| اسماعيل مروة
منذ مدة يلح علي طيف الصديق الراحل الدكتور رياض عصمت وزير الثقافة السوري الأسبق، والذي غادر الحياة أستاذاً في الولايات المتحدة الأميركية متأثراً بمرض كورونا في ذروته ودفن هناك.. مع أن الوطن كتبت عنه ونعته، إلا أن رياض عصمت بقي يلحّ في زياراته وطيفه، وكأن أمراً ما يريدني أن أفهمه لأجلي لا لأجله، وفي الصالحية أمام تمثال يوسف العظمة التقيت منذ مدة بسيطة بالسيدة زوجه برفقة الفنان الصديق محمد خير الجراح وكان لقاء مليئاً بالشجن، أعاد طيف الصديق الذي غادر بغتة ووجدتني أقلّب كتبه التي تفضل بإهدائي في مكتبتي، لأعثر على كتاب كأنني أراه أول مرة هو «حداثة وأصالة» وهذا الكتاب هو أول كتاب صدر له بعد تكليفه بوزارة الثقافة عن دار الفكر بدمشق وكان هذا الكتاب صديقي ليومين متتالين أدركت بقراءته سر رياض عصمت وعلمه وإنسانيته.
الشمول والاستيعاب
من ضوء المتابعة إلى آخر كتاب صدر له كان رياض عصمت ميالاً إلى الحداثة والخروج عن المألوف والإدهاش في الأدب، والميل إلى الجانب التقدمي في الأدب حتى لا أقول اليساري، وقد قرأت له دراسات وكتباً في مجملها تميل إلى الجماعة التي تنعت بالتقدمية أو اليسارية، وله نقد قاس بحق قامات أدبية تختلف مع هذا التوجه، وقد تناقشنا طويلاً في الموضوعات بعد أن صرنا أصدقاء، وكانت حجته الفنية قوية، ولكنه في الوقت نفسه كان ميالاً إلى الاعتراف بقسوته أحياناً لصالح ما يحبه أو من يحبه..!
وكنت أعجب كثيراً من هذا الشخص الرقيق الذي يدرك مسرح الحياة، ومن بعض الأحكام القاسية ومصدرها! وخاصة ما يتعلق بألفة الإدلبي وعبد السلام العجيلي، وعلي عقلة عرسان لصالح غادة السمان وجبرا إبراهيم جبرا وسعد الله ونوس..
وأذكر أن الدكتور علي الراعي في كتابه «المسرح في الوطن العربي» أصدر أحكامه على المسرح السوري بناء على دراسات رياض عصمت وأشار بوضوح إلى أنه لم يقرأ الكثير من المسرح السوري وإنما أخذ الآراء التي يثق بها من الدراسات، ومن رياض عصمت في المقدمة، وفي هذا الكتاب رأيت رياض عصمت الباحث الحقيقي الذي يقدم كتابته بشكل شمولي اختمر بالتجربة، فعاد عن أحكام دون تصريح، وأصدر أحكاماً دون تقديم أي اعتذار اعتماداً على تطور الفكر النقدي والبشري.
الاختمار والرؤية
ذات يوم وصف د. رياض عصمت أدب ألفة الأدبي بأنه أدب وصفي حكائي عادي، وأخذ كثيرون عنه هذا الحكم، وذلك من منظور أيديولوجي، ومع الزمن يقف مع ألفة الإدلبي وقفة متأنية ليتحدث عن الحداثة والأصالة عندها هنا في هذا الكتاب ويرى أن ما لديها موجود عند الآخرين، «ظلت نزعة ألفة الإدلبي القصصية تقليدية من حيث المعمار الفني، بعيدة عن مقاربة الحداثة أو التجريب، وهما سمتان تميز بهما بعض كبار القصة السوريين بنسب عالية أو منخفضة، وما أردته من هذه الوقفة يقوله عصمت بالحرف: «للأمانة تفاوتت الآراء النقدية حول أدب ألفة الإدلبي، وكانت لدى أبناء جيلنا السبعينيات تحفظات على إصرارها على النزعة الوصفية والإنسانية، والوعظية في القصة القصيرة، لكن ألفة الإدلبي ما لبثت أن أخرست كل الألسن، وألغت صراع الأجيال، حين صدرت روايتها دمشق يا بسمة الحزن، التي بلغت فيها ذروة نادرة من ذرا الجمال الأدبي شكلاً ومضموناً».
المتابع يعلم أن ما قصده رياض عصمت هو قراءة جديدة مختمرة لنتاج ألفة الإدلبي ليزاوج بين نقده هو في السبعينيات القائم على نظرة الحداثة، ونقده حالياً ًالقائم على الفن والجمال الذي يجمع بين الفكرة والشكل.
