آخر الأخبار
الرئيسية » قضايا و تحقيقات » بين السويداء وقلبي.. وأيام قضيتها في الأمن الجنائي

بين السويداء وقلبي.. وأيام قضيتها في الأمن الجنائي

 

مضر ابراهيم

رغم أنه حمصي منذ 7000 عام، كان جدي يتشاءم من يوم الأربعاء، خصوصاً إن كان لديه جلسة محاكمة في خصومة ما مع أحدهم، أو كان على سفر إلى مكان بعيد.. تذكرته بابتسامة عريضة (رحمه الله)، وأنا أغادر منزلي برفقة ستة عناصر من الأمن الجنائي ومختار جرمانا، تجللني عيون طفلي ذي الخمسة شهور وقد رضع للتّو من زجاجة الحليب التي اهتزت في يدي قليلاً ظهر الأربعاء 16 آب الجاري.
كانوا «زوار غفلة» بحق، لكن الطيبة كانت بادية عليهم جميعاً دون استثناء، وقد تمعّنوا بوجه (فايد)، وحملوه بين يديهم، وداعبوه قليلاً بانتظار وصول زوجتي الطبيبة من مشفى البيروني، واعتذروا كثيراً عن إقلاق راحتنا في تلك اللحظات الوادعة التي كنت أسكب في فمه الحليب، وفي عيونه محبة الدنيا كلها. قدّرت كثيراً اعتذارهم الشديد والمتكرر عن الموقف، ولطفهم، وذوقهم في محاولة تقديم أنفسهم دون ترويع لي أو لزوجتي، التي استمهلتهم دقائق قليلة لحين وصولها، بعد أن طلبوا إلي مرافقتهم لأجل موضوع قالوا إنه «يتعلق بشكوى حول الجريمة المعلوماتية لا تستدعي القلق».
لم تكن التجربة الأولى لي مع «الجريمة المعلوماتية»، فقد سبق أن اختبرتها عندما كنت مديراً للإخبارية السورية عام 2021 مع صحفي يعمل في جريدة لبنانية، إلا أن أسلوب تبلّغي للمراجعة كان مختلفاً تماماً (أرسلوا لي رسالة نصية قصيرة للمراجعة برفقة مندوب من اتحاد الصحفيين، وراجعت في اليوم التالي لوصولها) . أسرني لُطف الدورية، ولم أسأل – ولم أفكر حتى- في سبب هذا الأسلوب (التبليغي)، ولا في آثاره على صورتي أمام جيراني في البناية والحي، وودَّعت زوجتي بعد أن طمأنتها، ومضيت مع الشباب إلى حيث مكتب مختار الحي، ثم إلى إدارة الأمن الجنائي، على أمل العودة بسرعة، فقد كنا نحضّر أنفسنا للسفر إلى ضيعتنا في ريف حمص الغربي لقضاء عطلة نهاية الأسبوع.

في الطريق إلى المحقق، بدأت الأفكار تزدحم في رأسي عمن تراه يكون؟ فخصومي – كأصدقائي – كثر، وبين مواقفي وقناعاتي والصمت وِتْرٌ قديمٌ عمره من عمر عملي في مهنة آمنت أنها مهنة الاشتباك، وليست مهنة من يمشون «الحيط الحيط، ويطلبون السترة»
كانت الساعة تشير إلى الرابعة إلا عشر دقائق ظهراً حين وصلنا إلى إدارة الأمن الجنائي. جلست إلى المحقّق الأنيق لأعرف خصمي الذي شغلني طوال الطريق: إنها (وزارة الإعلام ممثلة بمدير الشؤون القانونية فيها)، وتهمتي («النيل من هيبة الدولة»، وتهم أخرى أقل شأناً لم أعد أتذكرها أو أهتم لها بعد تلك التهمة الخطيرة).

لم تغادر الثقة والطمأنينة الأولى قلبي وأنا أستمع إلى السرد المكتوب ضدي من المحقق، وأسترق النظر إلى منشوراتي مطبوعةً بخطٍ كبيرٍ على طول وعرض الورق المقدم في ملف الدعوة. ومضت الدقائق الأولى من التحقيق روتينية، وكلما استرقت النظر إلى ورقة تذكرت الشاعر أبا تمام الطائي.. فحول كل إشارة لـ (انتهاك) ثمة ما قبله وما بعده يشرح موقفي، ويشي بمنطلقي وبثوابتي الوطنية والقومية وبغيرتي على إعلام وطني، ويخبر القارئ عما طُوي عليه من مواقف عبَّرت عنها – ورفاقٍ لي على منصات التواصل –طوال الشهور الماضية حول مناهضة التطبيع، والإشارة إلى الانحرافات المتزايدة – بقصد أو بغير قصد، فأنا لست عالماً بالنوايا- في أكثر من مفصل في منظومة الإعلام السوري والدراما السورية باتجاه القيم الليبرالية الحديثة.

