| جورج يونان
أتَّخِذُ الحالة السياسية في لبنان كمثال عن الحالة السياسية في العالم العربي، خصوصاً في هذا الوقت الذي كثُرَ الحديثُ عن الدستور والديموقراطية وعن الانتخابات النيابية التي انتهت أخيراً، والتي، على إثرها، أعلن كلُّ فريقٍ «انتصارَهُ الباهر». ونحنُ نعلمُ لماذا اختير هذا القانون الانتخابي، الذي لا يوجد له مثيلٌ في السوء في أيِّ مكانٍ آخر في العالم، ونعلمُ مدى التجاوزات غير القانونية والممارسات الغريبة التي اجتاحت الانتخابات والتي وقفت السلطة حيالها مكتوفة الأيدي عن قصدٍ أو عن غيرِ قصد ولكن حتماً عن تواطئ، في الوقت الذي تَبَجَّحَتْ فيه بتحقيق هذا «الاستحقاق» بحرِّيَّة، مانحةً لنفسها كلّ الفضل في إتمامه. ومن الأشياء الغريبة التي انطلت على الناس، بالإضافة إلى إشاعةٍ مضحكة سمُّوها «الحلفاء» في القائمة، وفيها المُفَضَّل، وفيها الرشوة، هو ذلك الجهل بالتاريخ والتعدي عليه. وفي هذه الحالة الكئيبة أحملُ سراجي باحثاً عن الديموقراطية التي يدَّعيها النظام السائد في لبنان، وأستعينُ بالتاريخ في تفسيره لعلَّني أفلح.
في البدءِ يجب الاعتراف بأنَّ الديموقراطية ليسَت نظاماً اخترعته «العبقرية الغربية»، فالغربُ المُتَبَجِّحُ بأسبقيته في الديموقراطية قد سبقَه شعبنا بآلاف السنين يومَ كان هذا الغرب يعيشُ في بربريَّتهِ.
في مقدمة كتابه «التشريعات البابلية» يقولُ الأكاديمي العراقي عبد الحكيم الذنون: «شهدت بلاد الرافدين قيام أنماطٍ فكرية ومقاييس وأسس وقواعد وضعيَّة، نُظِّمَتْ بموجبها علاقات الأفراد في المجتمع بعضهم ببعض فبرزت إلى حيِّز الوسط المُعاش قوانين وتشريعاتٌ وضعيَّة اعتُبِرَت بمثابة أساسٍ فكري وعملي لتسيير مجتمع الدولة العراقية القديمة». ولم تكن التشاريعُ الإغريقية والرومانية إلّا نسخاً عنها. وفي تقديمه لذلك الكتاب قال الدكتور ماجد علاء الدين: «قامَ ملك بابل حمورابي بجمعِ القوانين القديمة، وأعاد النظرَ فيها، وجعلها ملائمةً للواقع المعاش علاوةً على قيامه باستحداث نصوص قانونية ضَمَنَها في مسَلَّتِهِ الشهيرة» (التشريعات البابلية، ص: 5-9).
ديموقراطية قلقامش، في الملَمّات، كانت ديموقراطية «وقفة العز»، المنبعثة من إباء النفس الذي مصدرُه الإيمان بالعدالة، الذي بالتالي مصدرُهُ المعرفة والرؤية، وكلُّها فضائلَ عقلية عادلة. ولهذه الديموقراطيَة، شهداء كثيرون، كان منهم سقراط نفسه، وبولص الرسول وعلي بن أبي طالب، والحلّاج وحديثاً مشى على دربها يوسف العظمة بالسلاح الأبيض والمعاول، ومشى عليها أنطون سعاده.
