كمال خلف
هي الزيارة الأولى لهذا البلد رغم ما يعتريني من حب عظيم له ولشعبه الطيب واحترام كبير لشهدائه وثورته ومواقفه الغير قابلة للتصرف تجاه القضية الفلسطينية وقضايا الحق العربي، عندما تطأ ارض الجزائر تدرك انك على تراب ينبت الاحرار والشرفاء وهواء نقي فيه من الكبرياء ما يكف ليجعلك تعشق البلاد وأهلها . ويكفي كذلك ان تشعر ان فلسطين حاضرة يوميا في خطاب النخبة السياسية كما هي في وجدان الناس وفي تفاصيل حياتهم لتعرف حجم هذا الكنز المدفون في جغرافيا واسعة وكتلة بشرية وازنة تبلغ حوالي 50 مليون نسمة.
وليس خافيا ان الجزائر دخلت مرحلة التغيير بعد الإطاحة بما يسميه الجزائريون “بالعصابة” والمقصود بها البطانة التي كانت تتحكم بالبلاد حول الرئيس السابق الطاعن في السن “عبد العزيز بو تفليقة” والتي انتهجت الفساد ونهب خيرات البلد الثري وافقرت وهمشت شريحة واسعة من أبنائه . ومع ان الحراك الشعبي الجزائري الذي انطلق في شباط فبراير 2019 كان واسع الانتشار وانضم اليه مئات الالاف، الا انه لم يأخذ نهجا عنفيا او تدميريا وانطبع بالوعي والحس الوطني العالي، وهذا انعكس على مسار التغيير السياسي الذي جاء هادئا ومدروسا وحريصا على الاستقرار وملبيا نسبيا حتى الان لتطلعات طيف واسع من أبناء البلاد، وهناك بالطبع من يرغب بالمزيد من التغيير العميق ضمن المؤسسات والمسارات التي تحافظ على وحدة البلاد الوطنية وسلمه الأهلي.
اثناء وجودي هنا لتغطية الانتخابات التشريعية المبكرة ضمن المسار الدستوري الذي بدأ بالانتخابات الرئاسية، ثم الاستفتاء على التعديلات الدستورية، وانتقل الى الاقتراع التشريعي لانتاج برلمان جديد، ثمة متغيرات مهمة في الجزائر لابد من التوقف عندها لتسليط الضوء على فرادة التجربة الجزائرية في عملية التغيير الديمقراطي اعتمادا على الحراك الشعبي المبارك.
اول الملاحظات وربما أهمها هو وجود إرادة حقيقة لدى صناع القرار الان في جدية التغيير. ومن الموكد حسب اطلاعي عن قرب ان الرئيس الحالي “عبد المجيد تبون” يملك نوايا صادقة وحماسة كبيرة للتغيير، بل ربما ابعد من النوايا على أهميتها ، ما يمكن تسميته بخارطة طريق تنقل البلاد من مرحلة الى أخرى، ومن الواضح ان الرجل يريد ان يدخل التاريخ الجزائري من باب الإصلاح واحداث نقلة في البلاد، ناهيك عن دور الجيش الوطني وعلى راسه قائد الأركان الفريق “السعيد شنقريحة” في كونه صمام امان للبلاد وحافظ للاستقرار الداخلي وحصن في وجه التدخلات الخارجية.
وكان اعتراف القوى السياسية كافة على اختلاف توجهاتها ومواقفها بنزاهة وشفافية الانتخابات التي جرت السبت الماضي مفصلا غاية في الأهمية لجهة عدم الثقة سابقا وطوال عقود بالطريقة التي تجرى فيها الانتخابات.
اما النتائج فقد اختلفت وجهات النظر حيالها لدى النخبة والشارع، بين من رأى انها لم تلب الطموح في عملية التغيير الشامل، ومن وجدها منطقية ضمن الظروف الحالية وحداثة التجربة الديمقراطية .
تصدر حزب جبهة التحرير الوطني (الحاكم سابقا) للنتائج دفع البعض الى اعتبار التغيير عبر برلمان جديد امر لم يتحقق بعد،لكن من وجهة نظر شخصية قد تكون النتيجة عادلة طالما ان الكل في الجزائر مجمع ان العملية لم يشبها أي تزوير، كما ان الحزب له تاريخ نضالي عريق ومؤيدين في صفوف الشعب الجزائري، عدا ان الحزب لا يمكن ان يؤخذ بتاريخه ونضاله بجريرة بعض قادته من الفاسدين او المرتكبين سابقا، والاهم هو ان الحزب اجرى تغييرا كبيرا بناء على نتائج الحراك الشعبي ودفع بمرشحين ووجوه جديدة قد تغير كليا من أداء الحزب في المستقبل.
