سعيد بوخليط
”لست متشائما.أنا ثائر على كل شيء.والمتشائم لايكون ثائرا بل يكون منهزما.وأنا القائل يرق لي تمردي فأشتهي تمردا حتى على التمرد”(أدونيس)
”ياوجه الممكن وجه الأفق.غيِّر شمسك أو فاحترق”(أدونيس)
شاعر،من وزن شعرية ورؤى علي أحمد سعيد إسبر؛أو أدونيس،مثلما فضل تسمية نفسه منذ الوهلة الأولى،مستلهما الميثولوجية الفينيقية المتضمنة لكل معاني الجدة والحياة؛لايمكنه قط الامتثال لتلك المنظورات المجتمعية المتفقة حول”هويات”بعينها ترسم معالم الولادة والموت،وكذا السعي إلى توثيق خطِّي لمسارات الولادة؛مادام هؤلاء يعيشون زمنا عموديا غير زمننا الأفقي المطمئن للاستكانة، ثم لايموتون على النحو الذي تبتغيه طقوس الرثاء المترهلة؛ بل أساسا حسب جدليات التحول الماسكة بحيوات الموت وميتات الحياة،دون أن نتبيَّن ذلك،نحن الرازحون سلفا منذ ولادتنا اللاإرادية تحت وطأة العدم.
مامعنى أن يلتئم جمع من عشاق الكلمة والجمال والحس الإنساني الشفاف،كي يعلنوا عن مبادرة رسمية ذات بعد عالمي للاحتفال ببلوغ أدونيس سن التسعين؟حقا إنه ذاك الطفل المنحدر من قرية قصابين السورية، المزداد يوم1 يناير 1930،ولم ينتم إلى مقاعد المدرسة إلا بعد بلوغه سن الثالثة عشر،بفضل مشاعر الإعجاب التي أثارتها قصيدة وطنية ألقاها آنذاك علي أحمد سعيد إسبر أمام الرئيس شكري القوتلي؛ بمناسبة زيارة الأخير لبلدته،فكان لابد من تقديم مكافأة وفق رغبة الطفل الاستثنائي،فتحققت فورا رغبته المتمثلة في الالتحاق بالمدرسة.
حتما،بلغ التسعين ثم بدأت بواكير سنوات عقده المشرف على قرن من الزمان،حسب دائما مرتكزات الزمن الأفقي،في حين غير مكترثة،تحلق روح الشاعر التي سكنته وتسكنه، بعيدا جدا؛صوب اللانهائي واللامنتمي.أشخاص،من هذا القبيل،في غاية التميز الذهني والفكري والروحي،ملئوا الأرض سؤالا غير السؤال لعقود طويلة،لم يولدوا من أجل حياة واحدة،كما الشأن مع باقي حشد منظومة الفكر الواحدي،وقطعا لن تتحملهم واقعة موت مثلما يحدث كل يوم.
أدونيس أيقونة شعرية وأدبية وفلسفية عظيمة،ينتمي إلى حقبة مثقفي الأنساق الفكرية الكبرى.ذاكرة قومية وكونية،منفعلة وفاعلة،بالنقد والتحليل واستشراف المستقبل بجرأة وشجاعة.واكب بالتوثيق مختلف التجارب السياسية والاجتماعية والفنية والأدبية التي عرفتها منطقته،عبر أطاريح وسجالات كتابات عدة،يصعب الإحاطة بها ضمن هذا الحيز الضيق، تبنت كمشروع مفصلي،منذ البداية،تحرير العقل والوجدان العربيين من براثن منظومة توتاليتارية عمياء في غاية القتامة والقسوة والعنف،رسخت استبدادها منذ زمن سحيق،بين طيات إيديولوجيات دينية وسياسية وقيمية.بالتالي،يلزم تحقيق ثورة معرفية قبل كل شيء،واستشراف المستقبل برؤية حداثية.تصورات،وضعت أدونيس مباشرة أمام فوهة النقد الشخصي الجارح والرفض الجذري،من طرف الاستبداد والأصولية والمحافظين،فكان عرضة لتهديدات بالقتل والدعوة إلى إحراق كتبه،ولازال محظور ترجله شوارع مجموعة مدن العربية.لذلك،مثَّل له فضاء باريس ملاذا آمنا،منذ سنوات الثمانينات.