ولم يكن أفلاطون في «الجمهورية» بدورهِ شغوفاً بالديموقراطية العددية التي حكمت بالموت على أستاذه سقراط، وإنَّما ارتكز في رؤيته على الفضيلة كطريقٍ إلى العدالة، و كما وجودها في الفرد وجودُها في المدينة ضروريٌّ. والفضائلُ في الفرد ثلاثة، أوَّلُها الحكمة وهي العقلُ الذي يَفتي بالحق تساعدهُ على ذلك فضيلتان: العفَّة التي وظيفتها ترويض الشهوانية عند الفرد، والشجاعة التي هي قوةٌ غضبيَّة تقاوم إغراء اللذة. وتناسقُ هذه الفضائل مع بعضها سمّاهُ العدالة وهي ما يتطَلَّبُ من الفرد إذا كان فضيلاً. والفضائلُ الثلاثة مصدرها العقل الذي فيه شيء من الألوهة. ما فعله «قلقامش» والآخرون كان فيه من الشجاعة والعفَّة ورؤيتهُ للعواقب التي ستحصل من عدم وقفة العز كان فيه حكمة لا يدركها الأشخاص العاديون، والتناسق بين هذه الفضائل كان العدالة بحدِّ ذاتها.
ولكن الحياة، برأي أفلاطون، تعقّدت مع الزمن وتعدَّت متطلباتها إلى أكثر من الضرورات المعيشية، كالرفاهية والترفيه والترف وهنا نشأت المدينة المتحضِّرة بوظائفها الثلاث: الإدارة والدفاع والإنتاج، كلُّ واحدٍ منها يتمتَّعُ بالفضائل الثلاث التي ذكرناها، الأولى تعتمدُ على الحكم، والثانية على الجند أو العسكر، والثالثة على الشعب. هذه الأشياء، قبل أن نتكلَّم عن غيرها، غير موجودة في النظام السياسي اللبناني السائد. فالإدارة فاسدة تشهد على ذلك النتائج الكارثية الناتجة من أدائها. والدفاع لم تؤمنَّ له الوسيلة الفعالة للدفاع عن الوطن، أمّا الإنتاج فيحتاج المرءُ سراجاً للبحث عنه.
الوظيفةُ قبل كلِّ شيءٍ هي مسؤوليَّة وبما أنَّ الوظائفَ متباينة فمن غير المعقول أن يتساوى، أمامها، الناسُ بالمسؤوليَّة (كتاب الفلسفة اليونانية. يوسف كرم. ص: 100) ناهيك عن أن نعرف بأن الوظائف هي تحت السلطة العددية ولا تُوزعُ بحسب الكفاءات.
وفي حكمته أصَرَّ أفلاطون بأن الإدارة هي للحاكم وأصَرَّ أن يكون هذا فيلسوفاً وليس غيره، وتفسير ذلك أنَّ في المدينة المتحضِّرة يجبُ أن تتوافر في الحاكم خمسة خصائصَ عقلية:
1) دراسة الأرضية،
3) الابتكار أو المشروع،
4) وظيفة ابتكاره هي خدمة المجتمع، مهما كانت ماهيتُهُ،
5) قدرة فكرية إقناعيَّة قادرة على تعبئة فريق عمل (Team) لتحقيق الابتكار-المشروع.
وأدرك أفلاطون بأنَّهُ تناسى القضاء فجاء بمنظومة القوانين التي سيأتي ذكرها لاحقاً. أمَّا الإنتاج، وإن شدَّدَ في فلسفته على دور العقل فقد أبقاه على مفهومه الغلالي وليس الفكري منه كما سنرى. هذه كانت ديموقراطية أفلاطون العقلية.