سار كل شيء بشكل روتيني، وأجبت كجهة (مدعى عليها) مؤكداً أن المنطلق هو غيرتي على ثوابت وطنية وقومية لا مهادنة حولها، وهي بالتأكيد بعيدة عن كل شخصنة في ما أكتب سواء تجاه أشخاص أو مؤسسات.. لكن سرعان ما وجدتني أتحول دون أن أدري إلى المحاججة بصوت عالٍ أغضبت المحقق الهادئ، بعد أن تبيَّن لي أن في الإجراءات والأصول، كما في الأسئلة الموجهة لي ما أريد منه أن يُغفِل عمداً ويتجاهل قصداً – لغاية ما – صفتي كـ «إعلامي».. هنا بدأت الأسئلة تتوارد إلى خاطري عن سبب توقيت جلبي نهاية الدوام الرسمي، وشكله، وطريقته، ودار سجال حول ذلك أنهاه المحقق بحزمٍ حول قانونية الإجراءات.. وحين سألتُ عن سبب عدم تبليغي بشكل رسمي برسالة نصية (أسوة بالمرات السابقة)، أو باتصال هاتفي، أو بكتاب خطي أو مذكرة تبليغ رسمية تُرسل لي كي آتي بنفسي وأوفر ذلك المشهد على الدورية، استدار المحقق عن كرسيه إلى اليمين، ثم أشاح بوجهه عني قليلاً، وقال لي لقد سمعتُ بما حصل، وتأثَّرتُ كثيراً، ثم عاد إلى مهمته التي جُلبتُ لأجلها، ليملي على الكاتب أقوالي التي قلتها فعلاً، ووقَّعت وبَصمت عليها، بعد أن أوضحت مقاصدي في كل كلمة أشير عليها بأنها «انتهاك».

أيقنت بنفسي أن الوقت تأخر جداً لأعود إلى بيتي، قبل حتى أن يطلب المحقق من مساعده اصطحابي إلى حيث سيتم الاحتفاظ بي، من دون أن استطيع معرفة وقت أو مدة التحفظ رغم أسئلتي المتكررة، فالأمر كان مقضياً، واستأذنت المحقق بإجراء اتصال مع زوجتي لطمـأنتها، وأوصيتها ألا تبلّغ أهلي كي لا تقلقهم، وقلت لها: لا أعرفك إلا «أخت الرجال»، والشباب هنا غاية في اللطف والتهذيب والتعامل اللبق والجميل. لا تقلقي!
ومضيت إلى حيث إقامتي الجديدة غير الذهبية..
لم تكن زوجتي تملك من أرقام هواتف أصدقائي ومعارفي سوى رقمين اثنين: الأول للزميلة والأخت الغالية ربى الحجلي ابنة السويداء الأصيلة، التي تجمعنا وزوجها وابنتها علاقة قوية بحكم الجيرة في جرمانا، وبحكم القرب والعمل والاختبارات الصعبة التي عمدتها سنون العمل سوية بأقوى وأصعب المواقف، والثاني لصديقي وأخي الأستاذ أحمد الدن، مدير قناة سوريا دراما سابقاً، وهو ابن أحد شيوخ عشائر الأكراد الوطنيين حتى النخاع في القامشلي، وكلاهما جمعتنا أعوام من الصلة والروابط الإنسانية، والمهنية، والوطنية، حتى صرنا أهلاً بكل ما للكلمة من معنى.

مضى الوقت ثقيلاً وبطيئاً وقاسياً وأنا أتذكر ما حصل خلال الساعات الماضية.. وبدأت الأفكار تزدحم في عقلي عن حال زوجتي.. وكيف ستتصرف؟ وعن مدة بقائي هنا بعيداً عن أي تواصل، عن أسئلة المحقق وما وراءها، وعن احتمالات معقدة كثيرة.. وتيقنت أنني سأكون أمام مسار طويل معقد سببه أن مديرية الشؤون القانونية في الوزارة هي الخصم في قضية أساسية وجوهرية تتعلق بتجاوز صفتي وكوني «إعلامياً».

