رأي حسام مطر
استعادة التاريخ هي من أبرز السُّبل لمحاولة التعامل مع المستقبل، ولا سيما عند التحديات الكبرى. وأخيراً، ينشط الأميركيون في استعادة دروس الحرب الباردة مع عودة صراع القوى الكبرى مجدداً. وقد قدّم هال براندز (أستاذ كرسي هنري كيسنجر المميّز للشؤون العالمية في كلية الدراسات الدولية المتقدمة بجامعة جونز هوبكينز) مراجعات غنيّة للحرب الباردة في هذا السياق. قراءة هذه المراجعات مفيدة لفهم كيف يمكن أن يكيّف الأميركيون دروس الحرب الباردة في الحقبة الحالية للصراع مع الصين وروسيا وإيران. على غرار الحرب الباردة، الصراعات الكبرى الحالية هي صراعات ممتدة بين منظومات (systems) وليست حروباً عسكرية خاطفة، ولذلك تكتسب استراتيجيات إدارة الصراع أهمية عالية. قامت الحرب الباردة على استراتيجية الاحتواء، وهي مقاربة تتوسط خيارَي الرضوخ والمواجهة المفتوحة الخطرة، وهي مقاربة متوازنة تحقق مكاسب متدرجة مع تجنّب الكوارث، بحسب براندز. كان المطلوب هو تجنّب حرب كبرى وتحويل عنصر الوقت إلى جانب الغرب عبر بناء وتقوية منظومته في مقابل إضعاف المنظومة السوفياتية عبر ضرب نقاط هشاشتها بخليط من الأدوات (أدوات القوة الصلبة والناعمة والحادة) إلى أن تتفكك كمشروع إيديولوجي وجيواستراتيجي، وهذا ما تحقق.
وقد طبقت الولايات المتحدة هذا المفهوم على الصراع مع محور المقاومة ما بعد حقبة «الحرب على الإرهاب»، حيث تبيّن أن هزيمة هذا المحور بالطرق العسكرية التقليدية غير متاح وأن علاقة إيران بحلفائها تتسم بالتركيب والتعقيد والتفاعل وليست مجرد علاقة بوكلاء أو «أذرع»، وأنهم يمثلون حركات ذات عمق اجتماعي لا مجرد منظمات «إرهابية» معزولة. وطوال هذه الفترة، اتبعت واشنطن سياسات وبرامج عمل متنوعة ومتبدّلة من ضمن هذا المفهوم، إمّا عن سابق تخطيط وإما انعكاساً للتخبط والفشل. فهذا الصراع ينطلق من افتراض عدم إمكانية هزيمة عدوّ وازن يمثّل خطراً معتبراً على المصالح الأميركية، بضربة عسكرية حاسمة بكلفة مقبولة. ولذا يكون الخيار بخوض صراع ممتد معه، دون الحرب العسكرية التقليدية المباشرة، على عدة مجالات من خلال طيف واسع من أدوات القوة لإضعافه بالتدريج إلى أن يصل إلى عتبة يصبح قابلاً للانهيار.
أولاً: الصراع المنظومي
وفق هذا المنظور، العدوّ هو منظومة ينبغي أولاً معرفتها فكرياً ومادياً من حيث مكوناتها المختلفة وأدوارها وعلاقاتها ومعاييرها وقواعدها وروابطها، وهذا يفيد في تحليل كيفية عملها أو لغرض التواصل معها أو تعريف الآخرين بها. وتالياً يصبح التدخل ممكناً من خلال اكتشاف مراكز ثقلها التي إن جرى النفاذ إليها يمكن التأثير في دينامياتها ودورة حياتها. فكل منظومة هي مثل كائن حيّ تقوى وتضعف، ولذا من الحيوي فهم كيف يؤثر مرور الوقت فيها ولا سيما لناحية ظهور «آثار الشيخوخة» أي نقاط الوهن والهشاشة التي يمكن للمنافس أن يستهدفها لتحقيق أفضلية. هذه الهشاشة قد تظهر في «تصلّب» النظام السياسي أو بطش النخبة الحاكمة، أو انقسامات هوياتية حادة أو تناقضات عميقة في المصالح المادية أو تحولات جيلية ثقافية وسياسية خارج السيطرة أو أزمات اقتصادية بنيوية… إلخ. ثم إن الوقت اختبار لكل منظومة، حيث تقاس كفاءة أيّ نموذج اجتماعي وسياسي واقتصادي بقدرته على توليد القوة وتوظيفها، «فالمميزات الداخلية قد تحدد المصير الجيوبوليتيكي للدولة، ولذا يجب تقوية منظومة الدولة بالإصلاحات، والخطيئة الأساسية هي ممارسة سياسات تقلّص حيوية الدولة» بحسب براندز. وهنا يمكن أن نفهم أن السياسة الداخلية لفواعل المقاومة مثلاً هي شأن استراتيجي بطبيعة الحال ومتغيّر رئيسي في سياساتها الخارجية والأمنية.
