*المحامي هشام عبد الرزاق
لم يكن شارع الميناء الشهير في طرطوس إلا شاهداً على رحيلهم سنة ١٩٤٧م ..ففي السابع عشر من نيسان في ذاك العام رحلوا عبر مرفأ الميناء بقوارب خشبية لتوصلهم إلى سفنهم بعد أن هدموا الثكنة العسكرية في المرفأ الروماني القديم (صورة ٢)، وتركوا خيمهم ومقراتهم، رحلوا بعد أن توالت الهزائم عليهم، رحلوا بعد أن ثار عليهم رجال المدينة وأبطال ريفها… لم يكن أولئك المهزومين سوى المستعمرين الغزاة الفرنسيين وأتباعهم… التواجد العسكري المبكر للاحتلال الفرنسي في طرطوس: إن أول تواجد عسكري فرنسي في سوريا جاء مع إنزال سرية ترابو (صور ٣-٤-٥-٦-٧-٨-٩-١٠) (Traboud) في جزيرة أرواد كان ذلك عام ١٩١٨ حيث خصصوا للجزيرة بلدية مستقلة وجعلوها معقلاً لرجال الكتلة الوطنية، وبحجة طرد العثماني نشر الجيش الفرنسي قواته حينها في لبنان والساحل السوري وسنجق الاسكندرونة بإدارة الكولونيل بيباب (Pipap) معززاً تواجده بإقامة عشرات الثكنات العسكرية، يُسّر له ذلك بفضل اتفاقية سايكس بيكو، إلا أن التواجد الرسمي لم يتم إلا بموجب صك الانتداب بموافقة عصبة الأمم عام 1923م. في طرطوس المدينة، خُص شارع الميناء بثكنة عسكرية لإدارة المقرات، وأسست بعده مراكز وحاميات أهمها الثكنة العسكرية المقرر الثاني (الشرطة العسكرية سابقاً- شارع الثورة) حيث تأسست في البداية كمستودع ومهاجع للأسلحة والذخيرة، ثم أصبحت فيما بعد مدرسة لأهل المدينة لفترة وجيزة، أما مبنى السرايا القديمة (مبنى السياسية حالياٌ) فكان مقر القائم مقام الفرنسي في طرطوس وكان معه سيارة جيب له وللعناصر،أما الضباط الفرنسيين لهم سيارات عالية. بداية الثورة ضد الفرنسي: لم يكن التواجد الفرنسي في المدينة محبباً لأحد، لا لأهل المدينة ولا لرجال جبلها، فبدأت الصحوة مبكرة لمقاومة الفرنسي، إذ بدأها الشيخ صالح العلي ابن الشيخ علي سليمان قائد ثورة جبال الساحل السوري (صورة ١١) ضد المحتل الفرنسي فكانت باكورة الحملات العسكرية على التواجد الفرنسي على المدينة في ٢٢ شباط ١٩٢٠ بمجموعة من خمسمئة رجل انطلقت من قرية بحنين بإغارة جريئة على مستودعات مؤن الفرنسيين في قلب مدينة طرطوس و بأمر مباشر من الشيخ صالح العلي، وبتشجيع من مصطفى اغا محمود من طرطوس، أسفر الهجوم عن مقتل ضابط صف فرنسي واستشهاد مجاهدَين من رجال الشيخ صالح العلي وهم مصطفى خير بك وابنه عزيز. ممن عرف من مجاهدي الجبل رفاق الشيخ صالح: الشيخ سليم صالح، أسبر زغيبي، عزيز بربر وغيرهم. أما معركة مريقب في ٢١ تموز ١٩٢٠ “في الرابعة صباحاً انسحب الكومندان (Juan) من هول شدة المعارك، انسحب من المعركة وأوعز إلى الملازمين (Caro وَ Libre) بالثبات، لتغطية انسحاب الرتل الفرنسي، وغادر الفرنسيون المكان حاملين قتلاهم وجرحاهم، على أثر الهزيمة النكراء أرسل الكومندان (Jean) المنسحب من المعركة إلى الجنرال هاملان تقريره قائلاً: (إن المقاومة التي أبداها العدو كانت غير عادية، أحسن قبضته على مواقع تم اختيارها بعناية، وأحسن مترسة الرماة، استمرت