| إسماعيل مروة
الخميس, 19-08-2021
حين تكون الذاكرة حاضرة فإن التاريخ يحضر تماماً بكل تفاصيله..
وحين تكون الذاكرة حاضرة وفاعلة ومؤثرة، فإن الاستعادة لا تشكل العودة التاريخية وحدها، وليست الغاية حفظ هذا التاريخ من الضياع والنسيان، وليست جهداً شخصياً لصاحب الذاكرة يؤثر أن يحفظه من الصفحات المتناثرة..
(أيام عشناها.. وهي للتاريخ) للأستاذة الدكتورة نجاح العطار نائب رئيس الجمهورية للشؤون الثقافية في الجزء الأول، وفي الجزء الثاني في سلسلة كتابات الدكتورة العطار من موقع المراقب والمؤثر والفاعل في مسيرتها الطويلة والغنية في ريادة الحركة الثقافية في سورية، وتحتاج منا قراءة مطولة لما حدث، وما يمثل شهادة لعصر متحول متحرك.
الغاية والشهادة
في هذا الكتاب الحديث صدوراً في الجزء الثاني تظهر السيدة الدكتورة العطار بثوبها السياسي التحليلي المعمّق، وتقدم في الكتاب قراءات سياسية تندرج تحت السياسة، وتحت الأدب السياسي، فأخذت من لغتها الموشّاة بالأدب الرفيع العالي، وصاغت بلغة رشيقة وعميقة عالية المستوى، لتصوغ نصاً من الأدب السياسي الذي يصلح لكل زمان ومكان، ولا ينتمي إلى القراءة الوقتية السريعة التي تنتهي بانتهاء الحادثة أو المشكلة، فكانت غاية الدكتورة العطار – كما أرى- تتمثل في تقديم نصوص- دون تغيير- هذه النصوص تمثل مرحلة من تاريخ سورية، وترصد الأحداث، لكنها ترصدها من زاوية تاريخية تحليلية، تعتمد المرجعيات التاريخية والفكرية التي اختزنتها، مبتعدة عن القراءة السياسية المباشرة.. وهنا تتحقق الغاية الرئيسية من هذه الدراسات التي لا تحمل سمة المقال، وإنما صفة الدراسات والقراءات المعمقة، لتمثل هذه الدراسات شهادة لزمن مضى، ورواسم لغد آت.. لأن هناك من يسأل: ما جدوى جمع مثل هذه الدراسات بعد أربعة عقود؟
ليست الغاية جمع هذه الدراسات، وإنما الغاية أن نجد حلولاً لمشكلاتنا التي نعيشها سياسياً واجتماعياً وفكرياً وعربياً.. ومن حسن الحظ أن كل ما جاء في هذا الكتاب له طابع الدراسات السياسية، وأركز على ذلك لأن عدداً لا يستهان به سيتناول الكتاب ويحكم دون أن يقرأ التفاصيل الدقيقة، فجاءت الدراسات تتناول:
– سورية ومواقفها وواقعها الداخلي وثوابتها.
– عمليات السلام منذ كامب ديفيد وتأثيراتها.
– المحاولات المحمومة لإنجاز عمليات سلام مقايضة.
– تبني الولايات المتحدة الأميركية لكل ما تريده إسرائيل.
– دخول الولايات المتحدة رسمياً في الصراع مع إسرائيل.
– الواقع العربي المتشظي- قبل أربعين عاماً- والدعوة لليقظة.
هذه الجوانب تأخذ قيمتها من الذي قام برصدها وتدوينها، والدكتورة العطار صاحبة رأي وفكر، وليست صاحبة هوى سياسي، لذلك عندما تتناول هذه الجوانب وسواها تتناولها من جوانب فكرية انتمائية عميقة، فماذا عن هذه القضايا؟
المجازر البشعة وعمق التحليل
سمعنا الكثير عن مجزرة صبرا وشاتيلا، وكان أغلب ما تردد يأتي إما من وجهتي النظر المحددتين بالرثاء والتنظير السياسي وإما من الصمت والعجز، فهذا يكتب راثياً وباكياً، وذاك يتحدث من منظور سياسي إيديولوجي تتمثل غايته برغبة كبيرة في أن يلصق الاتهامات بهذا الجانب أو ذاك، وتحولت مجازر صبرا إلى ما يشبه الإشكالية التاريخية، فهذا اعتدى، وذاك اعتدي عليه، وثالث حرض، ورابع صمت وهكذا، وقد تناولت د. العطار مجازر صبرا وشاتيلا بكل منطقية وتعاطف في كل مفصل من المفاصل «نفسي تحرضني على كتابة مقال عاطفي عن مذبحة صبرا وشاتيلا بمناسبة مرور عام عليها، وأنا أرغب في ذلك، ولا أريد أن أكون من المقصرين مع مناسبة حزينة ومؤلمة».
