|محمد سيف الدين
إنها حرب النظريات السياسية التي تعبّر عنها تصورات المفكرين الاستراتيجيين على ضفتي الصراع لشكل العالم وتوزّع موازين القوى.
تعكس أحداث الأزمة الأوكرانية والمواجهة الدائرة بين روسيا والغرب على أرض “روسيا الأخرى” (أوكرانيا) حرباً من نوع مختلف. إنها حرب النظريات السياسية التي تعبّر عنها تصورات المفكرين الاستراتيجيين على ضفتي الصراع لشكل العالم وتوزّع موازين القوى، ومواقع دولهم في النظام الدولي ومكانتها في التاريخ. ويسعى كل منظّرٍ من هؤلاء إلى حشد أفكاره في نظرية متكاملة تعطي صنّاع القرار الأسباب والذرائع، التهديدات والمخاطر، الفرص والضرورات، ليحشدوا موارد أممهم في صراعاتهم الكبرى.
حرب الأفكار
إنها حرب الأفكار التي تتناحر على أرض الواقع. تجسّدها الحرب بدخانها ونارها، بمدافعها الثقيلة وطائراتها وقنابلها الهائلة، وتعبّر عنها ملامح الجنود، بين متحمّس ومترددٍ ومتثاقلٍ وموتور، وتعكسها ملامح الذعر على وجوه المدنيين الواقفين على الضفتين، يتنازعهم انتماءان؛ انتماء إلى التاريخ يغذّي مشاعرهم القومية من جهة، وميلٌ إلى المستقبل يحثّهم على كره الحرب والسعي لتحسين حيواتهم من جهةٍ ثانية. مواجهةٌ بين رؤى المفكرين الاستراتيجيين المسكونين بهواجس التاريخ، بنكساته ومجده، بالعظمة التي كانت لهم يوماً، وبالخوف من عودة المآسي التي عرفوها، إذ لم تمحِ العقود الطويلة من المواجهات الباردة السنوات القليلة من الرعب والجوع والحصار وعشرات الملايين من الجثث. أجيالٌ وسنواتٌ وثرواتٌ ودول ضاعت، وما عادت إلا لتستأنف مسيرها نحو المواجهة المقبلة للبحث عن المكانة.
على الضفة الغربية، كثرٌ هم المفكرون الاستراتيجيون الذين نظّروا للإمبراطورية الرأسمالية، ولنشر الديمقراطية الليبرالية وتعميم العولمة، كأيديولوجياتٍ ومساراتٍ تعكس الانتصار النهائي للعالم الرأسمالي على العالم الشيوعي أولاً، ثم لاحقاً على كل العوالم.
فرانسيس فوكوياما لخّصها بـ”نهاية التاريخ”، وهي فكرةٌ أعمق من ظاهرها الذي تعرض لانتقاداتٍ واسعة منذ لحظة انتشارها، لكنها على كل حال بقيت الفكرة التي عكست زهواً غربياً بالانتصار في الحرب الباردة، والتأسيس لردع أية قوة جديدة عن محاولة العودة إلى التصارع مع الإمبراطورية المنتصرة، ثم أضاف صامويل هنتنغتون فكرته “صدام الحضارات”، لتستشرف الصراع المقبل بين الحضارات التي لن تتخلى عن هوياتها الفريدة، وستواصل البحث عن مكانتها من خلال الصراع. فكرة كانت مخيفة في بداية إطلاقها، لكونها تستعيد احتمالات الصدام وتتوقعه، في لحظة السيطرة شبه المطلقة للإمبراطورية الأميركية على النظام الدولي.
وتنوّعت الأفكار في المدارس الغربية وفي مجمعات التفكير الاستراتيجي، لكن المسار الحاكم كان يعبّر عن ميلٍ إمبراطوريٍ لغزو العالم بالأفكار وبأنماط الحياة الموحدة، وبالجيوش حين تستعصي الأفكار، وكانت وسيلة ذلك قلب الأنظمة من خلال ثورات ملونة متنقلة. كان برنار هنري ليفي رمزاً لهذه الأفكار، وملهماً حاضراً في ساحات الثورات التي غزت الدول السيدة حول العالم.