في هذا الصراع بين منظومات، يلعب الوقت غالباً في مصلحة أحد المنافسين في جوانب محددة. في هذا الماراثون، أنت بحاجة إلى معرفة نقاط ضعف المنافس واستغلالها عبر نقل المنافسة إلى حيث لك أفضلية محددة ووفق أولويات محددة حتى لا تُبدّد مواردك المحدودة التي عليك توزيعها ببراعة إلى أن تتسبّب للعدو بنزف كلما لاحت فرصة، وهكذا تصبح هذه الأفضلية متمادية. فلا لزوم لتهزم العدوّ في كل مكان ومجال، بل يكفي تحقيق تفوّق لامتماثل وفرض أكلاف لامتماثلة. هذا الصراع شامل ومتعدد الأبعاد (اقتصاد واستخبارات وديبلوماسية…)، وهو غير حاسم بطبيعته ويقوم على تحسين المواقع بدل السعي لنصر سريع. كما يستلزم هذا الصراع شروطاً متناقضة أحياناً (توظيف القوة بفعالية مع الحفاظ عليها لفترة طويلة، والقدرة على التقدم بشكل مستمر مع الحفاظ على المرونة لوقت طويل، والحفاظ على الالتزامات ولكن هناك سياسات ميتة لا جدوى منها).
في هذه المنافسات الطويلة، ومع الحاجة إلى تجنب الحرب المباشرة مع العدو، لا بد من درجات من التعاون وخفض دوري للتصعيد، وهكذا تأسست معايير واتفاقات نظّمت التنافس بين أميركا والاتحاد السوفياتي ضمن ما يعرف بحقبة «السلام الطويل» (الحد من سباق التسلح، تعزيز الاتصالات البينية، حد أدنى من الشفافية الاستراتيجية، تقييد المواجهة في مجالات النفوذ، التعاون في مواجهة التحديات العالمية مثل الأمراض ومنع الانتشار النووي). شمل الانفراج بين القطبين تهدئة الصراعات في العالم الثالث وضبط سقف الحرب الباردة، وقد هدفت واشنطن من ذلك إلى تأمين خروجها من فييتنام، وتهدئة السلوك السوفياتي حيث كانت القدرات السوفياتية تنمو، وإرساء قواعد للانضباط المتبادل والتعايش وأخيراً التعاون. وهكذا كان الانفراج من المنظار الأميركي يهدف إلى تجنيب أميركا خسارة الحرب الباردة في لحظات محددة وإعادة تشكيل العلاقة مع السوفيات من موقع قوة وكشفهم أمام أدوات التأثير الأميركية بما كان يمكن أن يغيّر طبيعة الصراع على المدى البعيد.
