آخر الأخبار
الرئيسية » تحت المجهر » الديمقراطية في طبعتها الأميركية تحت مقصلة النقد الصينية

الديمقراطية في طبعتها الأميركية تحت مقصلة النقد الصينية

بعد أن جفّ فائض القوة، تَكَشَّفت القيمة الأخلاقية على حقيقتها، واهتزّ مع هذا الجفاف كرسيّ القاضي الأميركي.

“أن تكون الحَكَم والقاضي الوحيد في العالم”، أو ما اصطُلح عليه سياسياً “القطب الواحد”، هو ما اعتادته الولايات المتحدة بعد أن حسمت الحرب الباردة لمصلحتها نهايات القرن الماضي. فهي التي أصدرت شهادات الالتزام بشأن القيم الديمقراطية، لتكون النتيجةُ احتلالَ العراق. وهي التي حدّدت معايير انحراف الآخرين عن “المسطرة الديمقراطية” التي صنعتها بنفسها، لتكون النتيجة تدمير أفغانستان. وهي التي علّقت على مستويات انتهاك حقوق الإنسان في العالم، لتكون النتيجة تفكيك يوغسلافيا. وهي التي فرضت العقوبات وهدّدت البنوك وشركات التأمين، لتكون النتيجة فرض الحصار على إيران وروسيا. 

انتزعت الولايات المتحدة هذه المكانة العالمية الموقتة عبر فائض القوة، وليس فائض القيمة الأخلاقية. واليوم، بعد أن جف فائض القوة، تَكَشّفت القيمة الأخلاقية على حقيقتها، واهتزّ مع هذا الجفاف كرسي القاضي الأميركي، فلقد جلست الولايات المتحدة إلى طاولة المفاوضات مع إيران بعد أن استهلكت جميع عقوباتها ضدها، وقرأت، في حادثة غريبة عليها، انتقادات صينية لانتهاكات حقوق الإنسان داخل حدود الولايات المتحدة نفسها! 

في محطة مميزة، وحادثة فريدة من نوعها منذ عقود، أصدرت وزارة الخارجية الصينية مؤخراً تقريراً شاملاً من 30 صفحة، يتناول حالة الديمقراطية في الولايات المتحدة، ويناقش مدى فعاليتها، وعيوبها، وإشكالياتها، والآثار المترتبة على محاولات فرضها على دول العالم خلال العقود الماضية. هي اللحظة التي تجلس فيها المنظومة الأميركية مجبَرة في كرسيّ الاعتراف، أو تحت مقصلة النقد العلمي الدقيق. إنها الزاوية التي لم تتوقع الولايات المتحدة النظر منها ولو لمرة واحدة.

صحيح أن توجيه النقد اللاذع إلى أدبيات القوة العظمى يمثّل حدثاً في ذاته، لكن التقرير نفسه أيضاً، في شموليته ولغته وأسلوب معالجته، يؤسس مرحلة خطاب جديدة مع الأميركي.

إعادة الاعتبار إلى لغة الخطاب السياسي والنقاش في الأساسيات 

يبدأ التقرير في نقاش سياسي فكري بشأن الديمقراطية كمبدأ ومعنى، ويقول إن لا وجود لديمقراطية كاملة، لا الأميركية ولا غيرها. كما أن ليس هنالك من نموذج واحد للديمقراطية يمكن تطبيقه في كل دول العالم.

لقد منعت حِقْبة الهيمنة الأميركية النقاش بشأن العموميات، وسمحت للنقاش فقط فيما يتعلق بتفاصيل العناوين الكبرى وحيثياتها التي تفرضها هي. لقد تعاملت بالمنطق الذي أورده هكسلي في رواية “عالم جديد شجاع” (غداً ينصرف الناس إلى أعمالهم التفصيلية وينسون الصورة الكلية). على سبيل المثال، من المقبول أن تناقش آليات تصحيح المسار الديمقراطي الطبعةَ الأميركية، لكن أن تناقش الطبعة نفسها. ومن المقبول أيضاً النقاش بشأن تصحيح المسار الاقتصادي من زاوية أسعار الصرف، والاحتياطي النقدي، لكن ليس من زاوية النموذج النيوليبرالي نفسه، واستبداله بالكامل. 