وفي الشرق، على الضفة الأخرى من الصراع الفكري، أحدث انهيار الاتحاد السوفياتي صدمةً فكرية شديدة عند معتنقي النظرية الحاملة للعالم الشرقي. لقد وقعت فجأة الإمبراطورية المعبّرة عنهم، وعن هويتهم، وعن موقعهم في العالم، وعن تاريخهم ومكانتهم بين الشعوب، وعن الآمال التي حملوها لقرونٍ من الزمن، كأسيادٍ للبر، وكحكام مستقرين للشمال الذي دفعوا من أجل حمايته وتأسيس إمارات “كييفسكايا روس” و”ماسكفا” الكثير من الأرواح في حروبٍ طويلة ودامية مع شعوب وسط آسيا والأتراك وغيرهم.
والمنظرون لعودة روسيا إلى أداء دور القطب العالمي في مواجهة أميركا والغرب كثرٌ، لكن منذ التسعينيات من القرن الماضي، لمع نجم ألكسندر دوغين، ونظريته السياسية الرابعة، كمعبّر عن هذا الاتجاه بكل ما يحمله من رفضٍ وتحدٍ وميل إلى المواجهة واستعادة روسيا التي كانت.
ليفي: عالم اللون الواحد بأي ثمن
بزغ اسم برنار هنري ليفي، وهو فرنسي من أصل جزائري، يهودي الديانة، يحمل في هويته تناقضاتٍ جديرة بالانتباه، وحماسة تستدعي النقاش والتفسير لكل ما هو غربي، وسعياً دؤوباً يصل إلى حد تكريس حياته في سبيل نشر الأفكار الليبرالية الديمقراطية وتعميمها على العالم.
الفيلسوف الذي يعتبر نجم “تيار الفلاسفة الجدد” الذي برز في فرنسا خلال سبعينيات القرن العشرين، يوصف بأنه “يساري” الفلسفة والفكر، ولكنه “يميني صهيوني” على صعيد المواقف والممارسة السياسية.
في بدايات موجة الأحداث المعروفة بـ”الربيع العربي”، تنقّل ليفي بين الميادين المختلفة في بلدان الثورات المتتالية، حتى ارتبط اسمه بها. في ليبيا، عمل على الأرض وفي أروقة صنع القرار الغربية مروجاً للحرب، وداعياً إلى التدخل الدولي العسكري.
وفي سوريا، استمات في الدفع باتجاه التدخل الغربي العسكري، تحت مبدأ “الحرب من أجل التغيير”. وقد ساهم في تحفيز إدارة الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي على تنفيذ ضربات هناك. ويعتبر منتقدوه أنه لم تنفجر الدماء من حدودٍ إلا وكان لليفي دورٌ في فتح جروحها. لقد كان مهندس تحويل الأحلام الشعبية البسيطة لتحسين الحياة إلى انفجارات دامية وحروبٍ أهلية وأزمات دولية. إنه بالنسبة إلى معارضيه، الفيلسوف الذي يترجم مصالح الإمبراطورية الغربية إلى خرائط مقطّعة، وحدود مرسومة، وتقسيم الدول إلى “عسكر وشعوب” وشياطين وملائكة.
في أوكرانيا، ظهر الفيلسوف الفرنسي في “الميدان” في العام 2014، عندما أطاح الانقلاب الرئيس يانوكوفيتش. لقد كانت أفكاره حاضرةً في الحدث بقوة، لكنه كان يحرص أيضاً من خلال حضوره الجسدي بين المتظاهرين على ربط كلّ “ثورةٍ” تحدث بأفكاره وبتوجيهاته.
ومن قلب هذا الحضور، بقيت شخصية ليفي تتلألأ في عيون ناشطي الدول الأقل حظاً والأقل جذباً لوعود الحلم الغربي بالتغيير الذي سينقلهم من عالمٍ إلى آخر، بمجرد قلب نظام الحكم، وإعلان الولاء للمنظومة الغربية بقيمها وقوانينها ونمط عيشها، وصولاً إلى قيادتها الإمبراطورية. لقد تحوّل برنار هنري ليفي إلى “BHL”؛ علامة تجارية فكرية لامعة ومؤثرة.