القيادة الحاكمة: لكي تكون عادلة يجب أن تكون فاضلة؛ أي حكيمة وعفيفة وشجاعة- مقدامة قادرة على التركيز، وذات رؤية، ورغبة في الاستكشاف، ومفعمة بالإرادة والقدرة في اندفاعها نحو الأفضل ومُصِرَّة على هذا الاتجاه من دون خوفٍ، وبثقة في النجاح تجعلها غير آبهة لأقاويل المهوِّلين بالفشل وبعواقبه. وأن تكون عفيفة أي بعيدة من الفساد وشهواته. الحكمة والعفاف والشجاعة، أيَّةُ صفةٍ من هذه الصفات تتمتع به دولة الحاكم في لبنان خلال ما يُقارب الثمانين سنة الماضية؟
نشأت المدينة المتحضِّرة بوظائفها الثلاث: الإدارة والدفاع والإنتاج، كلُّ واحدٍ منها يتمتَّعُ بالفضائل الثلاث وهي غير موجودة في النظام السياسي اللبناني السائد
صاحبُ الرؤية تجاه الشيء «إذا نظر إليه يراه لا يستقر على حال وإنما يتغير مظهرُهُ وإن بقي جوهرُهُ ثابتاً» (أدونيس، الثابت والمتحول، ص:168). وفي عملية الممارسة يبقى أداءُهُ محكوماً بالتقويمِ في نتائجه النهائية، وتقومُ به مؤسسات الشعب الأخرى المهتمة بالمراقبة وبشيءٍ من الارتياب الإيجابي، فمحاولة تَجَنُّبِ التقويم وتصوير الأمور بأنها كاملة، قد تؤدي إلى التسليم بأداءٍ في العمل لا يصل إلى أي مستوى من الجودة. لذلك، النخبة الفكرية كمؤسسة شعبية لها دورٌ في ذلك، وهي بالحقيقة السلطة الرابعة التي لا ذكر لها في الدستور. والارتياب هو قلقٌ إيجابي عند قادة الفكر الغيورين على المصلحة العامة، يجعلهم غير قانعين بكل أداء راهن لا يحمل في حناياه أية إرادة في التغيير والتقدم. هذه النخبةُ الفكرية المرتابة ارتياباً إيجابياً لا تؤمن حتى بالسقف المحدد (Bench Mark) فهي دائماً في سعي متواصل نحو الأفضل في الإنتاج، أي إنتاج. لكن هذا السعي يجبُ أن يُشَرَّع في الدستور ضمن الثنائية: الحرِّيَّة والمسؤوليَّة، ليأخذ مجراهُ الديموقراطي، الذي يحترم إرادة الشعب، المنبثقة من الحوار العقلي بين الاتجاهات المختلفة. وللارتياب سببُهُ، فالحاكم قد تكونُ له طموحاتٌ في سعيه إلى السلطة، وإن لم يفلح قد يستعينُ بسلطة الجندي للوصولِ إلى طموحاته ومطامعهِ، والعكسُ صحيح أيضاً فشهوة الحارسِ إلى السلطة قد تدفَعُه إلى الاستيلاء على الحكم. وقد ظَهَرَ هذا جلياً في ممارسات معظمِ الحكام في المنطقة، وفي تصرُّفات بعضِ القيادات الحزبية. وأين للنظام السياسي في لبنان من الفضائل الثلاث وبالتالي من العدالة، ومن الرؤية أو الاستعانة بالنخبة الفكرية في عملية التقييم، فهو دائماً يستعينُ ويستنجِدُ ويحتمي بالسلطة الدُنيويَّة أو الطائفية.
أمّا الشعب فوظيفتُهُ الإنتاج بأنواعه غلالاً وفكراً. وثقافة الإنتاج تتطِلَّبُ من القائد-الحاكم مهمة التوعية ثُمَّ التعبئة مستعيناً بفضائل العدالة. والإنتاج يتطلَّبُ تنظيماً وتناسقاً بحسب الكفاءات وهنا يكون دورُ ما يُسَمّى بـ«الديموقراطية التعبيرية» أي الإنتاجيَّة. وهنا تظهرُ أهمية التوعية والتعبئة وهما أمثل وسيلتين لشق الطريق نحو الأفضل، التوعية تكونُ بإشاعة المعرفة، وهي إن تزاوجت مع مهارة في التواصل تصبح حكمة.
والمؤهل للتوعية وللتعبئة هم أولئك الذين يملكون إرادة التغيير والرؤية. ومن الضرورة إفساح المجال لقدراتهم القيادية في هذا المسعى، فهم القادرون على وضع المعايير اللازمة، كأسلوب في العمل والأداء فيه، وهم الذين عندهم الإمكانيات الفكرية لإيجاد اللغة المناسبة لشرح هذه الرسالة للمترددين والمعارضين العاملين في المؤسسة. والمنطق كفيلٌ بتعبئة هؤلاء في مهمة البحث عن الجودة.
