المنذر الدمني
أثار فيلم «الست» ( 155 دقيقة- تأليف أحمد مراد- إخراج مروان حامد) الذي طرح أخيراً في الصالات اللبنانية، موجة واسعة من الجدل منذ الإعلان عن التريلر الرسمي. البداية كانت مع اختيار منى زكي لتجسيد شخصية أم كلثوم، إذ رأى كثيرون أنها لا تشبه «الست».
غير أن الجدل الأكبر ارتبط بكاتب الفيلم أحمد مراد، عقب تصريحه بأن العمل على فيلم عن أم كلثوم قد يكون أصعب من صناعة فيلم عن الرسول. تصريح اعتبره البعض مسيئاً، وذهب آخرون إلى المطالبة بمحاكمته بتهمة ازدراء الأديان، ما أعاد إلى الواجهة النقاش حول هذا القانون وحدود تأويله، واتساعه الذي بات يشكّل سيفاً مصلتاً على رقاب المبدعين.
وسط هذه الضجة، طُرح الفيلم في الصالات ليطرح السؤال الأهم: كيف تناول «الست» حياة أم كلثوم؟ وكيف عبّر عنها سينمائياً؟ وماذا يضيف إلى صورتها المتداولة، وما خصوصيته في مقاربة واحدة من أكثر الشخصيات تأثيراً في الوجدان العربي؟
صراع الحب والمجد
يتناول الفيلم سيرة أم كلثوم (1898–1975)، ويفتتح بمشهد آسر في مسرح «الأولمبي» في باريس عام 1967، عقب حرب الأيام الستة بين مصر وسوريا من جهة وإسرائيل من جهة أخرى. تأتي هذه الحفلة بوصفها لحظة مفصلية، لا في مسيرة أم كلثوم الفنية فقط، بل في دلالتها السياسية أيضاً، بما تعكسه من عالميتها والدور السياسي المباشر الذي اضطلعت به بعد الهزيمة، وما تركته من أثر في سياق الصراع آنذاك.
من هذه اللحظة المشحونة، يعود الفيلم إلى البدايات الأولى لأم كلثوم، أو «سومة» كما كان يناديها والدها الشيخ إبراهيم، لنلج عالمها منذ نشأتها في الصعيد، حين كانت تغني قصائد مدح النبي في الأفراح، وصولاً إلى تحولها إلى «كوكب الشرق» و«الست». غير أنّ السرد لا يتخذ شكل السيرة التاريخية التقليدية، بل يعتمد بنية غير خطّية، تتنقل بين الأزمنة، وتعيد تشكيل لحظات مفصلية من حياتها عبر مشاهد أقرب إلى التخيّل الشعري لأحداث حقيقية وردت في مذكراتها. نسمع الوثيقة أو نراها، ثم ننتقل إلى مشهد يسبقها أو يليها، ليبني الفيلم سرداً يتأرجح بين الواقع ومساحاته التخيلية، بين التوثيق والسحر.
يبدأ الفيلم بحفلة باريس وينتهي بها، مطلقاً سؤالاً جوهرياً: كيف صُنعت هذه الصورة الأيقونية العالمية التي نراها في المشهد الافتتاحي؟ غير أنّ السرد سرعان ما ينحرف نحو مسار آخر، ينطلق من معرفة المتلقي المسبقة بأنّ أم كلثوم ستصبح «الست». لذلك، لا يسعى الفيلم إلى تقديم تطور تصاعدي منطقي، بقدر ما يركز على خلق صورة خاصة لأم كلثوم، تمنح الفيلم قيمته على مستوى المعنى والجماليات السينمائية. لم يعد السؤال: كيف أصبحت أم كلثوم ما هي عليه؟ بل: من هي أم كلثوم؟ وما رحلتها الداخلية والخاصة؟
نرى امرأة قوية، واعية بأنها ستصبح أسطورة، مدركةً لسحرها وصوتها وحضورها. نتابع صراعها مع الوحدة، وبحثها الدائم عن المجد والحب، وهما رغبتان تتصادمان باستمرار في رحلتها. هذا الصراع يشكل جوهر الشخصية، وتتشعب منه باقي الصراعات. نرى علاقاتها بالشاعر أحمد رامي، والملحن القصبجي، والموسيقي محمود الشريف، ثم زواجها من حسن الحفناوي. يختار الفيلم بعض الأسماء ويتجاوز أخرى، لكن هذه الاختيارات تخدم بناء خط الصراع الأساسي، وتعبّر عن تطور الشخصية ونضجها العاطفي، وهي تتأرجح بين السعي إلى المجد الذي يعيقه الحب والزواج، وبين الخوف من الوحدة وما تخلقه من ألم وتعاسة.