ومن الطبيعي ان الحكم على البرلمان الجديد سيكون من خلال أدائه في مراقبة ومحاسبة عمل الحكومة وتفعيل دوره في التشريع وسن القوانين لمصلحة الشعب فقط. وهذا الميدان سيكون مفصلي في اطلاق حكم تقيمي حقيقي لعملية التغيير وانتقال الجزائر الى مرحلة جديدة.
وليس بعيدا عن تفاصيل مسارات الانتقال الداخلي تاتي التحديات الخارجية الكثيرة، ابتداء بقضية الصحراء الغربية والعلاقة التي ارتفع فيها منسوب التوتر مع الجار المغربي، خاصة بعد توقيع المغرب اتفاق التطبيع مع إسرائيل ، اذ يعتبر الجزائريون ان إسرائيل وصلت الى حدودهم، بما يعنيه ذلك من مخاطر على الامن القومي الجزائري.
وبينما كنت جالسا مع نخبة سياسية وصحيفة جزائرية جاء خبر زيارة وفد حركة حماس الى المغرب اول امس كاول زيارة لقادة حماس ضمن جولة لهم، ولم يخف الحاضرون امتعاضا من اختيار حماس للرباط واللقاء مع حكومة وقعت للتو اتفاقا تطبيعيا مع دولة الاحتلال الإسرائيلي ولم يبدؤا من الجزائر التي تجرم حكومة وشعبا هذا النوع من العلاقات وتدعم بلا حدود الشعب الفلسطيني.
ولا تخف الدبلوماسية الجزائرية رغبتها في اصلاح منظمة الجامعة العربية. تقول نخبة من الجزائر ان صوت الجزائر رغم حجمها لم يؤخذ به مع عدة دول عربية في قرار تجميد عضوية سورية في الجامعة قبل عشر سنوات، بينما الان دولة عربية واحدة فقط تمنع عودة سورية الى مقعدها في الجامعة. وكما علمت ان السبب الحقيقي لتاجيل الجزائر عقد القمة العربية على ارضها هو انها لا تريد قمة من دون سورية وليس السبب جائحة كورونا كما قيل سابقا.
وتطالب الجزائر بتدوير منصب الأمين العام للجامعة وان لايبق حكرا على دولة واحدة. كما تسعى الان بشكل حثيث للعب دور نشط على صعيد الملف الليبي بدعوة كافة الأطراف لادارة حوار في الجزائر.
العلاقة مع فرنسا تشهد هي كذلك توترا متصاعدا. وسائل الاعلام الفرنسية هاجمت الانتخابات التشريعية ووصفتها بغير النزيهة، مسلطة الضوء على ما سمته الاعتقالات والانتهاكات، ما دفع السلطات الجزائرية الى سحب اعتماد احدى القنوات الحكومية الفرنسية. وزاد على ذلك ادعاء احدى المجلات الفرنسية بان قائد الأركان الفريق “شنقريحة” زار باريس سرا وهو ما نفته وزارة الدفاع الجزائرية في بيان عنيف.
لخص لي الاكاديمي والكاتب الجزائري الدكتور “زهير بوعمامة” العلاقة مع فرنسا حاليا في نقاش دار بيننا بالقول ” مشكلة فرنسا انها اضاعت العلبة السوداء في الجزائر، هي الان لا تعرف قفل المفتاح اين بالضبط” .
يبدو لي ان باريس لديها خشية فعلية من فقدان دورها في الجزائر الجديد لصالح قوى دولية أخرى. وهي تتشارك مع الولايات المتحدة القلق من العلاقة الاقتصادية والسياسية المتنامية بين الجزائر وبكين. تقوم الصين ببناء اكبر ميناء في حوض المتوسط في “شرشال” على ساحل الجزائر. ليس هذا وحسب انما تمتد العلاقة الى تقارب سياسي وثقافي وزيارات دورية متواصلة.
اما الساحل الافريقي فهو ملف لصيق بالامن القومي، وتنظر الجزائر اليه من باب القلق من الاضطرابات التي بدأت تتجاوز مالي الى بقية دول الساحل. ربما تستثمر بعض القوى هذه الاضطرابات في محاولات التأثير على الوضع الداخلي في البلاد خاصة مع بدء هجرة الجماعات الإرهابية من الشرق باتجاه افريقيا.
يطول الحديث عن الجزائر الذي نحبه ونظلمه بذات الوقت بقلة اهتمامنا به.
نعشق الجزائر ارضا وشعبا وتاريخا سلطة وجيشا ومعارضة وحراكا شجرا وبحرا وحجرا وحتى قطط الشارع.
سيرياهوم نيوز 6 رأي اليوم