إلا أن هفوة أفلاطون كانت تجاهُلَهُ للقضاء، وإخضاعه الوظائف كلَّها للحاكم الفرد، الذي يحتكرُ كلَّ الفضائل، معتبراً أن العدالةَ هي حكماً فضيلة الفيلسوف. لكنه اكتشفَ بأنَّ «الناسَ لا يصدّقون بأنَّ إنساناً مثلهم يستطيع أن يضطلع بالسلطة المطلقة من دون أن تنتابه نشوة القوة فيفقد كلَّ عقل (فضيلة) وكلَّ صفة إنسانيَّة»، وبأنَّ كلَّ ما يتكوَّن هو عرضةٌ للفساد، وهكذا ففي تشديده على فضائل الفرد اعتبر الحكومة الملكية (موناركية) حكومةً فاضلة، وكذلك حكومة الجماعة (الأرستقراطية)، ولكنَّ الوراثة قد تأتي بحكامٍ غير أكفاء، فيضطرب النظام، ولكن الحكام والجنود، بوجود السلطة في أيديهم، يتغلبون فيستغلون الغلبة لمنفعتهم الذاتية، فيقتسمون مال الشعب في ما بينهم ويغتنون، وهذا ما يسمى بالطيموقراطية أو حكومة الطمَّاعين، التي تؤدي إلى تفكك وحدة المجتمع فينقسم إلى فئتين: فئة الفقراء وهي الشعب وفئة الأغنياء المؤلّفة من الحكام، وهذه هي الأوليركية أو حكومة الأغنياء. اليوم، النظام الطيموقراطي والأوليركي يتحكَّمان بالشعب الفقير في لبنان وبعض البلدان العربية. حاول إفلاطون التعويضَ عن نسيانه للقضاء بكتابته «القوانين» الذي هو آخر ما كتبه وكان موضوعه التشريع لتحقيق المثل الأعلى للمدينة (الفلسفة اليونانية. يوسف كرم. ص: 100-111). وقد أعطى أفلاطون القوانين صفةً أخلاقية، لأنَّ القانون، برأيهِ، هو من صنع العقل، ونتيجة المعرفة، فالإنسانُ بطبيعته يُقْنَعُ قبل أن يؤمَرُ بقانون، واللهُ لا يحكمنا مباشرةً، بل بواسطة العقل الذي هو هبتُهُ لنا، وبالتالي فالقوانين يُقرِّرُها العقلُ وتُحاكي العناية الإلهية. وكان أفلاطون يُؤمنُ بأن العقل فيه شيءٌ من الألوهة. وقد طالب بالجزاءات على مخالِفي القوانين. الكلمة العاميَّة الشائعة في المجتمع اللبناني اليوم هي «حربوق» أي أنَّه حاذقٌ في التحايل على القانون، هذا ما يعمله السياسي اللبناني للوصول إلى مآربه، وهذا ما يعمله المواطن اللبناني لحماية نفسه حين يكتشفُ بأنَّ القانون لا يُنصفُهُ ولا يحميه. الاثنان يشتركان في المخالفة عملاً بالمقولة العاميَّة «كل مين إيدو إلو». ومقال الأستاذ أسعد أبو خليل في «الأخبار»، 18 حزيران 2022، هو أكبرُ تعبيرٍ عن حالة النخبة الثقافيَّة اليوم.
