| دعاء سويدان
«حران القديمة التي تخبروها راحت، اندرست، ما بقى منها غير الجامع والمقبرة، ويجوز باكر أو عقب باكر يجي ابن الراشد أو غيره وبدل الجامع يعمر تياترو، وبدل المقبرة يسوي كرخانة، لأن من كان من غير هذه الأرض، من غير هذه الديرة، كل أرض بالنسبة له أرض، والبشر مثل بعضهم، ابن الديرة مثل الغريب».
قد لا يكون المؤرّخ البريطاني، كيث جنكينز، مُجافياً الحقيقة عندما ينصح قارئيه بأن يكفّوا عن سؤال: «ما التاريخ؟»، ويستبدلوا به آخراً مفاده: «لِمَن التاريخ؟»، حتى يفهموا – وفق ما يشرح جنكينز في كتابه «إعادة النظر في التاريخ» – آليات قولبة الماضي بما هو أحداث ومواقف، وتشكيل سردية تفسيرية حوله تتّسق وشروط القوّة الحاضرة، بالاستثمار في هشاشته المعرفية، أي قابليّته للَيّ بشكل متواصل. تَحضر هذه «النصيحة» إلى الأذهان سريعاً لدى التأمّل في ما تشهده المملكة السعودية اليوم، في الكتب وعلى الأرض، من عملية منتظمة وممنهجة لإعادة إنتاج التاريخ، حتى يتّفق مع متطلّبات السلطة الجديدة، على قاعدة «مَن يتحكّم في الماضي يتحكّم في المستقبل، ومَن يتحكّم في الحاضر يتحكّم في الماضي»، بحسب ما يقرّره وينستون سميث، بطل رواية «1984» لجورج أورويل.
صحيحٌ أن ديناميات التزوير ليست جديدة على المملكة، وفق ما تشرحه روزي بشير في كتابها «حروب الأرشيفات: سياسات التاريخ في المملكة السعودية»؛ إذ إن ما تسمّيه «العلمنة المتزايدة للدولة السعودية» بدأت منذ ما بعد حرب الخليج الثانية في تسعينيات القرن الماضي، مع ما اقتضته من تفعيلٍ لسياسات «المحو الانتقائي لبعض الماضي والأوابد التي تدلّ عليه»، سواءً عبر تجريف المعالم التاريخية – الإسلامية خصوصاً – في الحجاز، أو من طريق إتلاف المحفوظات والوثائق الأرشيفية التي تسرد تاريخ الجزيرة العربية ما قبل قيام دولة آل سعود، أو من خلال إطلاق مشروعات تجارية وعمرانية ضخمة، حوّلت الحواضر العريقة إلى أماكن «بلا قلب»، «تتكوّن وتتغيّر بسرعة، تفقد ذاكرتها وتتعلّم القسوة بإتقان»، بحسب ما يصف به عبد الرحمن منيف واقع الجزيرة إبّان حقبة اكتشاف النفط، وما رافقه من تحوّلات في مدن البادية وقُراها. إلّا أن ما يفعله ابن سلمان راهناً يتجاوز كلّ ما كان أقدم عليه أسلافه، ويكاد يشابه عملية تصفية وانتخاب شاملة وغير معيارية لعناصر سلطته، يتمّ بموجبها تطويع التاريخ والدين والثقافة والعمران وحتى البشر لإرساء دعائم «إمبراطورية نجد».