لم أنم ليلة الأربعاء، وقضيت يوم الخميس مستنفراً ومشنّفاً أذني إلى من يناديني من الخارج ليقول لي شيئاً دون جدوى، وشيئاً فشيئاً بدأت ألملم خيبة الانتظار، وأتحضّر نفسياً لأيام بقائي في عطلة نهاية الأسبوع حيث يصعب أن يصل نداء جميل تطرب له الروح والأذن.. وحدثّت نفسي أن في التجربة – رغم كل صعوبة وقساوة ظروفها – ما يجب فيه اختبار الذات.

اعتدت سريعاً على جو «الاحتفاظ»، خصوصاً أنني من أهل ذلك الريف، الذين لا تستهويهم الحياة المرفهة، ولا الإقامات المعقمة، ولا الموائد المرصوفة بالشوك والسكاكين. تعرّفت على المساجين فرداً فرداً، سمعتُ قصصهم وحكاياهم، أكلنا معاً، وفي كل حلقة كنا نتحلّق بها كان السؤال اللازمة يباغتني أنا الوافد الأخير إليهم (هل سمعت أن هناك «عفواً» قريباً أستاذ؟)
لم تمتلك زوجتي من المؤهلات ما يسمح لها بالكذب على أهلي في الضيعة. ومع إلحاحهم السؤال عن عدم ردي على الهاتف، فشلت في محاولة إخفاء ما جرى، واضُطرت أخيراً إلى إخبارهم. وحين همّوا بالمجيء لم يكن ثمة داعياً لذلك، فقد كان لها من أهل السويداء أهلٌ كفكفوا دموعها، ونهنهوا ارتباكها، ومنحوها من الحب والحنان واللهفة والحمية ما لم لا أملك من الكلام لوصفه.
أودعت (أم فايد) طفلنا الصغير في بيت زميلتها الطبيبة كاترينا ابنة السويداء محاطاً بذراع والدتها، وبصور (العدرا والمسيح)، وأصر والد د. كاترينا على مرافقتها بسيارته إلى إدارة الأمن الجنائي، لعل زيارة أو لقاء يكونان بالإمكان.. وحين عزَّ الأمر تواصلت مع أم نيل (ربى الحجلي)، التي لم تهدأ، ولم تتركها وزوجها الأستاذ رائد الأطرش وابنتهما نيل منذ اللحظة الأولى وطوال أيام بقائي في الأمن الجنائي، فكانت ربى الأخت الكبيرة والأم الحنون، والزميلة الغيورة التي لم تدخر كل ما تستطيع لتفعل شيئاً.. وكانت عائلتها العائلة الحقيقية والأقرب لزوجتي بحق.

مساء السبت وصل النداء الذي تطرب له الأذن، استدعاني المحقق ثانية، لكن ليبلغني أن هناك دعوى ثانية بحقي قدمت الخميس من شركة إعلامية خاصة (غير مرخصة) فأخذ أقوالي ثانية، ووقّعت وبَصمت، ثم مضيتُ إلى أصدقائي الجدد في الزنزانة متأبطاً خيبتي، وأسئلةً كبيرةً وكثيرةً عما يجري. وصباح الأحد نودي على اسمي وتم (سوقي) برفقة ملف متخم بالأوراق إلى القاضي الذي استمع لي عند الظهيرة، لأكرر كل ما قلته وأفدت به، واستمع بهدوء وحكمة وصبر، ثم قرر (تركي) على الفور، لتستكمل بعدها الإجراءات القضائية بطريقها الطبيعي والقانوني، وأسترجع هاتفي بعد أيام قليلة.