بالمحصلة، ليس هناك تركيبة واحدة لهذا الصراع، فهو عبارة عن نظام تراكمي يستلزم الصبر والاتساق والقيام بمخاطرات، وهو يعمل ببطء ولكن بثبات ويحقق النتائج تدريجياً. كما أنه يجمع بين الطرق التدريجية والتطلعات التحويلية، أي أنه إذا لم يكن من السهل تحديد متى تقترب من تحطيم عدوّك، ولكن يمكن أن تلاحظ أنك تمنعه من التقدّم. ويتسم هذا الصراع بالتعقيد مثل أنه قد يتضمن الانفتاح على العدوّ لتحضير الأرضية لممارسة الإكراه عليه، كما أن المواجهة معه تفتح مجالاً للمساكنة عند الضرورة. فالانفتاح على العدوّ – عادة يبادر له الأقوى – يهدف إلى خفض التصعيد عند الاقتراب من خطر الاشتباك المباشر، والاختراق الثقافي واستتباع العدوّ بربطه بمصالح المبادر، وعزل الشخصيات المتطرفة، وإضعاف الأساس الإيديولوجي الذي تستمد نخبة العدوّ منه مشروعيتها وكشف نجاح نموذج الطرف المبادر مقابل تخلّف نموذج العدوّ. هنا من المفيد الإشارة إلى أن حلفاء واشنطن في المنطقة يروّجون عند أية مساكنة أو تفاهم موضعي بين واشنطن وطهران أن هذا دليل على كون إيران في علاقة تحالفية «تحت الطاولة» مع الولايات المتحدة وذلك بهدف زرع الشك بدوافع إيران والطعن بخيار المقاومة وتشويه البُعد الإيديولوجي للصراع. فيما بحسب نموذج الصراع المنظومي فإن محاولة الانفتاح على العدوّ ومساكنته وضبط التصعيد معه هي جزء أصيل من إدارة الصراع وضروراته وليست نفياً له، وهي تعكس موازين القوى وليست تبادلاً ودياً.
اكتشفت واشنطن أنّ لدى قوى المقاومة تصوّرات للتهديد وقيماً استراتيجية تدفعها عند الضرورة إلى تجاوز معادلات الردع، وأن كبح حافزية هذه القوى لا يتحقق بتوازن القوى بل بتوازن المصالح وطبيعة الوضع القائم
ثانياً: استثمار الحرب على غزة في سياق الصراع المنظومي
تحكم هذه المقاربة التيارَ الرئيسي في واشنطن في ما يخص الصراع مع إيران وحلفائها، أي منظومة المقاومة، وهي مقاربة تعززت مع الإخفاقات العسكرية الأميركية في المنطقة بعد 2001 ومع التحوّل الأميركي عن المغامرات العسكرية ونقل ثقله العسكري نحو شرق آسيا. وعليه، تواجه أميركا منظومة المقاومة عبر استراتيجية ثلاثية تشمل: (1) الضبط بالردع، (2) الخنق من الخارج، (3) الاختراق من الداخل، توظّف فيها أدوات الحرب التركيبية/ الرمادية (حملات معلومات، عقوبات مالية، حصار اقتصادي، قوة ثقافية ناعمة، أنشطة أمنية، حرب بالوكالة، حرب سيبرانية). وهذا يتقاطع مع ما كان قد قاله وزير الخارجية الأميركي الأسبق جون فوستر دلاس: «يجب أن نعلم بقلوبنا أن الشيوعية تحتوي بذور دمارها… الضغوط الخارجية تسرّع عملية الدمار». فأميركا، بوصفها المهاجم، لا يكفيها الصمود في هذا الصراع الممتد، بل عليها، كما يستخلص براندز في دروسه، أن تقلّص حرية عمل الخصم واستنزافه بالتكاليف، وأخيراً دفعه إلى الاستسلام ولكن دون أن يؤدي ذلك بواشنطن نفسها إلى الإفلاس المالي أو السياسي، فهذه الاستراتيجية يجب أن تكشف الضعف في منظومة العدوّ بدون تلك الخاصة بأميركا، ودون التسبب بحرب شاملة.
هكذا يمكن استخلاص جملة مؤشرات لتقويم فعالية الاستراتيجية الأميركية ضد منظومة المقاومة: النجاح في تجنب الحرب المباشرة مع إيران وحلفائها أثناء حربها «الرمادية» عليهم. شن حرب عسكرية استنزافية منخفضة الحدة ضد المحور، على أن لا يوظف المحور عامل الوقت في زيادة قوته بنسب متسارعة مقارنة بالقوة الأميركية ولا في التوسّع. أن ترتفع إمكانية تحفيز الهشاشة الداخلية للمحور واستغلال نتائج الضربات الأمنية والعسكرية والسياسية والاقتصادية (تطبيق بارع ويقظ للقوة المضادة في سلسلة نقاط جغرافية وسياسية) عبر منعه من تحقيق المنجزات وتكثيف الإخفاقات بما يهدد بنيته الداخلية ويقوّض الثقة به ويضعف تحالفاته بشكل يبدو فاقداً للسيطرة عليها. أن تزداد المنظومة الأميركية خلال هذا الوقت صلابةً أو تحافظ على استقرارها. في حال نجاح واشنطن وفق هذه المؤشرات، حينها سيصبج عامل الوقت مضرّاً بالعدوّ ما يولّد لديه بمرور الوقت الإحباط السياسي ويخرج تناقضاته إلى العلن.
