ريم هاني
مع انشغال العالم بالحرب الدائرة في غزة، ومسارعة حلفاء أوكرانيا إلى «نجدة» إسرائيل، مالياً وعسكرياً، وتقديم «الإرشادات» إليها، ظلّت وسائل الإعلام الغربية «فسحةً» لكبار المسؤولين الأوكرانيين للتعبير عن «خيبتهم»، وللتحدّث بشفافية غير معهودة عن خسائر و«طرق مسدودة» أمام هجوم كييف المضاد. و«التقييم الذاتي» الأوكراني، وإذ تكمن أهميّته في أنه أصبح يأتي على لسان مسؤولين رفيعي المستوى، فهو، في نظر كثيرين، جاء متأخّراً، بعدما كان مراقبون كثر قد استشرفوا «الخيبة الأوكرانية»، مع مرور أسابيع قليلة على بدء «هجوم الربيع». وقد نتج من هذه العوامل وغيرها، أن خرجت الانقسامات على مستوى المسؤولين الأوكرانيين أنفسهم، كما بينهم وبين نظرائهم الغربيين، إلى العلن.
أما الحرب في غزة، فهي لم تَعُد «تخطف الأنظار» عن حرب أوكرانيا فقط، بل باتت تعرّي، يوماً بعد يوم، حجم «ازدواجية المعايير» «والفشل» الغربيَّين، إلى حدّ أصبحت معه الانتهاكات الروسية بحقّ المدنيين الأوكرانيين، والتي أكثر الغرب من الإضاءة عليها، فجأة محطّ تساؤلات وشكوك، حتى من بعض الإعلام الغربي، فضلاً عن وسائل التواصل الاجتماعي، وذلك بسبب ردّ فعل الغرب «المتواضع» – والمتواطئ – على المجازر الإسرائيلية اليومية في غزة. وعلى سبيل المثال، ذكرت مجلّة «ذي إيكونومِست» البريطانية، المؤيّدة جدّاً لإسرائيل، في أحد تقاريرها نهاية الشهر الماضي، أنّه «وفقاً لوزارة الصحة الفلسطينية، قُتل 2900 طفل بين 7 و24 تشرين الأول، ما يشكّل حوالى 40% من إجمالي عدد الضحايا الذي يزيد على 7000، وسط مخاوف من ارتفاع هذه الأعداد، علماً أنّ تقديرات وزارة الصحة في غزة كانت دقيقة إلى حدّ كبير في الصراعات السابقة». وتتابع الصحيفة: «في أوكرانيا، وفيما يدور الصراع بين قوّتَين أكبر بكثير، بلغ عدد الأطفال الذين قتلوا نحو 550، من مجموع نحو 9800 قتيل مدني، على مدى مدة أطول بكثير من الحرب في غزة» (نحو ثلاث سنوات).
إقرار بفشل الهجوم
وفي مقابلة أجراها القائد العام للقوات المسلحة الأوكرانية، الجنرال فاليري زالوجني، بداية هذا الشهر، مع المجلة البريطانية، تزامناً مع مضيّ خمسة أشهر على انطلاق الهجوم المضاد، والذي لم يمكّن القوات الأوكرانية – رغم الدعم الغربي الهائل – سوى من بعض التقدّم، استبعد أن ينتج من ذلك الهجوم أيّ اختراق «عميق أو جميل»، على حدّ تعبيره. وباعتراف زالوجني نفسه، فقد قوّض المسار الذي اتّخذه الهجوم الأوكراني الآمال الغربية حول مسألتَين: الأولى، أنّه سيكون قادراً على إقناع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بأنّه «ما من فائز في هذه الحرب»، ما «سيجبر» موسكو على التفاوض، والثانية هو ما كان يأمله زالوجني نفسه، إجبار روسيا على وقف الحرب عبر «استنزاف قواتها».
«اعتقدتُ أولاً أن هناك خطباً ما على مستوى قادتنا، لذلك استبدلت البعض منهم. ثم اعتقدت أن جنودنا ربّما لا يصلحون لتحقيق الهدف المطلوب، لذلك قمت بنقل الجنود في بعض الألوية»، يقول زالوجني. وعندما فشلت هذه التغييرات في إحداث أيّ فرق، لجأ قائد القوات المسلّحة الأوكرانية إلى كتاب كان قد اطّلع عليه، في مدة دراسته، كما يقول، من تأليف اللواء السوفياتي ب. سميرنوف، الذي حلّل فيه معارك الحرب العالمية الأولى. واللافت، أن زالوجني لم يجد في الكتاب حلّاً عمليّاً للتعثّر العسكري الذي أصاب قواته، بل استنتج أن السبيل الوحيد لكسْر «حالة الجمود»، هو حدوث «قفزة تكنولوجية هائلة»، بعدما وضع مستوى التطوّر التكنولوجي، لدى كلّ من كييف وموسكو، الأخيرتَين في ما يشبه حالة الخدر الذهني، على حدّ قوله. ويتابع المسؤول الأوكراني مقابلته، بالقول: «الحقيقة ببساطة، هي أنّنا نرى كل ما يفعله العدو، ويرى هو بدوره كل ما نفعله. وللخروج من هذا المأزق، نحتاج إلى شيء جديد، مثل البارود الذي اخترعه الصينيون سابقاً (…)». والاعتراف الضمني بـ«الهزيمة الأوكرانية» لم يقتصر فقط على ما تقدَّم، بل أصبح يَظهر على نحو متزايد على شكل أحاديث عن أن كييف «تقدّر حياة الأفراد لديها»، «على عكس بوتين»، في مؤشر إلى أن المسؤولين الأوكرانيين أصبحوا أكثر ميلاً نحو وضع حدّ لهذه الحرب.