التقرير بدأ بعنوان “ما هي الديمقراطية؟”، وفي هذا تحدٍّ لحالة الاستخفاف الأميركي بقدرة الشعوب على استنباط أنماطها الخاصة في الحكم والعيش والتفاهم والتفكير، كما أنه تعبير عن كسر النمطية الأميركية في التقارير المماثلة، الفنية المختصرة والمملة، والتي لا تتباين كثيراً عن التقارير المحاسبية لكبريات الشركات العالمية.

تركز الصين في تقريرها على ما ركزت عليه فنزويلا سابقاً: الديمقراطية ليست فقط حق التصويت وصناديق الاقتراع، بل هي مشاركة الناس، فعلياً ودائماً، في صناعة القرار والتنفيذ. الديمقراطية ليست التودّد إلى الناخبين خلال الحملات الانتخابية وتجاهلهم بعد إعلان النتائج مباشرة.

يستعيد التقرير مصطلحات استُبعدت من مفردات الخطاب السياسي للعقود الثلاثة المنصرمة، فـ”الأوليغارشية” (حكم الأقلية) كمصطلح، مثّلت خلال الفترة الماضية حالة من الحنين إلى فيديل كاسترو وآرنستو غيفارا، ليس أكثر. أمّا طباعته اليوم على أوراق تقرير رسمي لدولة بحجم الصين، وللتعبير عن فشل الديمقراطية الأميركية، فذلك فعلاً خطوة مهمة في إعادة الاعتبار إلى الخطاب السياسي الرسمي، الدولي في الدرجة الأولى. 

“الفيتوقراطية” هو مصطلح آخر ورد في التقرير، في استعادة لوصف فوكويوما في ثمانينيات القرن الماضي تعبيراً عن استمرار الاستقطاب والصراع بين مراكز القوى في الولايات المتحدة، وأن كل مركز يمتلك حق الفيتو، فتتجمد الحياة السياسية وتفقد رشاقتها، وتسود معادلة “إذا كنت أنا لا أستطيع فأنت كذلك لن تتمكن”.

في نظرة بسيطة إلى تعابير الرؤساء في العالم، شرقاً وجنوباً، نلمح استقامة لغة الخطاب السياسي. فلاديمير بوتين يقول إن الرأسمالية استهلكت نفسها. وشي جين بينغ يستذكر حرب الأفيون وعينه على عالم جديد يتشكل. وإبراهيم رئيسي، عند وصوله إلى الرئاسة، يعلن منع الربط بين حياة الإيرانيين وإرادة الخارج. في الوقت الذي تنتعش خطابات هؤلاء الرؤساء مع فرادة اللغة السياسية والعودة إلى التاريخ بحرفية، وإعادة الاعتبار إلى اللغة الجادة، تغرق الخطابات السياسية الأوروبية والأميركية في عَتَمَة الشعبوية التي تكتسح تياراتها السياسية الانتخابات. 

يقول التقرير إن الممارسة الديمقراطية في الولايات المتحدة مشوشة (chaotic). وباستخدام مصطلح chaotic، يكون مقصد التقرير هو التعبير عن حالة “الشواش” في ذهن الجمهور الأميركي بشأن فهم الآلية الديمقراطية التي تفرضها مراكز القرار عليه. وتكون نتيجة ذلك هي الفوضى التي تكثفت في لحظة اقتحام الكابيتول، وفي تعنت المتنافسين في قبول نتائج الانتخابات، وفي تجميد حسابات شخصية في منصّات التواصل الاجتماعي. إنها الحالة التي وصفتها الرئيسة السابقة لجمعية علماء النفس في الولايات المتحدة، ساندرا شولمان، بوباء العنصرية في الديمقراطية الأميركية.

