كمال خلف
منذ اللحظة الأولى لبروز اسم الأمير “محمد بن سلمان” في فضاء صناعة السياسية في المملكة العربية السعودية، اوقعنا هذا الحضور في حيرة في تقييم نوعية هذا الأمير الشاب القادم الى كرسي الحكم في واحدة من اكبر الدول العربية، وأكثرها تأثيرا في المنطقة. فقد ظهر بداية كمتهور ومتسرع وانفعالي، وهو ما أوحى ان المملكة مقبلة على تغيرات غاية في السلبية عنوانها التدمير الذاتي، كما ظهر كمصلح مجدد اقترب من مسلمات وتقاليد في الحياة العامة والقيم والاجتماعية والتقاليد النمطية، والأعراف الاسرية، وحتى القيم الدينية الموروثة. كان التجديد الداخلي محل ترحيب حار من فئات اجتماعية واسعة داخل المملكة، لطالما حلمت به طوال عقود من الزمن ولم يجرؤ أي امير او ملك تعاقب على كرسي الحكم من الاسرة السعودية على المس بتلك الأنماط والمحرمات باعتبارها خطوطا حمرا راسخة بنيت عليها المملكة منذ تأسست.
بالمقابل صورت تلك الإصلاحات الداخلية من قبل معارضيها من سعوديين وعرب وتيارات إسلامية وغير إسلامية في العالم العربي، بانها في اطار التهور وانعدام الخبرة و العبث، وبالتالي تم النظر اليها باعتبارها طفرة طارئة، ضمن مراكمة الأخطاء في السياسات الداخلية والخارجية والتي سيدفع ثمنها ابن سلمان وعهد والده الملك سلمان بن عبد العزيز.
واذا كانت تلك الثورة الداخلية التي أحدثها ولي العهد السعودي لاقت ترحيب واعجاب الغالبية من السعوديين وغير السعوديين، ولفتت الانتباه الى وجود شخصية غير تقليدية في صناعة القرار في المملكة، رغم الجدل حولها. فان السياسات الخارجية ظلت محكومة بشيء من الفوضى والارتجال طوال السنوات الماضية، فالحرب العبثية في اليمن وما استنزفته من ثروات وما سبتته من مآسي للشعب اليمني، ومسار التطبيع المأمول مع إسرائيل الذي سال له لعاب قادة الاحتلال المجرمون في تل ابيب، والحملات الإعلامية السعودية على الشعب الفلسطيني التي اوجدت شرخا وندوبا في العلاقة التاريخية بين الشعبين، وصبت في مصلحة إسرائيل وسرديتها الكاذبة
والتوتر والكباش مع ايران الذي ارخى بظلال ثقيلة على المنطقة، واجج الصراع الطائفي المقيت. وسياسية إرضاء الولايات المتحدة بالمال على حساب شعوب المنطقة والخلاف مع قطر وتركيا وسورية وغيرها من السياسات.
هذا الفارق بين السياسات الداخلية الإصلاحية، والخارجية المضطربة، دفع الكثير من المراقبين والخبراء الى تحليل المشهد السعودي على الشكال الاتي : الأمير بن سلمان احدث تغيرات جذرية إصلاحية ذات طابع انفتاحي وحداثي في الداخل من اجل إرضاء البيت الأبيض والدول الغربية للوصول الى وراثة المملكة بعد والده الملك سلمان، والسياسات الخارجية تخدم هذه الدول وبالتالي هذا الهدف “.
هذا التصور والتحليل بدأ ينهار اليوم، مع انتقال البلدوزر السعودي من اقتحام المعوقات الداخلية وتحطيم التقاليد البالية ودفع البلاد نحو التطور والانفتاح في مهمة ليست سهلة وتحتاج الى قدر كبير من الشجاعة والجرأة والمغامرة، نظرا لصلابة الموروث التاريخي والعائلي والديني وتجذره وارتباطه بنشأة واستمرار المملكة، الى الاقتحام الخارجي نحو مهمات اكثر صعوبة وتحتاج الى قدر اكبر من الشجاعة والجرأة التاريخية.