تجد إدارة بايدن أن الظروف الناشئة عن الحرب الإسرائيلية التي رعتها على غزة منذ «طوفان الأقصى» تطرح فرصة استثنائية وتاريخية قد لا تتكرر لفرض مسار سياسي تحت شعار «حل الدولتين» يفضي إلى إنهاء الصراع «الفلسطيني الإسرائيلي» ويفتح مسار التطبيع السعودي الإسرائيلي، وهما أمران في حال تحققهما سيؤديان إلى تغيير عميق في البنية الإقليمية وتوازناتها بما يعزل إيران وحلفاءها ويفقدهم المبادرة ودفعهم إلى التراجع بدون مخاطر عالية، ويعيد تجديد «القيادة» الأميركية للمنطقة، ويسرع جهود بناء «الناتو الشرق أوسطي» وتالياً دمج المنطقة بشكل آمن في المواجهة مع الصين وروسيا. مع الإشارة إلى أن الحديث الأميركي عن حل الدولتين قد ينتهي بمجرد وعد ملتبس وضبابي من نتنياهو بدولة فلسطينية مسلوبة السيادة والاستقلال بذرائع أمنية ومخترقة بحجج اقتصادية، ودولة بنظام قمعيٍّ عاتٍ ينفّذ برنامجاً تحويلياً طويل الأمد يستخدم مقولات السلام والديموقراطية والرفاه والاستقرار لتحويل المجتمع الفلسطيني إلى الاستسلام والانكفاء والعيش في الخوف واليأس كما حال دول التطبيع كمصر والأردن والمغرب. تواصل واشنطن تفريغ المفهوم من مضامينه التي عكست بالأصل تنازلات فلسطينية جوهرية وذلك بحجة محاولة إقناع الإسرائيليين بالقبول به. وهكذا صار مفهوم حل الدولتين ستاراً لمحو تدريجي واقعي للدولة الفلسطينية ولو بحدها الأدنى.
تريد واشنطن من هذا المسار السياسي المزدوج لنزع مشروعية وشرعية المقاومة ومنحهما للتطبيع إحداث نقلة تاريخية في مسار الصراع المنظومي مع محور المقاومة. سيتم استخدام هذا الأمر لمحاولة ضرب مشروعية المحور وتوتير علاقاته الداخلية وتقويض سردياته وصورته ورفع الشك بجدواه وإمكاناته وإيديولوجيته وإيجاد فجوات بين إيران وحلفائها، وإيجاد اتجاهات «انهزامية» داخل فواعل المحور واستفزاز «الصقور» للقيام بسياسات متوترة تحدث انقسامات داخلية أكبر، ورفع درجة الردع مقابل المحور والهيمنة على آليات التصعيد ضده عند اللزوم. مع الإشارة إلى أن ذلك لا ينفي احتمال أن تسعى واشنطن، في حال تمكّنها من إطلاق هذا المسار، إلى تأمين بيئة إقليمية ملائمة له تشمل تنازلات ومساومات، ما دون استراتيجية، مع إيران وحلفائها في ملفات إقليمية بهدف ضبط ردود أفعالهم على المدى القريب والمتوسط. تعمل إدارة بايدن الحالية وفق افتراض أن القضية الفلسطينية هي روح منظومة المقاومة في المنطقة وأنه من خلال إنهاء هذه القضية بالحرب والإخضاع السياسي سيدخل محور المقاومة في أزمتَي هوية ودور عميقتين.