وفي نصف قرنٍ تقريباً، اشتغل الفيلسوف الفرنسي بالعقول والآمال، وصولاً إلى الدول والخرائط، ليتنقل بين العواصم وساحاتها، من تونس إلى ليبيا وجورجيا وأوكرانيا، ويتوغل في الأزمات في سوريا ومصر، وينتهي إلى أوكرانيا. حشد في رصيده عشرات الكتب التي تعبّر عن فلسفته الجديدة، المؤيدة للعولمة والحداثة وتعميم قيم الحضارة الغربية وأنماطها وعولمتها. لقد نظّر لجعل كل ما هو غربي عالمياً.
دافع ليفي عن التدخل الغربي في دول الأزمات، معتبراً أنّ ما يجرّب في هذه الدول لا يعبّر عن صراع بين رؤى متناقضة أو مختلفة، بل هو حربٌ بين السلطات السياسية والعسكرية لهذه الدول وبين الشعوب، وكان من قبيل المفارقة أنَّ جميع هذه الدول لا تسير وفق الإرادة الموحدة للإمبراطورية الرأسمالية التي تتزعّمها أميركا.
مارس تأثيراً قوياً في الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي، مشجعاً إياه على المشاركة في الضربات ضد النظام الليبي، واستمر بالدعوة إلى مزيد من التدخل الغربي لإسقاط الرئيس السوري بشار الأسد، من خلال استخدام القوة العسكرية.
لقد شكّلت رؤاه الدافعة نحو قلب الأنظمة بالقوى المختلفة الناعمة والصلبة أساساً نظرياً متماسكاً يريح صانعي القرار الغربيين ويعطيهم التبريرات الأخلاقية والقيمية لسفك الدماء في دول بعيدة عنهم جغرافياً، وتصوير الأمر على أنه إنقاذٌ للشعوب في مواجهة الديكتاتوريات.
ورغم أنَّ ليفي واجه الكثير من الانتقادات، بما في ذلك تلك الصادرة عن الصحافة الغربية، باعتباره استعراضياً ساخراً، والتي قلَّلت من قيمته العلمية، فإنَّ توالي الأزمات كان يعيده إلى النجومية، بياقته البيضاء وهندامه العصري، وأسلوبه المسرحي الذي يجيد فيه تقديم الفكرة وتصويرها وحشد مبرراتها الأخلاقية، وإظهارها كاندفاعة نبيلة للتحرّر من الظلم.
وعلى الرغم من نجوميته المنتشرة عالمياً، وتأثيره في الفكر الفرنسي المعاصر، وفي الفكر الغربي عموماً، تلقى ليفي سيلاً من الانتقادات من المجتمع العلمي ومن الصحافة، من باب ضعف خلفيته الفلسفية مقارنةً بالفلاسفة الغربيين الذين اشتهروا خلال القرن العشرين، مثل جاك داريدا وميشيل فوكو، إلى الحد الذي أثر في مكانة المدرسة الفلسفية الجديدة التي نشأت خلال السبعينيات من القرن الماضي، والتي كان أحد منظّريها.
كرّس ليفي أعماله وحياته للدفاع عن الترابط الغربي العابر للأطلسي، والذي تعبر عنه الديمقراطية الليبرالية الرأسمالية، على حساب الهويات القومية والخصوصيات الهوياتية لكلٍّ شعب وإقليم، ومعه تحولت حقوق الإنسان إلى أيديولوجية تُعتنق، وتشن باسمها الحروب، على أنها تخصّ حضارةً واحدة مهمتها تعميم هذه الأيديولوجية على الحضارات الأخرى التي لا تؤمن بها السلطات الحاكمة لتلك الحضارات.
وكانت القضية التي فضّل دائماً الانطلاق منها لتطبيق نظريته هي إيجاد مقاومات من الأقليات المقصاة ضد الأغلبيات الحاكمة، من خلال إيقاف خصوصيات هذه الأقليات، العرقية والدينية والثقافية… وقلب السلطات وتفكيك الأنظمة، ومن ثم إعادة تذويب هذه الخصوصيات ضمن الهوية العالمية التي يروج لها مع أقرانه، بكل ما يحمله ذلك من تناقضٍ نظري، كانت العبارة الأكثر تعبيراً عن نتائجه هي “الفوضى”.
