفرنسي التي تصب راهنا في خانة «شيطنة» الروس، على الرغم من أن ماكرون يبدو مدركاً جيداً لوجوب ترميم تلك الثغرة حيث سنراه يقول من على منبر مجلة «لوبونيت» التي ستنشر لقاءها معه هذا، أي المتضمن التصريح التالي، يوم غد الخميس 21 نيسان: «أعتقد أن بوتين يحترم فرنسا ويميزها عن الدول الغربية الأخرى، كما أنه يأخذ بالحسبان أننا نجري حواراً معه منذ فترة طويلة، وهذا الحوار كان دائماً صريحاً ومطلوباً»، ومن الممكن فهم هذا التصريح، الذي اختارت المجلة نشره قبيل ثلاثة أيام من جولة الحسم، على أنه من النوع الخادم لماكرون في هذي الأخيرة لجهة أنه يخفف من وهج العلاقة التي تربط بين لوبين وبين الرئيس الروسي الذي يشغل اليوم الشارع الفرنسي بدرجة كبيرة، شأنه ما يفعل لدى باقي الشعوب الأوروبية.
في الخرائط التي رسمتها الجولة الأولى من الانتخابات برز هناك العديد من الظواهر لعل من أهمها انقسام اليسار الذي حصلت تشظياته كلها على ما يقرب من 29 بالمئة، وكان نصيب جان لوك ميلوتشون مرشح اليسار الجديد منها وحده 21.95 بالمئة، وهم في جلهم من شريحة الشباب ولهذا أهمية مستقبلية، وهذا يعني أنه لو قدر لتلك «الشظايا» أن تتوافق على مرشح واحد، الأمر الذي كان ممكنا لعدم وجود فوارق جوهرية بين برامج تلك الأحزاب المنضوية تحت راية اليسار، لتفوقت على مرشح رأس المال الفرنسي ايمانويل ماكرون نفسه، ولكان ذلك المرشح قد انتقل مع هذا الأخير إلى الجولة الثانية مع احتفاظه بحظ وافر للفوز بها، اليمين بدوره دخل الانتخابات برؤوس عديدة كانت النتائج التي استحصلت عليها مما يستحق التوقف عنده، فقد تلاشى، تقريباً، تمثيل اليمين الفرنسي التقليدي وراء حصول مرشحته فاليري بكريس على نسبة لا تتعدى 4.79 بالمئة، والجدير ذكره هنا هو أن ذلك اليمين كان قد قدم لفرنسا ما بعد الحرب العالمية الثانية أربعة من رؤسائها، على حين حصل مرشح اليمين المتطرف ايريك زمور على 7 بالمئة على الرغم من أنه خاض الانتخابات بشكل منفرد ومن دون دعم حزبي، ولربما كان لهذا الفعل الأخير دلالات تشير إلى تنامي نزعة العنصرية والعداء للمهاجرين والمجنسين في المجتمع الفرنسي، التي يمثلها زمور خير تمثيل، وهذي النسب من المرجح لها أن تزداد صعوداً في الانتخابات القادمة لشدة تأثير هذه الظاهرة في المجتمع الفرنسي.
لربما كانت الخريطة المكثفة التي ترسمها نتائج الجولة الأولى من الانتخابات الفرنسية تتحدد عبر الخطوط البارزة التالية:
– بقاء الشريحة الأوسع من الفرنسيين عند «المتراس» الذي ابتنته العام 2017 عندما صوتت لرئيس من خارج الكتل السياسية التقليدية التي عرفتها البلاد منذ بدء الجمهورية الخامسة العام 1959، فإيمانويل ماكرون الذي حملته تلك الشريحة إلى السلطة كان ممثلاً «تحت الاختبار» لرأس المال الفرنسي، واستعدادها الحالي لتجديد ذلك «الحمل» يشير إلى أن الأخير نجح في الاختبار.
– هناك هبوط عام للأحزاب الفرنسية اليسارية منها واليمينية على حد سواء، والتقدم الذي حققته بعض تلك الأحزاب كان تحت سقف التراجع قياساً إلى أدائها السابق الممتد بين عامي 1959 – 2017، وللأمر دلالاته التي تتعدى الخلافات الحزبية وتضارب الأولويات في البرامج، ليصل إلى رمزية تعبر عن انزياح حاصل في المجتمع الفرنسي تجاه النموذج الرأسمالي الصرف الذي تغيب فيه تأثيرات الإيديولوجيا لمصلحة بروز نزعة المنفعة المادية.
– هذا لا يلغي ملامح بروز تيار يساري جديد لا هو شيوعي ولا اشتراكي بالمعنى المعروف للكلمة، وهو يتنامي داخل أوساط الشباب بالدرجة الأولى مما يشير إليه انجذاب هؤلاء لصندوق اقتراع جان لوك ميلوتشون بدرجة لافتة كان قد حمله لاحتلال المركز الثالث، على الرغم من أن الأخير كان قد دخل الانتخابات في ظروف بالغة الصعوبة كالحرب الأوكرانية وسيادة الإعلام الذي يتحكم به رأس المال، هذا التيار مرشح للتنامي لكن الفعل سيكون مرتبطاً، من حيث السرعة والبطء، بعوامل عدة بعضها ذاتي والآخر خارجي.
وفق الخطوط الراسمة للصورة الآنفة الذكر فإن مرشح رأس المال الفرنسي إيمانويل ماكرون سوف يجدد لولاية ثانية، وهي ستكون مقدمة لتحولات كبرى في المجتمع الفرنسي الذي أخذ يلملم أوراقه التي بعثرتها رياح الداخل وكادت تعصف بها نظيرتها الآتية من الخارج، ولربما كانت السنون الخمس كافية للقيام بفعل «اللملمة» وإعادة الفرز.
سيرياهوم نيوز 3 – الوطن