الانتماء الوطني هو تلك النزعة الوجدانية العميقة لدى الفرد العاقل، للدخول في إطار اجتماعي فكري معين، بما يقتضي الالتزام بمعايير وقواعد هذا الإطار، ونصرته، والدفاع عنه في مقابل غيره من الأطر الثقافية والاجتماعية، وهو يُعتبر اتجاهاً إيجابياً مدعماً بالحب، يستشعره الفرد تجاه وطنه، باعتباره عضواً فيه، ويشعر نحوه بالفخر، والولاء، ويعتز بهويته، وتوحده معه، ويكون منشغلاً ومهموماً بقضاياه، محافظاً على مصالحه، وثرواته، مراعياً الصالح العام، ومشجعاً ومسهماً في الأعمال الجماعية، ومتفاعلاً مع الأغلبية، ولا يتخلى عنه حتى وإن اشتدت به الأزمات.
بهذا التعريف بدأ الباحث عماد يوسف محاضرته التي ألقاها في المركز الثقافي بطرطوس بعنوان (تحديات الانتماء الوطني في زمن العولمة)، مؤكدا أن الانتماء حاجة إنسانية وضرورية لتحقيق تماسك المجتمع عن طريق تبني أفراده مثاليات، ومعايير، وقيماً ومبادئ وطنية، بما يسمح بنمو الذات، والنزعة الفردية المستقلة، المنضوية تحت مظلة ” النحن” المجتمعية.
العولمة وتحدياتها
وتطرق الباحث للعولمة ومفهومها وتحدياتها وتعريفاتها التي وردت على لسان الكثير من العلماء والباحثين مؤكداً أن تعريفات العولمة متنوعة وتختلف من باحث إلى آخر، ومن مفكر إلى آخر، ولكن تجمع بينهم جميعاً أفكار مشتركة وقواسم محددة أهمها: تجاوز الأفكار والخبرات والنظم والسلع والمشكلات لبيئتها المحلية، أي البيئة الوطنية، وهذا تحدٍ كبير، كما أن تسارع وتيرة الاتصال الدولي وتقدم وسائله سهل انتقال كل ما يُراد نقله بدون حواجز أو تراخيص من أي نوع، وهذا يعتبر من التحديات لجهة أن علاقة التواصل تصبح عالمية، ما يستدعي الخروج من الانتماء المكاني والوطني المحدود إلى رحاب الفضاء العولمي المفتوح.
الباحث عماد يوسف: الانتماء حاجة إنسانية وضرورية لتحقيق تماسك المجتمع
كما يتفق معظم الباحثين على أن الهدف من العولمة هو هيمنة دول المركز القوية، وفرض أفكارها على دول الأطراف الضعيفة، وتراجع قيمة الحدود السياسية وتآكل دور الدولة القومية، والوطنية، وانتهاء هيمنتها السياسية والاقتصادية، وذوبان الحدود والعوائق أمام كل المعطيات والعناصر المكونة للعولمة، وقيام نظام العولمة على عدم الاكتراث بالخصوصيات المحلية والتراثية والبيئية للدول والشعوب، لأن العولمة تصنع بآلياتها الجبارة الميزات والخصائص والأجور التي تنسجم مع رواجها ومصالح القائمين عليها، وهذا يندرج أيضاً تحت مسمّى التحدّيات المصيرية للدول.
الخوف من العولمة
كما لفت يوسف إلى الرأي القائل: إنّ العولمة تجسيد للقيم الكونية ونذير حياة بالنسبة للشعوب يخلو من المصداقيّة، خاصّة أنّ العولمة كما يقول، “غارودي”، هي نظام يعيد إنتاج علاقات الهيمنة بين الشعوب ويقسّم العالم كما يُبين سمير أمين، إلى مراكز وأطراف، ويهدّد جميع الشعوب بالموت المحقّق، وبنزع هويته الوطنية والثقافية ليصبح تابعاً يدور في فلك فلسفة العولمة ونظمها، التي حققت سيادة كبيرة على الكثير من دول العالم في شتى المجالات.
كما يجب أن نخشى من العولمة
لأنها من جهة أولى هي نذير موت للشعوب المُهَيْمَن عليها، إذ تهدّد خصوصيتها الاقتصادية عبر إدماجها في الاقتصاد العالمي ونهب ثرواتها ومواردها، كما تهدّد خصوصيتها الاجتماعية عبر تعميق التفاوت في مستويات العيش بين جنوب العالم وشماله، وتكريس الفوارق بين الأغنياء والفقراء محلّياً وعالمياً، إضافة إلى إثارة الأزمات الاجتماعية مثل، البطالة والغلاء المعيشي والاحتكار والهجرة والتهريب، ومن جهة ثانية فإنّ العولمة نذير موتٍ أيضاً بالنسبة للشعوب المُهَيمِنة صانعة العولمة والمستفيدة منها، إذ تهدّد قيمها الكونية عبر إرغامها على تصديرها إلى جانب سلعها التجارية، والحال أنّ القيم إذا اقتلعت من بيئتها تموت.
تحديات العولمة
وقدم يوسف نماذج لدول ومجتمعات لم تتأثر بنظم العولمة كثيراً، ومازالت تصارع لمنع تداعياتها السلبية على مجتمعاتها، مثل “روسيا، ايران، كوريا الشمالية وهي نماذج واقعية، كما أن هناك مجتمعات ودولاً مازالت تصارع، للتشبث بأرضها وثقافتها وانتمائها؛ ضد الاندماج العولمي، ولدينا اليوم مثال حي وصارخ ومشرّف وهو ما يحصل من قتل وإرهاب وذبح بحق المواطنين الأبرياء من شيوخ وأطفال ونساء في فلسطين الحبيبة.
من هنا – يضيف يوسف- نرى أن حجم التحديات لنظام العولمة كبير جداً، ويشمل كل المستويات، وأهمها المستوى الثقافي ومفهوم الانتماء الوطني، والهوية الوطنية التاريخية للشعوب، فالتحدي الاقتصادي يمكن أن يكون عابراً، وكذلك العسكري والاجتماعي، أما عندما يطول هذا التحدي الهوية الوطنية بما تمثله من انتماء فهذا خطير جداً، ويجب علينا جميعاً، كدولة، ومؤسسات، ومسؤولين، ومواطنين ألا ندّخر جهداً في التصدي لهذه الظاهرة الخطيرة بشتى السبل والوسائل، وأحد هذه السبُل هو نشر التوعية بمخاطر هذا النظام العالمي الذي يسير كالبلدوزر ليسحق كل ما هو أمامه، ولذلك يجب تثقيف النشء وتوعيته بمفهوم الانتماء الوطني، وتعزيز حب الوطن في نفوس الأطفال، ووجدانهم، وعقولهم، والسعي للاعتماد على الذات في الصناعة والزراعة والتعليم والتجارة وكل مجالات الحياة، وتشجيع الثقافة والقراءة في التاريخ الوطني والأدب والفلسفة، ومحاولة إنتاج أجيال كثيرة تكون مسلحة بالثقافة الوطنية والإرث الوطني.
سيرياهوم نيوز 2_تشرين