النيران والكر والفر، كما أننا رأينا عدة مجموعات من الفرسان فوق قمم الجبال)”. لم يكن اولئك الشجعان إلا المجاهد الشيخ صالح العلي وصحبه…. التواجد الفرنسي في شارع الميناء ومولوتوف الثوار 1946: استخدم الفرنسيون في باكورة تواجدهم في مدينة طرطوس الميناء الروماني القديم كمقر ومستودع لذخيرته وأسلحته، بنوا بجوار القنطرة الرومانية مبنى من الحجر سقفه مرتفع استخدموه كمستودع الى جانبه أرض بمساحة 2 دونم تقريباً استخدموها كمقبرة لدفن قتلاهم (جانب منزل قديم لوالد الشيخ أحمد حمزة رحمه الله)، أما المنطقة المعروفة حالياً باسم (العيون) فقد استخدمت أيضاً لنصب خيم للجنود المتطوعين المغاربة والتوانسة (صورة ١٢) وليس بعيداً عنها المركز الرئيسي للثكنات في الكتيبة الفرنسية بقيادة (مشاة معزز) الكومندان (Bean) حيث استلم قيادة الرتل (B) وحامية طرطوس العسكرية. بلغ عدد الجنود بضع مئات، يتصفون بالانضباط العسكري، لباسهم مرتب مع قبعة (ياطة بيضاء) صورة ١٣-١٤-١٥) ويرتدون اللباس العسكري المزرر وبيدهم بنادق آلية، احتوت الكتيبة على 4 مصفحات حجم كبير يقودها سائق ومعاون ورشاش دوار مثبت على المصفحة، خروج الجنود ودخولهم من الثكنة كان مفاجئاً، وحسب الظروف، أحياناً على شكل دوريات راجلة في شارع الميناء وبقية شوارع المدينة، وأحياناً أخرى على الحصان وتارة سيراً على الأقدام، كانت الحراسة 24 ساعة من الجنود المغاربة أما الفرنسيون الضباط فكانوا للقيادة. رفض أهل المدينة المحتل الفرنسي (صورة ١٦)، كما رفضوا القاعدة الفرنسية في حي الميناء تحديداً، لم يسلم أياً من الأهالي من مضايقات دوريات المحتل اليومية. ثم بدأ الأهالي يعدون للقيام بعمليات مقاومة (صورة ١٧) تجبر الفرنسي للخروج من المدينة، حيث اجتمع رجال الميناء بالوجيه رياض عبد الرزاق وطلبوا المشورة والدعم منه ثم قرروا بناء على نصائحه استخدام المولوتوف ضد دوريات الفرنسيين وعملائهم، لم تكن فكرة المولوتوف معروفة حينها فقد نظمت العملية مع كل من المرحوم عبد الكريم عثمان، المرحوم حسين ناصر، المرحوم خضر الكردي وغيرهم، ودعم لامحدود من الوجيه رياض. قامت الخطة على مراقبة حركة الدوريات الفرنسية إلى أن حددت ساعة الصفر وكانت عند الفجر، أحضر الوجيه زجاجات المولوتوف بسيارته ومن ثم وزعها على أبطال شارع المينا، وبالخطة المحكمة الناجحة أدت نتيجتها إلى احتراق آليات المحتل وفر الجنود إلى جحورهم. تم اعتقال العديد من أهل الحي واودع بعضهم في سجن أرواد، لكن فجر الجلاء كان قريباً وبدأ بالبزوغ (صورة ١٨)، فبعد البطولات وحركات المقاومة في طرطوس وجميع ربوع الوطن السوري بسنة ونصف رحل المحتل من الحي ومن مينائه الروماني الشهير، رحلوا مدحورين مهزومين.. إلى غير رجعة. المراجع التاريخية: من أرشيفي الخاص،محفوظة لدي. مصادر الصور: من أرشيفي الخاص، ومن أرشيف وزارة الخارجية الفرنسية. مقابلات: الأستاذ أحمد عثمان، مستشار منظمة الهلال الأحمر.
(سيرياهوم نيوز6-إعداد ومقابلات وبحث: المحامي هشام عبد الرزاق27-5-2022)