ثالثاً: النمو في ظل النار مجدداً
من ناحية مقابلة، لا تمارس واشنطن كل ذلك خارج إدراك منظومة المقاومة بما في ذلك داخل فلسطين، وهذا الوضوح لطبيعة الصراع القائم واستراتيجيته هو الركيزة الأولى في المواجهة. إنّ الخطة الأميركية لـ«سلام دائم» وفق مسار سياسي طويل الأمد في فلسطين لن تكون يسيرة أبداً لأسباب تتجاوز الإجراءات المضادة المحتملة من قوى المقاومة التي تحافظ على تأثير عميق جداً في المنطقة ولو واجهت لحظات من الشك في ظل حدة الصدمة الإنسانية للحرب على غزة أو الالتباس في التوقعات وطبيعة الحرب. فهذا المسار يعاني من تشوهات ذاتية وموضوعية متعددة تشمل: الرفض الصهيوني العميق لدولة فلسطينية ولو شكلية، كثافة العوائق التي راكمها الصهاينة عبر التهويد والاستيطان أمام مشروع الدولة الفلسطينية، تزايد اتجاهات التطرف الصهيوني المصحوبة برغبة متجددة في العنف الوحشي المفتوح على الانتقام، حدة الاضطرابات والانقسامات الإسرائيلية المتوقعة مع نهاية الحرب، ضعف الدور الأميركي وتقلباته الحادة أمام مسار سيمتد لسنوات وبحاجة إلى إدارة متواصلة ومتسقة، صمود الشعب الفلسطيني وقواه الحية التي لن تتراجع، ولو كحلّ مؤقت، عن دولة الحد الأدنى (دولة فلسطينية وفق حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية)، كثرة الأزمات والتوترات داخل المنظومة الإقليمية لأميركا في المنطقة والتي سيحفز التطبيع جملة منها نتيجة ظهور توازنات قوى جديدة تطرح مخاطر جيوسياسية واقتصادية كبيرة، إضافة إلى طبيعة المرحلة الدولية التي تجعل الإقليم في حالة اضطراب دائم، حجم المشاعر المعادية للأميركيين والصهاينة والتي تتراكم بكثافة تحت طبقة من الاستبداد والقمع في المنطقة. قد تنجح إدارة بايدن في إطلاق شكلي مرة أخرى لمسار التسوية السياسية، ولكن ذلك قد يكون مجرد مقدمة لفشل أكبر لوعود المسار السياسي وبالتالي منطلقاً لمرحلة أعلى من النضال الفلسطيني.
يظهر شبه إجماع أميركي أن الحرب الحالية إنما تمثل فشلاً للمقاربة الأميركية السابقة للمنطقة التي قامت على تهميش القضية الفلسطينية وتضخيم الصراع مع إيران وحلفائها باعتباره التناقض الأساسي. اكتشفت واشنطن أن لدى قوى المقاومة تصورات للتهديد وقيماً استراتيجية تدفعها عند الضرورة إلى تجاوز معادلات الردع وأن كبح حافزية هذه القوى لا يتحقق بتوازن القوى، بل بتوازن المصالح وطبيعة الوضع القائم. كما تسمح بنية المحور وآلياته الداخلية لكل من فواعله بالاحتفاظ بهامش يحفظ قدرته على المبادرة عند الضرورة دون التقيّد بحسابات كل قوى المحور، ولكن مع إمكانية الاعتماد على درجة معقولة من المناصرة والمساندة. أمّا الأثمان التي قد تفرضها واشنطن على قوى المحور، فقد تكون حافزاً لمزيد من الرغبة بالمغامرة والمخاطرة أكثر مما ستكون رادعة ولا سيما أن معظم هذه القوى ليست دولاً.
تعاني المنظومة الأميركية من عدة أزمات تشجع خصومها على استنزافها ومشاغلتها ومنعها من الاستقرار، وصولاً إلى كسر إرادتها السياسية: تشعّب الأزمات وعوامل عدم الثقة والقلق داخل المنظومة نفسها، والضغوط الدولية على المنظومة بفعل تحولات القوة في النظام العالمي، والتقلبات الحادة في الداخل الأميركي حول موقع أميركا في العالم. إنها لحظة استثنائية في تاريخ العالم ومنطقتنا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وغزة ليست إلا حلقة في سلسلة اضطرابات مقبلة حول العالم وفي المنطقة. إنّ عامل الوقت في الصراع بين المنظومات حرج، وهناك نتائج تحتاج إليها واشنطن لأن تتحقق خلال سنوات وليس بعد عقود. وهنا اختار الصهاينة الطريق الأسوأ لواشنطن لتحقيق الهدف المفضّل لكليهما (أي هزيمة «حماس»)، طريق القوة العارية والعمياء والمنفلتة والطائشة، وهو ما سيفرض على استراتيجية واشنطن الحالية لأمنها القومي أثماناً ثقيلة.