ما هي هذه السلطة الرابعة؟ الصحافة منها ولكن لا تقتصرُ عليها فالفنُّ بأنواعه (أدبٌ شعرٌ مسرحٌ سينمائيٌّ رسمٌ نحتٌ غناءٌ وموسيقى إلخ…) ينضَمُّ إلى هذه السلطة
إلّا أن الدولة وحكّامها ما زالوا يتجاهلون الفن، وما عدا الوزارات الهزيلة، وزارة الثقافة ووزارة التربية والفنون الجميلة في «ثقافتهما» الخشبية، فما زالوا يعتبرون دورَهُ محصوراً بالترفيه ولا يعترفون بقدرته الفكرية في توجيه المجتمع، فليس هناك ميزانية في الدولة لدعم المسيرة الفنِّية، والفنُّ بفروعه ما زال يعتمدُ على الموهبة والمجهود الفردي، وأكبرُ دليل على ذلك هو ما عانته السيدة نضال الأشقر التي حَمَلَت هموم المسرح على كتفيها وعلى «مسرحِ المدينة»، لعدة عقودٍ مليئة بالصعاب، من دون مساهمة الدولة، وهي تُدرِكُ والنخبة الفكرية كذلك بأنَّه ليس هناك مجتمعٌ حضاريٌّ بلا مسرح. في كتابها «الحركة المسرحيَّة في لبنان» تقولُ السيِّدة خالدة السعيد بأنَّ المسرحَ: «مشروعٌ حضاريٌّ طموحٌ» وبأنَّهُ «كان باستمرارٍ في صميمِ حركة الأفكار، منذ النهضة حتى الحداثة، وإن أغفَلَت الدراسات حول المرحلتين دورَهُ الأساسي. إنَّ شخصية المسرحي النهضوي هي شخصية المُصلِحِ، والمسرحي الحديث هو المثَقَّف، بمعنى المفكِّر الجزء المسؤول والمُسَيَّس… ولقد ألَحَّت المسرحيات على معانٍ وأبعادٍ جديدة في شخصيات الأبطال ومرامي الأفعال، فكانت تُبرِزُ الإنساني الاجتماعي والقومي لدى شخصياتٍ ذات هويَّة دينيَّة بحتة، حتى ليتقدَّمَ عندها هذا الإنساني الاجتماعي ويُغَيِّب الديني» (ص: 14).
الصحافة في مهمتها الإعلامية كما هي اليوم لم يكن لها وجودٌ في عهدِ قلقامش وأفلاطون، واقتصرت عند النخبة الفكرية على الشعر والملاحم للتعبير عن أفكارها، وقد تَشَعَّبَت اليوم لتشمل الكلمة والصورة وتمتدُّ على وسائل التواصل الاجتماعي. صحيح أن حرية الرأي والتعبير يجب أن تكونَ مصونة، إلا أنَّ الحرية بالإضافة إلى كونها حقاً فهي أيضاً مسؤولية، ووجودها في الدستور معدوم، هي قسمٌ من النخبة الفكرية، وفيها الكثيرُ من المبدعين والمبدعات، والإعلامُ مع الفنِّ يجب أن يُشَرَّعا في الدستور في مؤسَّسَةٍ مستقلة، ليس لها انتماءٌ إلى الخارج، وانتماؤها في الداخل هو للفكر وللحقيقة تجاه الشعبِ والرأي العام وليسَ إلى سلطة الحاكم أو المحكوم خارجيّاً. إلّا أنَّ علاقتَها الآن بالحكم هي إمّا العداء الكامل أو الخضوع الكامل، وعلاقتها بالشعب انحصرت على الإثارة والتشويق، وفي حاجتها إلى المال خضعت لابتزازات الخارج وإغراءاته: «من حقّنا وحقّكم أن نتساءل: كيف أن النخب الثقافيّة (الكتّاب والإعلاميّون والفنّانون والمُطبّلون ومحترفو الجلوس—القرفصاء—في الحاشية) ناصروا فلسطين على مرّ العقود، عندما ناصرها طغاة الخليج، ثم هم عادوا فلسطين عندما جاهر طغاة الخليج بالتطبيع والتحالف مع إسرائيل؟» (راجع مقال الأستاذ أسعد أبو خليل المذكور سابقاً)، ويتابع الأستاذ أبو خليل حديثَهُ عن دعاة التطبيع في الخليج فيقول: «وهم—بسبب النفوذ الإخواني وجنوحهم للنظريّات الدينيّة في تحليل وفهم الصراع مع إسرائيل—ضخّوا ثقافة معادية لليهوديّة كدين ونفّروا الرأي العام العالمي من تأييد القضيّة». تشريعُ هذه المؤسسة في الدستور كمؤسسةٍ مستَقِلَّةٍ ضرورة وطنية مُلِحّة للحفاظ على كينونتها ولدعمها في استقلاليتها كمؤسسة وطنيّة.