ومع الإقرار بفاعلية طروحاته المعززة بقرارات صانعي القرار الغربيين من جهة، والمستندة إلى الفاعلات الجارفة للعولمة بمختلف ألوانها من جهةٍ ثانية، انتشرت فوضى النزاعات في أقاليم عديدة من العالم، لكن انتشارها كان متلازماً بصورةٍ مدهشة بما يمكن تسميته “رادارات الثروة”. معنى ذلك يتجسد في أنّ كلّ أزمة كان لأفكاره وحضوره تأثير فيها، كانت تستبطن صراعاً على الموارد والثروات وخطوط النقل والتوسع الجيوسياسي، من الصراع الجيوسياسي مع روسيا في جورجيا وأوكرانيا، وتوسع حلف شمال الأطلسي، وأنابيب نقل الغاز والنفط، إلى أوروبا، ومكامن الثروات في ليبيا، وحرب الغاز في شرق المتوسط، والصراع الجيوسياسي على مصر، إلى الدرجة التي تفضي إلى استنتاج بأنّ الدول التي لا تمتلك ثروات، أو التي لا تقع على تقاطعات جيوبوليتيكية مصيرية لخصوم الغرب، هي دولٌ لا تحتاج إلى الديمقراطية وإلى خدمات نقل القيم الغربية النبيلة. وبالتالي، إنَّ خدمات ليفي النظرية كانت تتلازم باستمرار مع الصراع العالمي حول هذه العناوين، ولم تكن حياديةً ومتّسقة مع مضامينها الفلسفية.
لقد بدت هذه الأفكار كنمط من المحاولات الموحّدة لحرمان الدول المتمردة على الإمبراطورية الغربية من أدواتها للحكم، ومن مكانتها كمعبّر عن تاريخها وشعوبها وثقافتها والروابط العاطفية بين مكوناتها باتجاهات مختلفة؛ باتجاهها العرضي الشامل لمكوناتها المعاصرة، وباتجاهها الطولي الموغل في التاريخ، ليشمل مجموع نضالاتها وانكساراتها ومجدها ومكونات هويتها، وباتجاهات أخرى ترتبط بمكانتها بين الأمم اليوم وبالأمس القريب والأبعد.
ويكشف مسار ليفي الفكري والسياسي عن رؤى هذا النمط من السياسة ونواقصه. تُظهر مسيرته المهنية أنَّ الليبرالية ما بعد الحداثة المناهضة للاستبداد التي تحركها الرغبة في منع تكرار أسوأ حوادث العنف الجماعي في القرن العشرين تخاطر بسحب السياسة الخارجية إلى صراعات غير حكيمة، حتى في الوقت الذي تحرم السياسة المحلية من الأدوات الاقتصادية والهويات الثقافية التي يمكن من خلالها التغلب على النزاعات.
يرتبط هذا الشكل من الليبرالية المدمرة للذات بشخصية المثقف المشهور، التي يبدو أن حملاتها الإعلامية مدفوعة بمناشدات أخلاقية نيابة عن الضحايا، تحل محل أدوات السياسة العامة للدولة والروابط العاطفية للأمة. إن أخذ صورة ليفي العامة وفلسفته على محمل الجد يسمح بنقد أكثر ليس لأخطائه الشخصية فحسب، ولكن لنوع الليبرالية التي يمثلها أيضاً.
وكما هو حال المنظومة القيمية الغربية برمّتها، فإن طروحات ليفي برّاقة وجذّابة وحريرية الغلاف، لكن الحروب الإسرائيلية المتكررة على الفلسطينيين كشفت تحيّزاتها، وأظهرت تناقضات صارخة بين مندرجات أيديولوجية حقوق الإنسان وحقوق المضطهدين، وبين الدعم الشرس لآلة الحرب الإسرائيلية، والنشاط المحموم لتحشيد الرأي العام وصناعة القرار في الغرب إلى جانب المعتدي، وذلك انطلاقاً من انتماءٍ معلن “للشعب اليهودي” وفق منظور ليفي، الذي يقدم نفسه في المقابل كمفكرٍ غير متدين. إنه أحد التناقضات التي كثيراً ما أُشيرَ إليها بالبنان في كتبه وممارساته.