تمثّل المساندة العسكرية والسياسية من منظومة المقاومة للشعب الفلسطيني تجربة رائدة في التكامل الأمني بوجه الكيان الصهيوني، وهي تعكس ما تتسم به هذه المنظومة من الكفاءة والقدرة والتصميم، على الرغم من الفوارق المادية الشاسعة مع المنظومة الأميركية. لطالما بُنيت ونمت وتطورت هذه المنظومة تحت النار وفي ظل خيارات بدت مستحيلة حدّ الجنون، ثم حققت المنجزات ففرضت وقائع ومعادلات وشكّلت مشروعاً وقضية وصاغت هوية وأفكاراً والتزامات. المرجح، في حال نجاح واشنطن في إطلاق المسار السياسي لحل الدولتين، أن يشتد بعد حرب غزة صراع المنظومات ولا سيما في مستويات ما دون الحرب المباشرة، ولذا يكمن التحدي في المسارعة إلى استخلاص العبر والدروس والابتكار والتكيف والمرونة والتركيب والتنويع في السياسات مع حفظ تكاملها في إدارة الصراع وكذلك الجرأة المحسوبة في صيانة بنى المحور الداخلية (فكل طرف يتغذى من مرض خصمه). كل ذلك لسد الثغرات واقتناص الفرص في إقليم ستتزايد اهتزازاته كما معظم الأقاليم المحيطة في المنطقة والتي ستتغذى من الاضطرابات السياسية في واشنطن وخيارات القوى الصاعدة والطامحة حول العالم. نجحت منظومة المقاومة حتى الآن في مجاراة الصراع المنظومي الأميركي وتطوّرت في ظله وبسببه، لكنها لا تزال تحت الاختبار والتحدّي الذي يستوجب المتانة المرنة لا مجرد الصلابة.
خاتمة
تمثّل مساهمة منظومة المقاومة، المساهمة المرنة والمتكاملة نسبياً والمتشكلة تدريجياً في مساندة الشعب الفلسطيني وفق منطلقات المصلحة المشتركة والهوية الجمعية والمصير الواحد والحقانية، تجربة إضافية لاكتشاف واختبار عمق صلاتنا وترابط وجودنا والنظر إلى هوياتنا ومصالحنا من منظار رحب ومركّب. يتجلّى المكسب لهذه المساندة في وجود كتل اجتماعية وازنة اختارت، رغم كونها لا تمتلك موارد مادية كافية ولا تعمل في ظروف مثالية، أن تضحي وتدفع أثماناً وتغامر في الدخول بحرب دامية للتأثير في موازين القوى لمصلحة المقاومة الفلسطينية. إنّ التغيير في الواقع العربي لا بد أن ينطلق من منجزات وتجارب تفتح على تصوّر مختلف للوضع القائم وتؤسس لحراكات فكرية وتنظيمية وسياسية تتجاوز البنى والخطابات التي حبست الأعمّ الأغلب من العرب عاجزين في منازلهم منذ 7 أكتوبر. في بيئة صراعية خطرة، ما يهمّ أكثر من نواياك وآمالك هو ما أنجزته في معادلات القوة عبر مراكمة مصادر القوة الذاتية (القدرة على استخراج الموارد اللازمة) والتموضع في شبكة من التحالفات الخارجية الفعالة.
من المفارقات الساخرة أن من يردّدون الخطاب الأميركي في لبنان يتهمون المقاومة بأنها تغامر بالبلد لأجل المصالح القومية الإيرانية، ومن يردّدون الخطاب الأميركي في إيران يتهمون النظام بأنه يبدّد مواردهم ويدخلهم في صراعات جانبية مكلفة عبر دعم قوى المقاومة لأجل أهدافه العقائدية. إنّ أميركا التي غرست في المجال العام العربي مفهوم «بلدك أولاً» لفصل مصائر شعوب المنطقة والاستفراد بدولها وقواها الحية، حضرت خلال ساعات من خلف المحيطات لخوض مغامرة الدفاع عن حليفها الإسرائيلي بحجة «المصالح المشتركة» وضرورات الأمن القومي الأميركي. في الحرب على غزة، لسنا مشاهدين ولا جمهوراً بل أهل الحرب بمنجزاتها ومآسيه. هذا دمنا في غزة ولحمنا وإنسانيتنا وأحلامنا ومصيرنا. أمّا من اختار أن يكون متفرّجاً فقد صار ضحية مؤجلة.
سيرياهوم نيوز1-الاخبار اللبنانية