وأفضلُ وصفٍ لهذه الظاهرة هو ما كتبهُ الشاعر أدونيس في كتابه «ها أنت أيها الوقت»:
«وصلت الثقافة في اصطدامها بالسياسة إلى نقطةٍ لم يعد ممكناً معها غير الانفجار. ووراء هذا كله، كانت تكمنُ مكبوتاتٌ ما، وكان الحجابُ الذي يغطيها عنيفَ النسجِ، فجاء الكشفُ عنه – جاء تمزيقُ الحجابِ عنيفاً هو كذلك» (ص:11).
«من أسبابِ هذا العنفِ تغليبُ السياسي على الثقافي، وللسياسي صلة بالدين أشَدُّ من صلة الثقافي به. ليس لما يربط بينهما على مستوى الحياة المؤسسية وحسب، بل كذلك لما يربط بينهما على مستوى العلاقات الاجتماعية والقيم والقرارات الحاسمة…» والـ«عنفُ السياسي تَجَلّى في الممارسة العملية، كأنه عنفٌ ديني. ومن هنا بَدَت حرب السياسات كأنها حربٌ الأديان» (ص:11-12).
والكلُّ وقع في الشرك ذاته بشكلٍ أو بآخر. والسياسي شَوَّهَ الهوية وحوَّلها «إلى مجرَّدِ أداة أو آلة… وتحوَّلَ السياسيُّ إلى خوفٍ شاملٍ يقودُ الجميعَ. والخوفُ مهما كان ذكياً ومُدَجَّجاً لا يقدرُ أن يصنعَ أكثَرَ من ملجأٍ، هكذا صار الوطنُ في مستوى الملجأِ. إنَّ وطناً في مستوى الملجأ ليسَ إلّا اسماً آخر للقبرِ.. لم تُفْسِدُ هيمنةُ السياسيِّ هاجِسَ التمايزِ وحسب، وإنما أفسدَتْ التمايزَ ذاتَهُ، وطمست الثقافيَّ، لا في جانبه الحواري وحده، وإنَّما في جانبه الإبداعي كذلك: أي أنها قتلت من جهة معقولية الحوار الثقافي، التي يمكن أن تعرض في إطارها جميع الأفكار المتمايزة…» (ص:13).
إنَّ الاشتراك في الفكر بين الفن، بأنواعه، وبين الصحافة باختصاصاتها يُحَتّمُ على جميعها الاتحاد لتشكيل نخبة فكريّة قويّة وذات سلطة، هذه النخبة الفكرية فيها العقلُ والرؤية والفضيلة والعدل، التي دعا إليها الفلاسفة والأنبياء، ولها ارتباطٌ وثيقٌ بالشعب، وتتمتَّعُ بإمكاناتٍ قيادية، وهي بتوحيدها لا تُشَكّلُ قوةً سياسية واجتماعية فحسب، وإنما تؤمِّنُ قوةً إنتاجية – اقتصادية مستقلة وغير خاضعة لأيّ مُغريات داخليَّة أو خارجيَّة، وقادرة على دعمِ حركة الإبداع، وجديرة بدعمٍ من الإمكانات المتوَفِّرة في الأمَّة، أمَّا أن تظلَّ هذه المكونات معتمدةً على الموهبة والمجهود الفردي فسيُستفرَدُ الواحدُ منها بعد الآخر. الشجرة الوحيدةُ في العاصفة تَتَكَسَّرُ أغصانُها وتُقَلَّعُ جذورُها، أمّا مجموعة أشجار البستان أو الغابة فهي تحمي بعضها البعض في وجهِ العاصفة. إنّها سُنَّةُ الطبيعة، وللطبيعة دروسٌ في الحياة شاهِدُها التجربةُ الروحية للإنسان التي ارتبطت بدورة الفصول عبرَ آلاف السنين.