اجتهاد جمالي وفلسفي رصينين على امتداد عقود طويلة،من خلال أربعة روافد هي : الإبداع الشعري،التنظير النقدي،الترجمة،ثم تهيئ مصنفات تحوي مختارات شعرية،وإشرافه على مجلتي ”شعر” و”مواقف”، بوأته عن جدارة واستحقاق،مكانة رائدة ضمن كوكبة شعراء ورموز الحضارة المؤسِّسين،المنتمين للقرن العشرين.ساهم،انطلاقا من انزياحات إيستيتيقا ولوغوس اللغة العربية،التي طورها قلبا وقالبا على طريقته الرؤيوية،في الارتقاء بالحس الإنساني نحو مراتب السمو.ترجمت أعماله إلى مايقارب عشرين لغة،وسافرت قصيدته صوب مختلف بقاع العالم،كي تمارس جاذبيتها على امتداد القارات،لاسيما وإنه بقي منذ1988،مرشحا قويا للتتويج بجائزة نوبل،تتداول اسمه صفحات المنابر وأروقة المؤسسات الثقافية الدولية.
إذن،احتفالا بعيد ميلاد أدونيس ومناسبة بلوغه سن التسعين،بادرت ابنته إرواد اسبر صحبة المفكر الفرنسي دوباسيان غرو،إلى تأسيس منصة إليكترونية عنوانها : (adonis90.org)،قصد إفساح المجال افتراضيا أمام مائة وثمان وثلاثين متدخلا من مختلف الجنسيات،والمرجعيات سواء كانوا فنانين وكتَّابا ومختصين في العلوم وفلاسفة وناشرين،قصد تقييم تجربة الشاعر الطويلة والعميقة،من بينهم، قاسم حداد،الطاهر بن جلون،عباس بيضون،هدى بركات،مارسيل خليفة،إدغار موران،سلمان رشدي،دومنيك دو فيلبان،جاك لانغ،فينوس خوري غاتا،بيار أبي صعب، بيتر هاندكي،إلخ.
يقول دوتيان غرو،المختص في علم فقه اللغة الكلاسيكي:”أثار استغرابي انعدام أيّ مبادرة متوقعة للاحتفال ببلوغ أدونيس سن التسعين،ثم طرحنا المسألة مع ابنته إرواد إسبر،وهي مختصة ذات شأن مهم فيما يتعلق بالبرمجة الثقافية،وحاولنا استلهام أسلوب جديد لايكون مؤسساتيا،لكن بالأحرى فضاء حرا بالنسبة للفنانين والمبدعين،و النشطاء،مما أسفر عن فكرة الصيغة الرقمية.امتياز ذلك،أنه يتيح لنا إمكانية إفساح المجال للقاء بين شخصيات من العالم قاطبة… اشتغل كلوديو ديل أوليو،الذي يعتبر مديرا فنيا كبيرا في عالم الموضة،على تصميم إخراج هذه المنصة الاليكترونية”(1). وتضيف إرواد إسبر،التي أشرفت طيلة سنوات على إدارة”دار ثقافات العالم”(باريس) :”حقا حفزتني التفاعلات الايجابية التي عبَّر عنها المشاركون،وشكَّل السياق فرصة سعيدة للاتصال بأصدقاء ربطتهم منذ زمن طويل أواصر الودِّ مع أدونيس،كما الشأن بالنسبة لسمير الصايغ،دومنيك إده أو فينوس خوري غاتا،التي كشفت عن مشاعر قلبية كبيرة ذات طابع شخصي”(2). وحسب شهادة إرواد إسبر،دائما : “فقد أحس والدها بالتأثر نتيجة عدد الرسائل التي وصلته من جل مناطق الكون،بمناسبة عيد ميلاده. أيضا،تلزم الإشارة،بأن عملا جديدا لأدونيس سيعرف النور خلال شهر مارس،عن منشورات سوي،تحت عنوان”أدونيادا” (Adoniada)،وقد أنجز الترجمة بينديكت لاتوليي،مع خصوصية لافتة بهذا الصدد : ستصدر الترجمة الفرنسية قبل النص الأصلي باللغة العربية”(3).
كم نحن في حاجة ماسة،حيال عالم أضحى قاسيا،يلتهم نفسه بجنون،ينهار أمامنا كل آن،إلى إرساء واستتباب مفعولات الحكمة وتمثلات الشعر ومعالم التأمل ونزوعات الجمال،حتى يجف نبع هذا النزيف الفظيع والمرعب والمهول جدا.
(سيرياهوم نيوز-رأي اليوم١-٣-٢٠٢١)