بدا البلدوزر السعودي غير مكترث بالإملاات الامريكية، ومشاريعها ومصالحها، وقدم مصلحة المملكة ربما لأول مرة في تاريخها على مصالح الولايات المتحدة. واذا كانت مقولة ان صانع القرار في السعودية بدأ يستشعر ارتخاء القبضة الامريكية في المنطقة مقولة صحيحة، فان الاصح منها وفق تقديرنا هو ان السعودي بات مساهما فاعلا، وعاملا معجلا في اضعاف القبضة الامريكية وإخراج المنطقة من تحت النفوذ الأمريكي. يضع الأمير محمد بن سلمان اتفاق عبد العزيز روزفلت الشهير عام ١٩٤٥ على طاولة المراجعة للمرة الأولى منذ ذاك التاريخ، ليقدم نفسه لاحقا باعتقادنا كمؤسس ثان للملكة الجديدة بعد المؤسس الأول الملك عبد العزيز. وهذا ما سيكون عاجلا او اجلا.
ولن تبحث المملكة عن مظلة صينية صاعدة في قيادة العالم بديلا للمظلة الامريكية المتراجعة، انما ستغادر موقع طالب الحماية الى شريك في إدارة الإقليم، وشريك على المسرح الدولي وفق معادلة المصالح المتبادلة. ومن هذا المنطلق فان الاتفاق والمصالحة بين المملكة وايران لن تكون في سياق المد والجزر في العلاقات الثنائية بين البلدين طوال العقود الماضية، انما خطوة استراتيجية ثابتة في النهج الجديد للسعودية. وهذا ينطبق على العلاقات السعودية التركية.
ويأتي اغلاق ملف الحرب في اليمن كخطوة مهمة وكبيرة، ويجب على المملكة دعم استقرار وازدهار اليمن، وإقامة افضل العلاقات مع قواه السياسية وعلى راسها حركة انصار الله اليمنية وتحويل حالة العداء للحركة الى نوع من التعاون والاخوة الصادقة، هكذا تحمي المملكة ما تسميه حديقتها الخلفية، وتغلق باب الابتزاز السياسي الأمريكي. ونعتقد ان الأمير ابن سلمان سوف يقدم على ذلك النهج تجاه اليمن دون تردد.
واتجه البلدوزر السعودي نحو سورية، كاسرا القرار الأمريكي والتهديدات الفارغة، واندفع نحو إعادة العلاقات مع دمشق، ومستعدا بعد أيام قليلة لاستقبال الرئيس السوري بشار الأسد بحفاوة كبيرة، تمهيدا لبداية جديدة تعيد العلاقات التاريخية بعد سنوات القطيعة، وتسهم في مساعدة سورية للخروج من ازماتها، لتكون بلدا فاعلا في معادلات الإقليم الجديدة.
اما الملف الفلسطيني فقد بدأت تظهر المقاربات الجديدة للملكة تجاه الفلسطينيين، ويحسب للمملكة تمسكها بالمبادرة العربية للسلام والتي تنص على انسحاب إسرائيلي شامل من الأراضي العربية المحتلة عام ١٩٦٧ كشرط للتطبيع، رغم مشاريع الإدارة الامريكية خلال السنوات الماضية المتمثلة في صفقة القرن المشؤمة واتفاقات ابراهام الفاشلة وإقامة حلف عربي إسرائيلي موجه ضد ايران وغيرها من الأفكار العدوانية التي لا تخدم سوى إسرائيل.
نعتقد ان العلاقات بين المملكة والمقاومة و التيارات الفلسطينية على اختلافها سوف تتجه الى الازدهار، ونعتقد ان الخطوة التالية للسعودية إعادة الاعتبار للشعب الفلسطيني ووقف كل الأصوات والحملات التي شككت بعدالة قضيته وشوهت تاريخه ومسار نضاله.
السعودية اليوم بقيادة البلدوزر الشاب، تنجز ثورة داخلية تنقل المجتمع السعودي من الجمود والانغلاق والشيخوخة نحو التطور والحداثة والانفتاح، وهذا لا يخدم الشعب السعودي فقط انما كل شعوب المنطقة. لان ضرب معاقل التطرف والتشدد داخل المملكة سوف يسهم في ضعف تاثيرها في المحيط.
وتتجه السعودية الى انجاز ثورة على صعيد السياسية الخارجية تنقل المملكة من موقع التخبط والغرق بالأزمات والتوترات، الى موقع الشريك الفاعل في صياغة نظام إقليمي قادر على إدارة ذاته بالتعاون والشراكة وتبادل المصالح مع المحيط.
السعودية اليوم في المسار الصحيح، وهي تنجز ملفاتها وتزيل العقبات وتصنع التحولات بسرعة ودقة وجرأة وبدون تردد او التفات للتهديدات او قيود الماضي. ونعتقد ان محمد بن سلمان كمن يقود بلدوزر تطحن وتنجرف كل الحواجز وتمضي تجاه المستقبل.
كاتب واعلامي فلسطيني
سيرياهوم نيوز 4_راي اليوم