يرى التقرير أن هذا النموذج المُعيب من هذه الديمقراطية لم يؤذِ مواطنيه فقط، وإنما سبّب أيضاً الدمار لدول العالم التي أُجبرت على استيراده. عندما تسللت السلعة الأميركية (الديمقراطية) مع دخان الطائرات النفاثة، سببت الدمار كما حدث في العراق وأفغانستان. وعندما دخلت في التهديد، نسخت الحالة الصُّوَرية من الديمقراطية، كما حدث في الأردن والمغرب. وعندما دخلت عبر تصنيع “هستيريا الجموع”، سبّبت الاضطراب الداخلي كما حدث في جورجيا وقرغيزيا وأوكرانيا، فيما عرف بالثورات الملونة. 

إن النَّسخ أو الاستيراد القسري لنموذج الديمقراطية الأميركية، لم يكن فقط زراعة لجنين مشوه في بيئة لا تشبهه، إنما أيضاً زراعة لقنبلة موقوتة في نسيج المجتمعات التي استوردتها. وفق هذا المنطق، تسقط الدهشة عن ابتكارات المجتمعات لهيئاتها الديمقراطية التي تلائم حياتها: مجلس صيانة الدستور في إيران، أو الهيئات المحلية في فنزويلا، أو أي ابتكار آخر خارج المعادلة الصورية للحزبين المتنافسين في الولايات المتحدة.

يؤكد التقرير حق الشعوب في أن تُنتج نظام حكمها ومؤسساتها، وفق الآلية التي تلائم ثقافتها وتاريخها وموروثها وتركيبتها. ويمثّل ذلك التزاماً صينياً ضمنياً بشأن عدم فرض النموذج الصيني، السياسي أو الاقتصادي، على الشعوب الأخرى، وربما إن ذلك يمثل الفارق الجوهري بين الصين والولايات المتحدة. 

التفكيك العلمي للنموذج الأميركي 

يقدم التقرير مقاربات علمية وليس دعائية في تفكيك النموذج الديمقراطي الأميركي، فاعتمد على الإحصاءات والدراسات من داخل الولايات المتحدة وخارجها، ووثّق حججه بالأرقام والمعلومات.

اعتبر التقرير أن شعار أبراهام لينكولن “حكم الناس، من الناس ولأجل الناس” بات بعيداً جداً عن الحالة الواقعية للنظام السياسي في الولايات المتحدة، فلقد أصبحت الديمقراطية الأميركية واحداً من تعابير تحكّم المال في السياسة. 

صرّح السيناتور الجمهوري مارك حنا قبل 100 عام بأن “هناك أمرين مهمين في السياسة. الأول هو المال، والثاني لا أستطيع أن أتذكره”. لقد كلفت انتخابات الرئاسة والكونغرس في الولايات المتحدة، عام 2020م، 14 مليار دولار، ويشكّل ذلك ضعفي تكلفة انتخابات عام 2016م، وثلاثة أضعاف تكلفة انتخابات عام 2008م، الأمر الذي يعني أن الديمقراطية الأميركية تسير في اتجاه مزيد من الاعتماد على المال، وليس العكس.

91 % من أعضاء الكونغرس هم من الفئات الثرية أو المدعومة مالياً بقوة، الأمر الذي يعني أن الحقوق السياسية في الولايات المتحدة تتلاءم طردياً مع الملاءة المالية للأفراد والشركات، وأن المواطنين الأثرياء هم فقط من يستطيعون ممارسة حقوقهم السياسية، ويعني أيضاً أن “وول ستريت” هي التي تشرّع للكونغرس، وليس العكس.