لا يقتصر الحديث، هنا، على الاعتساف «النظري» لماضي «الحاضرة النجدية»، موضع قيام الدولة التي احتُفي في شهر شباط الماضي بما سُمّي ابتداعاً «يوم تأسيسها» (كونه حُدِّد بتاريخ تولّي محمد بن سعود الحُكم في الدرعية، لا بتاريخ توقيع ميثاق الدرعية)، حيث خاطب محمد بن سلمان العالم بقوله: «انظروا، الماضي يطيع تفسيري»، تماماً كما يقول الشاعر «انظروا، الشمس تطيع كلماتي» («مراسيم للكواكب» للشاعر الروسي فيليمير كليبنيكوف)، بل يتعدّاه إلى إعادة تشكيل واقع المدن السعودية، في إطار استراتيجية «التحوّل الوطني» التي يقودها ابن سلمان، والهادفة، في نهاية المطاف، إلى إرساء هويّة مؤلِّفة لا تزال مستعصيةً منذ عقود. هويّةٌ لا يفتأ وليّ العهد يشتغل على إرسائها من خلال تخليص تاريخ السلطة من الحمولات الوهّابية، وإضفاء طابع قومي لا ديني عليه، وتلبيسه بطولات وأمجاداً بعيدةً من صور «الحرب على الشِرْك»، وهو ما يتجلّى بوضوح في محاولات إماتة ذكر محمد بن عبد الوهاب في الكتب والمخطوطات ووسائل الإعلام، على رغم أن للأخير «مركز الشريك السياسي الثاني في الدولة». قد يجد ابن سلمان مبرّراً لما يقوم به في القول إن «تاريخ الدولة، أيّ دولة، لا يبدأ من لحظة قيامها، بل هو تاريخ ما قبل بدايتها وما بعدها» («الوهابية بين الشِرك وتصدّع القبيلة» لخالد الدخيل)، لكن الأكيد، بحسب ما يرد في الكتاب المذكور نفسه وما يُجمع عليه أيضاً مؤرّخو الدولة السعودية كافّة وعلى رأسهم عثمان بن بشر وحسين بن غنام، أن «اتفاق الدرعية كان الخطوة الأولى على طريق تَجسّد فكرة الدولة وتحوّلها إلى مؤسّسة على أرض الواقع».
يجري العمل على تخليص تاريخ السلطة من الحمولات الوهّابية، وإضفاء طابع قومي لا ديني عليه
على أيّ حال، لا يبدو هذا الجدال ذا معنًى بالنسبة لوليّ العهد، شأنه شأن الأصوات المتعالية برفض إعادة ترتيب الحيّز المكاني في غير مدينة سعودية، وفق مقتضيات «رؤية 2030». إذ، وعلى نحْوٍ قد يكون أشدّ فظاظة ممّا جرى في مكة والمدينة، فضلاً عن الرياض التي بدأ «التجديد العمراني» بالتسلّل إليها مبكراً، وفي أعقاب حملات مماثلة في مناطق قبيلتَي الحويطات وجهينة شماليّ المملكة ومناطق قبيلة شهران جنوبيّها ومنطقة القطيف شرقيّها، تشهد مدينة جدة منذ ستّة أشهر حملة تجريف لتضاريسها الشعبية وتراثها الأصيل وثقافتها المحلّية، تمهيداً لإدخالها في مطحنة الاستثمار والترفيه والربح المالي، في ظلّ تطلُّع ابن سلمان إلى جنْي ما لا يقلّ عن 12.5 مليار دولار من مشروع وسط جدة. يدّعي مُخطّطو المشروع أن «تاريخ المدينة الغنيّ وهويّتها الثقافية المتميّزة كانا مصدر إلهامهم، مع الإشادة بتنوّعها المعاصر، والاعتراف بإمكاناتها المستقبلية كوجهة عالمية»، لكن ما يجري على الأرض هو بالضبط «تهديم للمدينة فوق رؤوس أصحابها» – على حدّ تعبير معارضين سعوديين في بيان أصدروه بعنوان «التهجير القسري لأهالي جدة في إقليم الحجاز» -، لا لمداواتها وهي «المريضة بشدّة» (التعبير مستعار من وصْف العالم الروسي، فيتالي غينزبورغ، للمدينة الحديثة)، أو تحريرها من تناقضاتها وهي الممتلئة بانعدام المساواة (كما يصوّر عبده خال، جدّة، في رواية «تَرمي بِشَرر»)، بل من أجل تشييد مدينة جديدة مكانها تحتال على التاريخ بمحاكاة مظاهره الخارجية، وتنفي أهله إلى بؤر نائية حيث سيزدادون فقراً وبؤساً، فيما سيسرق ذاكرتَهم عملاء عالميون ستغدو جدّة القديمة معهم وكأنها «سالفة من السوالف».