وبلغة أدبية عالية للغاية تفيض عاطفة وثراء إنسانياً تقول: «إن المذبحة من هولها، فاجعة تجل عن الوصف، فهي ردة إلى جنكيز تنتمي، والمأساة الهمجية التي حدثت، تصاغرت أمامها ساحات الإعدام يوم النازية، غاشية، والضحايا صفوف، والرصاص يجندل، والرضع تتهاوى بهم أمهاتهم.. وقد تجمد الذعر في العينين، وانفتح باب الجحيم في أفران الغاز أما مجرمو صبرا وشاتيلا فإن نسبهم إلى النازية، قديمة وجديدة، وإلى الاستعمار، قديم وجديد، يعود..».
وفي تلك الأيام تدرك المؤلفة بأن ما زرعته هذه المجزرة المروعة ليس سهلاً، وليس قليلاً، وبأن حالة الضعف العربي، والتردي لن تساعد على الثأر لهؤلاء الذين حصدهم الدم البارد الحاقد في مجزرة هي الأكثر قسوة ورهبة بين مجازر العالم أجمع، لذلك تخاطب الضمير المجتمعي القادم، وتترك صورة المجازر، وهي على يقين بأن الثأر سيكون «ويطول بنا الزمن في طلاب الثأر، فيا أيها الزمن كن طويلاً ما استطعت، كن مسيلاً من دموع ودماء وآلام، فعزمنا بطولك، وصبرنا بطولك، وثأرنا بطولك أيضاً، ونهر الدموع والدماء، قسمة بين أمم، أعطت في مسيرتها وتعطي في مسيرتها..».
وتنظر الدكتورة العطار إلى الصامتين الذين يراقبون ما يجري، وربما غضوا الطرف عمّا يجري، فتحذر مما حدث، ومما يمكن أن يحدث، فما كان تجاه المجازر من ردود أفعال دون المستوى، وكأن الأمر لا يعني سوى من ارتكب بحقهم المجازر، وسورية التي تقف معهم في خندق واحد، لذلك ترفع الصوت محذرة من الركون إلى الصمت، ومداراة الجريمة، والظن بأن ما حدث حدث وانتهى، ألا نجد مثل هذا الأمر اليوم؟
ألا نشاهد من يتشفى حيال ما يجري، وكأنه يجري ضد هذا البلد وحده وضد هذا الشعب وحده؟ لذلك كانت إعادة نشر هذه الدراسات ضرورة ملحة، لتظهر للقارئ والعربي أن ما تخضع له المنطقة من مؤامرة لا يستهدف بلداً أو شعباً أو طيفاً أو جماعة. وإنما يستهدف الجميع، وقبل أربعة عقود تحذر المؤلفة مما جرى وما يمكن أن يجري، وكأنها، وهي فعلت حقاً، قد وضعت خريطة للمذابح المتتالية التي يحيط بها الصمت من كفر قاسم إلى دير ياسين إلى صبرا وشاتيلا، وأن القادم مستمر، وكأنها ترى قانا وجنين «ولا يقولن أحد إنني في منجى، الغزو يولد الغزو، ما دام لم يردع، والمذبحة تجر المذبحة إذا لم توقف، والعدوان يفرّخ عدواناً، إذا لم يلجم، ومذبحة صبرا وشاتيلا التي نستعيد ذكراها الأولى، قابلة أن تتكرر، ويكون دورنا عندئذ أن نستعيد ذكريات المذابح، وبئس الدور، ونذرف دموع النساء على استقلالات وسيادات وثروات لم نصنها صيانة الرجال..».
من أبي عبد الله الصغير إلى الربيع العربي المزعوم مروراً بدير ياسين وكفر قاسم وصبرا وشاتيلا وقانا وجنين مشهد متكامل ترسمه الدكتورة العطار ببراعة وانتماء وصدق، وتربط التاريخ بسلسلة من الخيبات والمجازر..!
كما بكى أبو عبد الله الصغير سقوط دولته بتقريع أمه..
كما حصل في التاريخ من الحياد وانتظار الدور.. مذبحة تتبعها مذبحة
غزو يتلوه غزو
والنتيجة اليوم نراها، نقرؤها، ووصفتها قبل أربعين عاماً محذرة وهي بكاء على الاستقلالات والسيادات، لأن كلاً منا كان يظن نفسه بمنأى، ولم تجتمع الأمة على دم مهرق أو دمع بريء!!
سورية والعمل الجاد
في ضوء ما جرى ويجري قبل أربعة عقود من اليوم، وهو أشبه ما يكون باليوم، وبسبب من وقوف سورية وحيدة في وجه العدوان والطغيان، ووقوفها في وجه المؤامرات الأميركية والصهيونية، دفعت سورية أثماناً غالية وعلى كل صعيد، ولأن النظرة عند الدكتورة العطار شمولية واسعة، ومن موقعها وهي الوزيرة المسؤولة عن الفكر والثقافة تقف عند القرارات الداخلية والتوصيات لتظهر الآليات التي تم اعتمادها لمواجهة العدوان والطغيان: «تضعنا أمام مرحلة جديدة، يرتفع فيها شعار العمل الجاد والمسؤول نحو مزيد من الإنجازات والمكاسب لجماهير شعبنا، ونحو زيادة التلاحم مع أبناء الشعب، ومزيد من الصلابة المبدئية في التصدي لمؤامرات الإمبريالية والصهيونية:
– على جميع الوزراء أن يتحملوا مسؤولياتهم، وأن يروا صورة بلدنا بشكلها الشامل.