دوغين: إما روسيا عظيمة وإما زوال العالم
وفي مقابل من/وما يمثله هنري ليفي من مفكّرين وأفكار، وجدت روسيا نظريتها الخاصة للعودة إلى التأثير في النظام الدولي، من الباب الواسع لتاريخها، ومن المحطات المختلفة والمتناقضة التي يشملها هذا التاريخ.
ومن قلب هذا التاريخ بمضامينه الثقافية والهوياتية الغنية، ومن الصدمة النظرية التي شكّلها انهيار المنظومة الاشتراكية في قلب الدولة القائدة للاتحاد السوفياتي السابق، بزغت بواعث “النظرية السياسية الرابعة” التي نظّر لها ألكسندر دوغين، ليصبح المعبّر الأكثر شهرةً عن مجتمع الفكر الروسي المعاصر الذي يتطلَّع إلى إقامة الأساس النظري لعودة الإمبراطورية الشرقية إلى مكانتها العالمية.
وترتكز هذه النظرية على “الأوراسية” كمحورٍ لهوية القوى العظمى العائدة، وفيها تُختزن قيمٌ وتقاليد وخصوصيات ورموز قومية ودينية ومصالح وهواجس كبرى. وقد بدأت أفكار دوغين وزملاؤه ترتسم منذ التسعينيات من القرن الماضي، لتظهر معالمها في كتاب “أسس الجيوبوليتيكيا” في العام 1997، ثم تتراكم في أكثر من 60 كتاباً لدوغين نفسه، لتتبلور مكتملةً تحت عنوان “الأوراسية، كنظرية رابعة”، بعد أن عرف العالم، وخصوصاً في القرن العشرين، النظريات الثلاث: الرأسمالية والشيوعية والنازية.
لا ينظّر دوغين لعودة روسيا كقطبٍ عالمي فحسب، بل إن نظريته تمتد أيضاً إلى الفضاء الأوراسي، الذي تشكل روسيا عصبه ونواته ومصدر قوته الأساس، وهو يرى أن على روسيا التحرك لتشكيل فضاءٍ مناهضٍ للقيادة الأميركية للعالم، لتفكيك الهمينة التي يفرضها القطب الواحد وتشكيل نظام عالمي متعدد الأقطاب، ويرفض النموذج الديمقراطي الليبرالي وأيديولوجية حقوق الإنسان كأيديولوجية، وليس كمبادئ أخلاقية. وفي هذا الإطار، يعبّر عن التباينات الحادة بين الثقافتين الغربية والشرقية، من ناحية تركيز الأولى على الفردانية، والأخرى على الجمعية.
ومن كواليس التأثير الواضح في صناعة القرار في موسكو، يطلّ ألكسندر دوغين بمظهره الشبيه بالرهبان، ليفسر من خلال كتبه الغزيرة محاضراته وإطلالاته الإعلامية المكثفة، ويدافع عن نظريته، وعن انعكاساتها العملية في تطبيقات الاستراتيجية الروسية العامة، وخصوصاً في بعدها الأمني.
وكمؤثرٍ وفاعل في السياسة الروسية، يرتبط دوغين بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى الدرجة التي جذبت إليه الاهتمام العالمي المؤيد والرافض على حدٍ سواء؛ ففي حين يعتبره مؤيدو سياسات الكرملين العمق الأيديولوجي لحكم بوتين، وصاحب الفضل في إقامة الأسس الفكرية لعودة روسيا كقوةٍ عظمى، ينتقده خصومه، معتبرين أنه أخطر الفلاسفة الروس على الإطلاق، ويشبّهون علاقته ببوتين بعلاقة الراهب غريغوري راسبوتين بالقيصر نيكولاي الثاني، ملمّحين إلى انحراف آرائه وتهديدها مكانة روسيا، في قياسٍ على تنبؤ راسبوتين بانهيار الإمبراطورية الروسية، وشيوع الآراء التي تحمّل الراهب المثير للجدل مسؤولية زعزعة عملية صناعة القرار عند القيصر في ذلك الوقت.