تعتبر ثقافات الشرق في أعماقها أن استخدام المال في الانتخابات أمر معيب، لذلك تكون عمليات شراء الأصوات خلال انتخاباتها في الظل. لكن الولايات المتحدة ترى في ذلك ممارسة دستورية طبيعية. “ضع نقودك أينما يوجد صوتك”، هذا ما يقوله الأميركي قبيل إطلاق الحملات الانتخابية.

يشير التقرير إلى إشكالية في القانون الناظم للعملية الانتخابية في الولايات المتحدة، بحيث ينجح مَن يستحوذ على أغلبية أصوات الكلية الانتخابية، حتى لو خسر في حسابات “الصوت الشعبي”، تماماً كما حدث في حالة دونالد ترامب عام 2016م في مواجهة هيلاري كلينتون، عندما وصل إلى البيت الأبيض على الرغم من حصوله على 45 % من الأصوات الشعبية في مقابل 48 % لمصلحة هيلاري كلينتون.

يستند التقرير إلى إحصاءات مهمة في توصيف النموذج الأميركي للديمقراطية: بحسب معهد غالوب، فإنّ 19 % من الأميركيين فقط يثقون بالانتخابات الرئاسية. وبحسب “الأسوشييتد برس”، فإن 45 % يعتقدون أن الممارسة الديمقراطية في الولايات المتحدة لا تعمل بصورة جيدة. وبحسب مركز بيو للأبحاث، فإن 72 % من الأميركيين يعتقدون أن الولايات المتحدة ليست نموذجاً للديمقراطية. 

ليست الإحصاءات والدراسات المَسحية فقط تدلل على الفشل، وإنما أيضاً حصيلة خمسة قتلى و140 جريحاً في حادثة اقتحام الكابيتول للمرة الأولى منذ فتح البريطانيين النار على البيت الأبيض عام 1814م.

ليس من الممكن أن توصف ديمقراطية ما بأنها فعالة ونشطة. وفي الوقت نفسه، يعيش معها عنف الشرطة اليومي. بين عامي 1980م و2018م، مات أكثر من 30 ألف أميركي بسبب عنف الشرطة، يأخذ أصحاب البشرة السوداء حصتهم منها أكثر بثلاثة أضعاف من الأميركي الأبيض. ليس العنف الشرطي وحده يكشف زيف الديمقراطية الأميركية، وإنما الممارسة العنصرية أيضاً.

إن التراجيديا الأميركية تكمن في الجمع بين سلعة الديمقراطية وعدم الاكتراث لحياة الناس. عندما تجاوزت الوفيات في الولايات المتحدة، بسبب فيروس كورونا، 798 ألفاً، تساءل الأميركيون: ما الذي حصلنا عليه؟ أكان ذلك وهمَ حرية التعبير والمشاركة السياسية، أم تُركنا لأقدارنا المميتة في مواجهة الوباء، أم فقداننا وظائفنا وأماننا الاجتماعي؟

في دراسة صادرة عن جامعة أكسفورد، غطت 46 دولة وتناولت 92 ألف مستخدم للوسائط الرقمية في الاطلاع على الأخبار، كان المستخدمون في الولايات المتحدة الأقل ثقة بالأخبار التي تصل إليهم.

تقرير الخارجية الصينية مثّل لائحة اتهام بدأت من لغة الخطاب، وانتهت بالأرقام والإحصاءات. إنها، ببساطة، اللائحة التي لا تقوى الولايات المتحدة على ردها بالكذب مجدداً! 

(سيرياهوم نيوز-الميادين)

x

‎قد يُعجبك أيضاً

ليلة استهداف “تل أبيب”.. صدمة ودمار رهيب وتبادل لشظايا الصاروخ بين المستوطنين

حالة من الهلع والقلق بين المستوطنين الإسرائيليين بعد سقوط صاروخ من لبنان في مبنى في “تل أبيب” بشكل مباشر، حيث تحدّث المستوطنون عن الأضرار الناجمة ...