إن التغاضي المتعمّد عن شمولية التوثيق التاريخي يورّط المتلقي في الرحلة العاطفية التي تعيشها الشخصية، ويفتح له باب التعرف إلى جانب حميمي وجمالي من «الست»، قد يكون أكثر أهميةً من معرفة الحقيقة بكل تفاصيلها. فالفيلم، في النهاية، عمل روائي يعلن منذ بدايته أنّه «مستوحى من أحداث حقيقية»، وليس فيلماً وثائقياً. بذلك، لا تعود الحقيقة التاريخية هي الغاية، بل المخيال السينمائي الذي تُصاغ من خلاله تلك الصورة الأيقونية لامرأة غنّت للحب أكثر من أي شيء آخر.
امرأة في فضاء ذكوري
لا تقتصر مقاربة الفيلم لشخصية أم كلثوم على بعدها العاطفي فقط، بل تتجاوزه إلى تفكيك صراعها الذاتي بوصفه انعكاساً مباشراً لصراعها الخارجي في رحلتها نحو تحقيق ذاتها. يتجلى هذا الصراع أساساً في مواجهتها المستمرة لفضاء ذكوري أحاط بها منذ طفولتها وحتى ذروة مجدها.
يبدأ هذا الصراع من علاقتها بوالدها، الذي نراه يضربها في حادثة كانت تدافع فيها عن نفسها أمام رجل مخمور، في لحظة كاشفة عن طبيعة السلطة الأبوية وحدودها العنيفة. ثم يمتد الصراع إلى علاقاتها العاطفية مع الرجال الذين أحبتهم، وحاولوا امتلاكها بصيغ مختلفة، سواء عبر الحب أو الحماية أو الوصاية، لكنها قاومت ذلك الامتلاك ورفضته، إلى أن تصل إلى مرحلة من النضج العاطفي تختار فيها الزواج من حسن الحفناوي، لا بوصفه تنازلاً، بل بوصفه شراكة لا تهدّد استقلالها.
يرصد الفيلم كيفية تشكّل وعي أم كلثوم بقوتها داخل هذا الفضاء الذكوري، وكيفية تغلبها التدريجي عليه. يبدأ ذلك بتحرّرها من سلطة الأب، التي تخبو كلما ازداد لمعانها الفني، لنكون أمام علاقة معقّدة بين الأب والابنة، علاقة كان ممكناً أن تتحول إلى علاقة مدمّرة لا ينجو منها الطرفان. في حالة «الست»، ينتهي هذا الصراع بانكسار سلطة الأب، لا بانكسارها هي.
بعد ذلك، نراها وهي تدخل أي فضاء ذكوري بكامل سحرها وقوتها، فتفرض حضورها، وتعيد ترتيب موازين القوة داخله. ترفض أي علاقة قد تعرقل مسيرتها، ويتحوّل انتصارها المتكرر على هذا الفضاء من موقف نفسي ورمزي إلى ممارسة عملية ومؤسساتية؛ إذ تؤسس أول نقابة للموسيقيين وتتولى رئاستها، ثم تنخرط في الكتابة الصحافية، وصولاً إلى تكريس صورة أيقونية تُلقي بظلها على كل من يقترب منها. تبلغ هذه الصورة ذروتها بعد حرب 1967، حين تقود حملة واسعة لجمع التبرعات لدعم المجهود الحربي، فتتحول من فنانة ذات حضور طاغٍ إلى رمز وطني جامع. في هذا البُعد، يتجلّى عمق الشخصية وتعدد مستويات صراعاتها، بين الذاتي والعام، في خط درامي متماسك يمزج بينهما بسلاسة وبشاعرية عالية.
ما بين الملكية والجمهورية
إلى جانب ثنائية الذاتي والعام، يفرض الخط السياسي نفسه بوصفه أحد المسارات الأساسية في الفيلم. يبدأ هذا المسار منذ المشهد الافتتاحي، عبر لحظة تاريخية شديدة الحساسية سياسياً وذات صدى عالمي، هي حفلة أم كلثوم في باريس، حدث يتجاوز كونه إنجازاً فنياً إلى كونه فعلاً سياسياً بامتياز، ارتبط بسياق ما بعد حرب 1967، وأسهم في تكريس صورتها العامة والشخصية على حد سواء.
ضمن هذا الإطار، يمكن تتبع علاقة أم كلثوم بالأنظمة السياسية المتعاقبة، والتحولات الكبرى التي شكّلت ملامح مصر الحديثة، وهو بلا شك الخط الأكثر جدلاً في الفيلم، لا سيما في محاولته الكشف عن طبيعة علاقتها بكل من النظام الملكي ثم الجمهوري. إلا أنّ خصوصية السرد السينمائي تجعل هذه التحولات السياسية تنعكس أساساً من خلال شخصية أم كلثوم ذاتها، وما تعيشه من تحولات داخلية تتوازى مع تحولات البلاد. خيار يعزز تركيز الفيلم على الرحلة الذاتية للشخصية، ويمنح الطرح قدراً من التماسك من دون الانزلاق إلى تفاصيل تاريخية قد تشتت الخط الدرامي.