واللافت عند دوغين هو استعادة نظريته عاملاً مؤثراً جداً في الشخصية الروسية عبر التاريخ، هو الأرثوذكسية، ليس كمذهب مسيحي فحسب، بل كمؤثر سياسي حاسم في تاريخ روسيا أيضاً. على هذا الأساس، وجد الفيلسوف المتدين نقطة الوصل الضرورية التي فقدتها روسيا في أيام الاتحاد السوفياتي، بين هويتها كوحدةٍ سياسيةٍ عظمى وجذور شعوبها المفطورة على الأرثوذكسية كجزءٍ من هويتها التاريخية.
وتبعاً لنظريته، يرى دوغين في أوراسيا كياناً ممتداً من المحيط الأطلسي غرباً إلى أقصى الشرق الروسي، بما يشمل القارتين الأوروبية والآسيوية وأجزاء من الشرق الأوسط، ويعتبر أنَّ هذا الكيان يمثل مهد الحضارات، وهو يركز على ثغرات الحضارة الغربية غير القادرة على فهم الحضارات الأخرى، بحيث تتعاطى معها من منطلق الأحكم الغربية الخاصة، وبإملاءاتٍ تغفل التمايزات الكامنة بين الحضارات، وغير المعترفة بخصوصيات كلٍّ واحدةٍ منها، بحيث أدى تراجع السيطرة الإمبراطورية الغربية على العالم اليوم إلى عودة الحضارات إلى الظهور والتعبير عن نفسها، وبالتالي تحقيق نبوءة صدام الحضارات التي تحدث عنها هينتنغتون. ويرفض دوغين القيم الغربية الموحدة والمروجة على أنها قيمٌ عالمية، إذ لا تعمل سوى في خدمة المصالح الغربية دون الآخرين.
ومن خلال تعبيرها عن رفض الهيمنة الغربية على العالم، وجدت هذه النظرية نقطة التقاطع الأساسية مع مشروع بوتين الرافض لنظام الأحادية القطبية الذي تسيطر من خلاله الولايات المتحدة الأميركية على النظام الدولي.
ومن ضمن ما ترفضه نظرية دوغين، الأنماط الاجتماعية والاقتصادية الغربية وعولمتها، وهو يشير على الدوام في منشوراته وتصريحاته إلى رفضه على سبيل المثال المثلية الجنسية، وتعميم “مبدأ المتعة”، والفردانية، والنمط الاستهلاكي في النظام الرأسمالي، وغيرها من معالم الأنماط المعولمة من قبل الغرب.
يحمّل منتقدو دوغين ونظريته الفيلسوف الروسي مسؤولية إقناع بوتين باستعادة شبه جزيرة القرم في العام 2015، وبالتدخل الروسي في سوريا في خريف العام 2015. وفي حين ينتشر رأي في مراكز الأبحاث الأوروبية المهتمة بروسيا، مفاده أن دوغين لم يعد مقرباً من بوتين كما كان في السابق، فإن آخرين لا يزالون يعتقدون بأنه صاحب الفكرة الأساس بإطلاق العملية العسكرية في أوكرانيا في شباط/فبراير 2022. ويستند هؤلاء إلى الشّبه الكبير بين تعبيرات بوتين ودوغين عن مبررات هذه العملية وضروراتها وظروفها من جهة، وأفكار دوغين التي لطالما اعتبرت أوكرانيا روسيةً من جهة ثانية.
ويبقى العنوان التسويقي لمطالب هذه النظرية من النظام الدولي يتلخّص، في تعبير دوغين وبوتين الموحد، وفي أكثر من مناسبة: نريد عالماً متعدد الأقطاب وأكثر عدالةً.
وفي سياق هذه الإرادة الواضحة، يرى دوغين أن انتصار روسيا في أوكرانيا أمر محتوم، “وأنّ العالم اليوم بصدد حرب أفكار، وروسيا تقاتل باسم الشعوب الأوروبية والإسلامية ضد النظام الليبرالي الغربي، إلى أن تتمكن من تقرير مصيرها”. وبحسب رؤيته، إما تنتصر روسيا في هذه الحرب وإما تزول ويزول العالم، ناصحاً بالإصغاء جيداً إلى تصريحات بوتين حول السلاح النووي، وهو الذي يعتبره ملكاً لروسيا وضمن زعمائها العظام، “لأنه ملك بطبيعته”، ويشكّل تجلياً لروح الدولة الروسية.
سيرياهوم نيوز3 – الميادين