– ليس ثمة نظام نموذجي، وكل نظام، مهما كان نموذجياً، يحتاج إلى إعادة النظر والتجدد.
– التنظيم أساسي، وتزداد أهميته كلما ازداد مستوى المسؤولية.
– التركيز على سورية من الخارج سيستمر مهما عملنا.
– قد نخطئ عن غير قصد، يجب أن نكون يقظين وحذرين.
– يجب إزالة الوسطاء والسماسرة من حياتنا الاقتصادية واتخاذ الإجراءات الكفيلة بذلك.
– على المسؤول أن يكون قدوة في العمل والجهد.
– من غير الواقعي أن يتصور بعض الوزراء أن هناك موظفين خارج إطار سلطتهم.
– لا حصانة لأي إنسان في مخالفة القوانين.
– علينا ألا نمارس صلاحياتنا موسمياً.
القراءة المتمعنة تظهر الشبه الشديد بين ما كان في الثمانينيات من استهداف وما يجري اليوم، وإن كان اليوم أقسى، والقارئ للكتاب يقرأ ما تقوله الدكتورة العطار حول المخطط المرسوم من أعداء سورية «ومن الواضح أن هذا المخطط بشقيه العسكري والسياسي، ما زال قائماً، لكن من الواضح أيضاً، أن أصحابه لا يتوقعون أن يتوصلوا إلى فرصة بالسرعة التي أمّلوا، وهم كذلك فيما يشبه المأزق الآن».
وإجابة منها عن مقررات سورية ورغباتها تقول في الدراسة نفسها «إننا في سورية ثابتون في مواقفنا ومواقعنا، نريد السلام العادل، وتحرير الأرض واستعادة الحقوق. نحن نمارس العمل السياسي، والخيار العسكري، من منطلق قومي، وأمام مساعي إسرائيل لتقسيم وتفتيت البلاد العربية.. ليس يفيدنا في شيء أن نتلهى بالتفرج على أزمة إسرائيل الداخلية، أو التعلل بتناقضاتها الحزبية، فهذه تزداد عمقاً وتأزماً بموقفنا منها..».
هل انتهى هذا الصراع؟
هل توقفت أزمات العدو الصهيوني؟
هل أدركنا موقفاً واحداً؟
المؤامرة مستمرة
اليوم يشعر السوريون بالمؤامرة على سورية وموقعها وجغرافيتها ومواقفها، ولكن هذه المؤامرة هل وليدة اليوم؟ من المؤكد أن المؤامرة عميقة وكبيرة، ولكننا لا نقرأ بشكل جيد، ولا نتعامل مع الوقائع كما يجب!
والعمل الكبير ضد سورية ليس وليد 2011 وإنما يعود إلى الثمانينيات من القرن العشرين كما تقول الدكتورة العطار عن الوقائع، وكذلك يمكن أن نعيد هذه المؤامرات إلى مراحل قبل ذلك قد تعود إلى استهداف الدولة السورية بالانقلابات، وحين نقرأ ما كتب في هذا الكتاب الجليل عن استهداف سورية نتحسر لأننا لم نتعامل مع المؤامرة بحدودها وكما يجب «هذه النيات لا تقتصر على الحرب مباشرة. هناك حرب أخرى ضد سورية تحضّر لها أميركا وإسرائيل هي إثارة الاضطرابات فيها، وفي هذا الصدد فإن الصحف الغربية تشير إلى أن إسرائيل بدأت في إعداد متعهديها للعمل ضد سورية..»!
وإن كانت الدراسات في مجملها ترصد القضية اللبنانية، وعلاقتها بسورية، إلا أن نشرها اليوم يؤكد تلازم المسارين السوري واللبناني، فسورية نقطة قوة لبنان أو ضعفه، وكذلك لبنان، وسلامتهما معاً هي سلامة للمنطقة في وجه المدّ الصهيوني والمؤامرات الأميركية المعادية.
ربما إن قرأ بعضهم ما في هذا الكتاب يدرك خطورة الموقف في الجسد العربي عامة في هذه الظروف، والتداعيات في لبنان وسورية خير دليل على ضرورة التنبه لما يجري ويحاك، وخاصة ضمن خريطة دينية جديدة للعالم العربي والشرق الأوسط تبدأ في أفغانستان ولا تنتهي في لبنان، فالمطامع أكبر بكثير.
كتاب (أيام عشناها- وهي للتاريخ) كتاب توثيقي حاضر في زماننا ومن هنا تأتي حكمة وضعه بين أيدي الدارسين وأبناء العربية الذين لم يتنبهوا بعد أربعة عقود إلى خيوط المؤامرة المتكاملة وضرورة مواجهتها، هي الآن للتاريخ، فماذا عن التاريخ الذي نعيشه؟
(سيرياهوم نيوز-الوطن)