نراها بعدما بلغت ذروة شهرتها، بوصفها قيمة فنية تسعى مختلف السلطات إلى استقطابها وضمها تحت جناحها. في هذه المرحلة، تحقق قدراً من الأمان داخل فضاء الفن، قبل أن تبدأ تماسها المباشر مع السياسة، عبر تأسيس مجلة والانخراط في الكتابة في الشأن العام. ثم تدخل إلى الفضاء الملكي عبر علاقة حب تجمعها بخال الملك فاروق، شريف صبري باشا (كريم عبد العزيز). علاقة لا تكتمل بسبب رفض الملكة الأم (نيلي كريم). تمثل هذه القطيعة نقطة تحول حادة في حياتها، إذ تنتقل من حالة الأمان إلى القلق، ويتزامن ذلك مع سقوط الملكية، وما يرافقه من تصنيفها بوصفها أحد أصوات العهد البائد.
يدفعها هذا التحول إلى التوقف عن الغناء لمدة، والدخول في العزلة والخوف، قبل أن يعيدها الرئيس جمال عبد الناصر إلى المسرح، فتغني وتستعيد مكانتها. مع هذه العودة، تنتقل أم كلثوم من القلق إلى الأمان مرة أخرى، لكن هذه المرة في ظل الجمهورية والعصر الجديد الذي «جلب المستقبل لمصر». يقدمها الفيلم هنا بوصفها قيمة فنية وسياسية استثنائية، قادرة على تجاوز الاصطفافات السياسية، واختراق فضاء الحكم الجديد، كما اخترقت من قبل الفضاء الذكوري. إنها تقف، في تصور الفيلم، فوق التحولات، وتعود دائماً إلى موقعها المستحق.
تتوج هذه الصورة بإيمانها العميق بالعصر الجديد، الذي يدفعها بعد الحرب إلى تجاوز ذاتها وصحتها في سبيل بلدها، سواء عبر حملة التبرعات للمجهود الحربي أو عبر حفلتها في باريس، التي تراها مهمة وطنية قبل أي اعتبار شخصي.
غير أن هذا الطرح يفتح باباً إشكالياً لا يمكن تجاهله، يتعلق بطريقة تصوير الجمهورية ومحاولة تبرئتها، ضمنياً، من علاقتها بالملكية، من دون الغوص العميق في علاقة أم كلثوم بالسلطة والطبقة الحاكمة. هنا يبرز السؤال الجوهري: هل أسهمت السلطة في تكريس أم كلثوم، أم أن أم كلثوم كرّست نفسها بوصفها قيمة فنية استثنائية جعلت أي سلطة تتهافت لكسبها؟
ورغم أن الفيلم يركز على البعد الذاتي والخاص لشخصية أم كلثوم، فإن هذا السؤال يظل مشروعاً، خصوصاً في ظل الإطار العام الذي تُروى الحكاية من خلاله، أي الحرب، والطريقة التي يُختتم بها مسار الشخصية حين تتجاوز ذاتها ورغباتها الخاصة لمصلحة العام. وربما كان ممكناً أن يُقدَّم هذا التحول بوصفه امتداداً طبيعياً لرغبتها الذاتية، لا بوصفه تعارضاً معها، بما يحقق قدراً أكبر من الاتساق والحساسية مع مقاربة الفيلم للشخصية وسرده العام.
الأيقنة كخيار إخراجي
يعتمد الفيلم، كما أسلفنا، على صناعة أيقونة سينمائية، في محاولة لفك شيفرة أيقونة «كوكب الشرق». مقاربة سينمائية تسعى إلى استكشاف سحر أم كلثوم لا عبر تتبع مسيرتها التاريخية فحسب، بل عبر الغوص في شخصيتها كامرأة تبحث عن الحب وإثبات الذات، وتعشق الغناء بوصفه جوهر وجودها. امرأة تخترق الفضاءات وتعيد امتلاكها، حتى في لحظة موتها.
على مستوى السرد والسيناريو، عزّز الإخراج هذا التوجّه نحو الأيقنة بوعي واضح، مستنداً إلى لغة بصرية قائمة على اللقطات القريبة والبطيئة، التي تخلق إحساساً بالجلال والهيبة، وتموضع الشخصية داخل الفضاءات بطريقة تجعلها مركز الثقل فيها. وتُعد مشاهد الغناء الأبرز في هذا السياق، إذ ينجح الفيلم في نقل حالة الجلال التي كانت تصيب الجمهور، ليس بوصفها فعل إعجاب فقط، بل بوصفها تجربة شبه طقسية.