وفي موازاة حالة اللايقين التي تسيطر على الملفّ الأوكراني، يستمرّ الدعم لكييف بالتآكل، ولا سيما أن الإدارة الأميركية تواجه صعوبة في توضيح شكل الخطوة التالية، بعد فشل «هجوم الربيع» في تحريك خطوط المعركة لأكثر من بضعة كيلومترات. ورغم قول أوكرانيا إن فشل قواتها في إحداث أيّ فرق، مردّه أن واشنطن والحلفاء الغربيين «تأخّروا» في تقديم الدعم المناسب في «الوقت المناسب»، فقد نقلت صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية، هذا الشهر، عن مساعدي الرئيس الأميركي، جو بايدن، قولهم إنهم قدّموا للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إلى الآن «كلّ نظام أسلحة طلبه»، وآخرها منظومة «أتاكمز». على أن الولايات المتحدة أصبحت حالياً، طبقاً للمصدر نفسه، تتخوّف من أن هذه المنظومة لن «تُحدِث فرقاً كبيراً»، لأن الروس، وفقاً لتقديراتها، «تعلّموا كيفيّة إبعاد طائراتهم من متناول مثل هذه الأنظمة»، محمّلةً أوكرانيا اللوم بسبب تجاهلها «النصائح» التي كان يقدّمها «البنتاغون» حول آليات اختراق الدفاعات الروسية، علماً أن كييف أعلنت في وقت سابق عدم الامتثال للخطط الأميركية، لأن الأخيرة أثبتت بدورها «فشلها».
يستمرّ الدعم لكييف بالتآكل، ولا سيما أنّ الإدارة الأميركية تواجه صعوبة في توضيح شكل الخطوة التالية، بعد فشل «هجوم الربيع»
بالإضافة إلى ذلك، لم تفلح محاولة بايدن أخيراً «دمج» المساعدة الأوكرانية مع مجموعة مساعدات أخرى، من بينها تلك المخصصة لإسرائيل، ولمواجهة أزمة الولايات المتحدة الحدودية وغيرها، في تجاوز الانقسام الداخلي الحاصل وتمرير المساعدة إلى كييف، بعدما عمد رئيس مجلس النواب الجديد، مايك جونسون، إلى «تقسيم» الحزمة البالغة قيمتها 104 مليارات دولار، وفصل المساعدة الإسرائيلية عن المساعدة الأوكرانية، وربط الأخيرة بشرط «خفض الإنفاق» (الداخلي)، واضعاً بذلك مجلس النواب «في مسار» تصادمي مع مجلس الشيوخ وبايدن.
كما كان لا بدّ أن ينعكس الفشل العسكري الأوكراني انقساماً داخلياً في كييف، إذ وبّخ الرئيس الأوكراني جنراله بعد حديثه إلى المجلّة عن «الجمود» الذي أصاب قواته، معتبراً أن «التقدّم لا يمكن أن يتمّ على نحو أسرع من ذلك»، وأنّه لا تُقدّر «الجهود التي تبذلها قواته»، وأن العالم أصبح معتاداً على مبدأ «النجاح السريع».
جمود أم تقدّم روسي؟
وفي خضمّ الحديث الأوكراني عن «جمود» يحيط بالمعركة، يبدو أن القوات الروسية أطلقت «هجومها المضاد» الخاص، إذ أفادت بعض المعلومات، أخيراً، بأن قوات موسكو تتقدّم تدريجياً في اتّجاه شمال منطقة أفدييفكا، حيث يدور قتال عنيف منذ مدة، وحيث توجد واحدة من أكثر القوات الأوكرانية تحصيناً، علماً أن أفدييفكا كانت هدفاً لموسكو منذ عام 2014، فيما يشير بعض المراقبين إلى أن لهذه المنطقة أهمية إستراتيجية تفوق أهمية باخموت، التي سيطرت عليها روسيا في أيار الماضي بعد قتال طويل وعنيف.
سيرياهوم نيوز1-الاخبار اللبنانية