ربما كان لدي الكثير لأحكيه عن تجربة صغيرة وقصيرة من التجارب التي اختبرتها في حياتي، لكن حين يكون مقام الحديث هو الشأن العام والوطني فلا مجال للاستطراد في المسائل الشخصية، إلا بقدر ما ترتبط بالموقف الوطني.. ولذلك فإنني سأستأذن حسين الفياض، ونهلة السوسو، وميس كريدي، ومعد محمد، وفاطمة جيرودية، ومعن عبد الحق، وبيانكا ماضية، ويونس خلف، وكل من فاتني اسمه الجميل ممن غمروني حباً ولهفة بمواقفهم الرائعة، وسأستأذن كل من اتصل مطمئناً وتواصل داعماً، وسأستأذن كل من كتب حرفاً على وسائل التواصل ليغمرني بكل تلك الحالة التي أخجلتني في الأيام الماضية، وسأستأذن كذلك تلك الجوقة الدعائية التافهة والمجهرية في الإعلام المتمول قطرياً التي لا تستحق حتى مجرد الذكر أو الرد على ما كتبت وكذبت.. سأستأذنهم جميعاً لأرسل تحية خاصة جداً لرحم السويداء، للمحافظة التي أنجبت من كانوا الأهل الحقيقيين لي عن قرب، لي ولزوجتي ولطفلي. تحية لربى وعائلتها، وللدكتورة كاترينا وعائلتها، وعبرهما لسويداء القلب التي أنجبتهما، ولبازلتها الذي تهفو إليه الروح، ويهفو القلب والوجدان.
لم أكن مظلوماً فيما جرى، ولم أشعر للحظة بهذا الشعور الأحمق.. فأنا خصم في قضية يبت فيها قضاء أثق به، وقانون أقف تحته، ومؤسسات قضائية أنصاع لما تقرر، وأمن جنائي حقق بنزاهة، وتعامل بكل احترام مع حالة لم يكن مسؤولاً عن تعقيدها المقصود أو غير المقصود.. والمسألة – بكل ما احتوته من تفاصيل إجرائية أو شكلية وقانونية لما تنتهِ بعد – تتعلق بمواقف لا مساحة فيها لأي جانب شخصي. ولعل أكثر ما منحني القوة في تلك الأيام الخمسة الصعبة علي وعلى عائلتي هو انتفاء شعوري بتلك المظلومية التي لا أحبها، ولا أحب من يحبها ويتبناها في وطن هو أكبر من كل مظلومياتنا الوهمية.

تحية للسويداء التي أنجبت أهلي بحق، للأرض التي أنجبت سلطان باشا الأطرش وعصام زهر الدين، وأنبتت مُثل الوطنية والانتماء، وقيم العروبة والمقاومة للمشاريع الصهيونية والتقسيمية.. للبلدة التي من لدن أرحام نسائها أبطال جيشنا العظام وشهداؤه الكرام، لمعقل بازلت المواقف والثورة الحقيقية ضد المستعمرين المارقين في هذه الأرض.. ومثلها التحية موصولة لكل محافظة سورية هي قطعة من الروح وستبقى.. ولا أجد خيراً ختاماً من ذلك القول الذي طالما وجدته الأجمل، والأروع وقعاً في نفسي، وأسرني في الزمن الصعب بما اختزل من العمق والوجدان والوطنية المتأصلة الراسخة على ثوابت شعبنا، وقد صاغه سيد الوطن السيد الرئيس بشار الأسد بأجمل ما تكون الصياغة:
«رغم كل ما خطط لسورية وما فعله القريب قبل الغريب فينا فلم ولن يستطيعوا أن يغيروا ما بأنفسنا لأن ما فيها عظيم وقوي ومتين وعريق. فالوطنية تسري في عروقنا وسورية أغلى من كل شيء.. وما عبرتم عنه من صمود تجاه ما يجري يخبر الكون كله أن سورية عصية على الانهيار وأن شعبها عصي على الخنوع والذل وأن الصمود والتحدي متأصل في خلايا الجسد السوري.. نتوارثه جيلاً بعد جيل.. كنا هكذا وسنبقى.. ويداً بيد ورغم كل الجراح سنسير بسورية ومعها إلى مستقبل أقوى وأكثر إشراقا.. سنسير بسورية ومعها.. سنسير إلى الأمام ولن يخيفنا رصاصهم ولن يرهبنا حقدهم لأننا أصحاب حق والله دائما وأبدا مع الحق»
(سيرياهوم نيوز ٤-صفحة الكاتب)

x

‎قد يُعجبك أيضاً

الفنان والمخرج السوري مهند قطيش يتحدث لأول مرة عن ظروف اعتقاله الظالم لثلاث سنوات مميتة في سجن صيدنايا المقيت

          يقول الفنان مهند قطيش والذي اطلقت عليه اشاعة التعامل مع الموساد قبل الثورة السورية : أصدقائي الأعزاء   لم أتكلم ...