يلعب الفضاء السمعي دوراً حاسماً في ترسيخ هذه الأيقنة، عبر موسيقى هشام نزيه التي جاءت متسقة وحساسة، في مهمة لم تكن سهلة في فيلم يتناول أعظم مغنية في القرن الماضي. اعتمد نزيه على أغاني أم كلثوم، لكنه لم يكتفِ بإعادة توظيفها، بل عزّز الرحلة الداخلية للشخصية من خلالها. يجسد الفيلم، عبر الصوت، الوصف الذي قدمته أم كلثوم عن تخيلها المسرح فارغاً أثناء الغناء، وكأنها تدخل حلماً خاصاً، قبل أن يعيدها تصفيق الجمهور إلى الواقع. بذلك، يتحول الفضاء السمعي إلى تعبير ملموس عن التأرجح بين الداخل والخارج، بين العزلة والجلال الجماعي.
يركز السرد العاطفي للفيلم على جمل بعينها مثل «يا حبيبي» و«الليل وسماه» من أغنية «ألف ليلة وليلة»، لتبدو حياة الشخصية نفسها كأنها إحدى حكايات الحب التي غنّت عنها. يخلق هذا الاختيار طريقة جديدة لتلقي أغاني أم كلثوم، أقرب إلى تجربة جمالية داخلية، كأن المتلقي يدخل إلى قلب الأغنية، وإلى داخل الشخصية بكل ما تحمله من صدى وتأمل وحب ومجد.
ولا يمكن الحديث عن الأيقنة من دون التوقف عند أداء منى زكي، الذي جاء دقيقاً ومحسوباً على حافة توازن صعبة بين الشخصية القوية، الصلبة، المسيطرة، والشخصية الهشة التي تحبّ، وتضعف، وتختبر الوحدة. تنجح زكي في استحضار «الكاركتر» المألوف، الصورة التي رسختها الصور الفوتوغرافية والحفلات، ثم تعيد أنسنة هذه الأيقونة عبر تفاصيل صغيرة ودالة: المنديل الشهير لتجفيف العرق المتكرر من يديها، والنظارة السوداء لإخفاء جحوظ العينين الناتج من المرض.
عبر هذا المزج بين الجبروت ونقاط الضعف، تدخل زكي إلى البُعد الخاص للشخصية كما يقدمه الفيلم: الرحلة العاطفية. تبدأ هذه الرحلة بعلاقتها مع الأب، ثم مع الغناء، ثم مع الحب. وفق خصوصية السرد غير الخطي، لا تُعرض قصص الحب بتطورها التقليدي، بل تُؤسس عبر لقطات بالحركة البطيئة وفضاء سمعي مشحون بعبارة «يا حبيبي»، قبل أن ينتقل الفيلم مباشرة إلى جوهر العلاقة. مع هذا الطرح، تحافظ زكي على تطور الشخصية الداخلي، مقدمة خطاً درامياً متماسكاً يحمل صراعاتها الذاتية بأداء واقعي حساس، ويجسد صراعاتها الخارجية عبر حضور طاغٍ وشخصية جَبّارة.
بعيداً من الجدل السطحي الذي سبق عرض «الست»، تتجلّى أهمية حضوره بوصفه عملاً فنياً يفتح مساحة نادرة للتفكير. فالفيلم، بخصوصيته الجمالية وخياراته السردية والإخراجية، لا يقدّم صورة جاهزة عن أم كلثوم، بل يضعها في قلب أسئلة معقّدة تتجاوز المفهوم والصورة الثابتة إلى الأنسنة والمعاني المتحركة.
يطرح جدلاً حقيقياً حول صورة «الست» بوصفها أيقونة وطنية، وحول العلاقة الملتبسة بين الفن والسلطة، من دون أن يسقط في التبسيط أو التبرير. وفي الوقت نفسه، يمنح الحب والوحدة موقعهما المركزي في تشكيل هذه الأيقونة، بوصفهما شرطين إنسانيين لا ينفصلان عن المجد.
بهذا المعنى، لا تكمن قيمة الفيلم في كونه مجرد سيرة لشخصية تاريخية، بل في قدرته على إعادة فتح النقاش حول الإنسان وراء الأسطورة. رغم مكانتها الرمزية، تظهر أم كلثوم في الفيلم ككيان حي، ضعيف، معرّض للجدل، يطرح تساؤلات عميقة حول العلاقة بين الفن والسلطة، وصياغة هوية الوطن، وفي الوقت نفسه يسلط الضوء على خصوصية التجربة الإنسانية، حيث يظل الحب، الوحدة، والطموح عناصر مركزية في فهم الشخصية خارج الأيقونة التاريخية.
«الستّ» في الصالات الللبنانية
أخبار سوريا الوطن١-الأخبار
syriahomenews أخبار سورية الوطن