سعد الله ونوس والموضوعية
تجربة سعد الله ونوس تجربة غنية جداً، ووقف عندها عصمت باحترام وتقدير تستحقانها، ورفع تجربته فوق أي تجربة أخرى، بل انتصر لتجربته دون أي اكتراث بالتجارب المرافقة، وهذا ما أخذه عنه مؤرخو المسرح العربي، وفي كتابه هذا يقف مع التجربة لسعد الله وقفة مختلفة فيها ما يحمله من التقدير النقدي والشخصي، ولكنها في الوقت نفسه تضع نقاطاً نقدية مهمة «سعد الله ونوس انصرف إلى محاولة ردم الهوة بين الحداثة في المسرح وبين الجمهور العريض، متجاهلاً ضرورة إعادة بناء عناصر العمل المسرحي بأسس حداثية متطورة» وفي لفتة فيها من الذكاء النقدي يقول رياض عصمت وكأنه يريد ردّ الاعتبار لعلي عقلة عرسان «ولدى استلام د.علي عقلة عرسان معاوناً لوزيرة الثقافة، كلف ونوس بكتابة مسرحية عن رائد المسرح العربي يعقوب صنّوع، تحول التكليف إلى كتابة مسرحية عن رائد المسرح أبي خليل القباني فجاءت مسرحية سهرة مع أبي خليل القباني أقرب إلى الإعداد منها إلى التأليف، وتضمنت مقاطع عن أعمال القباني والتفاصيل الدرامية من كتاب د. محمد يوسف نجم عن رائد المسرح.. والنص لم يكن ملهماً». وفي رأي نقدي لا يمكن إغفاله من ناقد عرف ونوس وعرف الوسط المحيط يذكر خروج سعد الله ونوس عن المألوف في وصيته ويردف: «دون التقليل من شأن إبداع سعد الله ونوس وموهبته اللامعة.. ربما أسهم عامل رفض الدين في مضاعفة احتفاء الغرب به وتسويقه له».
والموقف النقدي الذي يوقف عنده أيضاً ويحتاج منا إلى مراجعة «أطلق سعد الله ونوس ومريدوه شعار التسييس في عقد السبعينيات بديلاً لما أطلقوا عليه منتقدين مصطلح التنفيس ووصموا به كل ما لا ينتمي إلى الماركسية اللينينية».
الحديث يطول عن المواقف النقدية العلمية عند ونوس وغيره، والوقوف عندها يشهد بنضج النقد عند الدكتور عصمت، ورغبته في أن يضع الأمور في نصابها في رحلة نقدية وفنية طويلة.
شخصيات مؤثرة
في هذا الكتاب يعثر القارئ على أسماء كثيرة، لن يعثر على حديث يخصها في مرجع آخر، وهذا فضل من الناقد الذي قدم شخصيات ليست في متناول القراء والجمهور من النواحي الأدبية والفنية، وحين يعرض لعدد من المعروفين نخبوياً، فإنه يقف عند قضايا لا يعرفها الناس، وبذا يقدم جديداً مثل وقفته عند محمود درويش وعلاقته به، وغادة السمان وصولاً إلى كاتب السيناريو التلفزيوني الأديب فادي قوشقجي.
تنــاول ريـــاض عصمت في كتـــابه مفهومـــي الأصــــالـة والحداثة لدى «نجيب محفوظ- محمود درويش- أدونيس- غادة السمان- عبد السلام العجيلي- نزار قباني- رفيق الصبان- محمد الماغوط- ألفة الإدلبي- سعد الله ونوس- عبد الوهاب البياتي- ممدوح عدوان- ألفريد فرج- أنطون مقدسي- سعد أدوش- سهيل إدريس- عبد الرحمن منيف- عبد الكريم اليافي- رجاء النقاش- سلمى الحفار الكزبري- منصور الرحباني- محمود أمين العالم- الطيب صالح- إضافة إلى دراسات في الرواية.
الجمالية تكمن في دراسة الثنائية «الأصالة- الحداثة» عند المبدع نفسه وتلمس المزايا عنده من كلا الجانبين مع أن واحدهم قد يعد على القديم في نظر الناس، والآخر يعد حداثياً وخصماً للقديم والأصالة.. تحية إلى روح الناقد الجميل الهادئ الدكتور رياض عصمت والى مشروعه النقدي والدرامي الذي كان كما صرّح في الكتاب متمثلاً أكثر ما تمثل في هولاكو.
سيرياهوم نيوز3 – الوطن