طيري يا طيارة طيري, يا ورق وخيطان.. بدي أرجع بنت زغيري على سطح الجيران”..
بها تحقق لأول مرة حلم الإنسان بصناعة شيء يطير.. شيء يفلت من الجاذبية ويعلو إلى حيث لا يستطيع الإنسان الوصول, ولصورتها محلقة في الفضاء تتراقص مع النسيم شاعرية جعلت منها واحدة من أطول الهوايات والتسالي عمراً.
حكاية طائرة الورق حكاية قديمة جداً, وربما يعجز أي تاريخ عن تتبع بداياتها الحقيقية.
ومع هذا هناك من يقول دائماً: إن أول ظهور لطائرة الورق في أوروبا على الأقل, يعود إلى القرن الخامس قبل الميلاد. إذ تقول التقاليد إن العالِمْ الإغريقي أرخيتاس، كان أول «مخترع» لها، والحقيقة أن هذه الفكرة ظلت سائدة، في أوروبا أيضاً، لزمن طويل, حتى كشفت الكتب ونصوص أدب الرحلات واللوحات الفنية والنصوص الأدبية الآسيوية، أن «طائرة الورق» كانت موجودة في التقاليد الشعبية والدينية في معظم مناطق شرقي آسيا منذ أقدم العصور، في كوريا كما في الصين, في اليابان كما في ماليزيا، تعتبر طائرة الورق، تسلية يلجأ إليها الكبار والصغار منذ بدؤوا يشعرون بالحاجة إلى تسلية ما، ومنذ راحوا يراقبون الطيور تحلّق فوق رؤوسهم ويتساءلون: إذا لم يكن في وسعنا نحن أن نطير مقلّدين الطيور, لماذا لا يمكننا أن نطيِّر شيئاً ما؟.
هكذا، وبكل بساطة، ولدت الطائرة الورقية، وفي أماكن متعددة من تلك الأصقاع الآسيوية.
لإبعاد أشباح الليل
نجد هذا كله واضحاً لالبس فيه ولا غموض، في كل التقاليد التي تحدثت عن تاريخ الطائرة الورقية، وهذه التقاليد تبدو في نهاية الأمر متواصلة في حديثها عن طائرة الورق، فالمسألة تبدو دائماً تسلية وأبعد من التسلية في الوقت نفسه, ولنُشر منذ البداية إلى أن الطابع الميتافيزيقي لوصول شيء إلى الجو مرسلاً من الإنسان تجسِّد في نهاية الأمر, ولدى الشعوب الآسيوية كافة في اعتقاد خرافي كان, ولا يزال, يرى أن تحليق طائرة ورقية ليلاً فوق بيت من البيوت ،كفيل بأن يبقي الشر بعيداً عن البيت.
ومن هنا ما دوّنه رحّالة أوروبي قصد الصين وكوريا في القرن الثالث عشر، حول أنه رصد ليلاً مئات الطائرات الورقية، وبعضها يلمع بفضل ألوان فسفورية أضيفت إليها، تحلّق فوق البيوت مربوطة بخيوط طويلة عقدت أطرافها فوق أسطح تلك البيوت.
ولكن هذا لا ينبغي أن يدفعنا إلى الاعتقاد بأن الطائرة الورقية كانت دائماً تميمة من التمائم, فهي كانت تسلية تُفرح الصغار وتثير فضول الكبار أولاً وأخيراً، لكنها كانت، وهذا شيء ينبغي أن يقال هنا أيضاً، ذات استخدامات عسكرية وهندسية كذلك. كيف؟
جنرالات الطائرة الورقية
في كوريا خاصة، تروي حكايات الماضي أن واحداً من قادة الجيش اضطر ذات مرة إلى إقامة جسر لتعبر عليه قواته فوق نهر عميق، ولما تعذَّر إرسال جنود إلى الناحية الأخرى يربطون حبالاً تمسك الجسر، طيرت طائرة ورقية عملاقة ربطت بخيط ربط بدوره في حبل، وبعد تجارب عديدة حطَّت الطائرة هناك، وعلق الخيط وأجريت عمليات في غاية الدقة أسفرت في النهاية عن إقامة الجسر.
وفي حكاية ثانية, من كوريا أيضاً، أن قائداً عسكرياً آخر، علق مصابيح مضاءة بأذيال طائرات ورقية وأرسلها إلى الجو كإشارات محددة و«شيفرة» إلى جنوده.
بيد أن الحكاية الأشهر بين الحكايات المتعلقة بالطائرة الورقية تبقى التجربة التي قام بها بنجامين فرانكلين, العالم المخترع والمفكر المعروف، الذي حين صاغ جملة نظريات حول الشحنة الكهربائية التي تنتج عن الصواعق, ورأى حين انتقل من النظرية إلى التطبيق, أن خير وسيلة للقيام بتجربة عملية هي من خلال طائرة ورقية.
وهكذا صنع طائرة علق في طرف ذيلها قطعة معدنية من النوع المسمى «جاذب الصواعق»، وحين أمطرت السماء وبدأت الصواعق والزوابع, أطلق فرانكلين طائرته في الفضاء.
وبالفعل تجمعت الشحنة الكهربائية في قطعة المعدن لتسلم البيوت والأماكن الأخرى من أذاها، وهكذا لعبت طائرة الورق دوراً أساساً في اكتشاف فرانكلين واختراعه اللذين ظلا مستخدمين لمنع الصواعق حتى زماننا هذا.
كيف صارت الورقة قادرة على الطيران؟
بكل بساطة هي مبدئياً أثقل من الهواء، ولكن حين تشتد حركة هذا الهواء، وتوضع الورقة في وضعية منحنية بعض الشيء وإن في شكل مسطح تقريباً، يصبح في إمكانها أن تعلو وتعلو بمقدار ما تمكنها حركة الهواء من ذلك، وتربط بذلك الخيط الطويل الذي يبقيها مرتبطة بالأرض سواء أأمسك شخص ما بطرف الخيط أو ربط الخيط بأي شيء ثابت على الأرض، وأما حركة انحناء مسطح الورق التي تتيح له الطيران فمضمونة من خلال ما يسمى بـ «الذيل» وهو عبارة عن كتلة ورقية مستطيلة (حبل من ورق مكثف) تربط كالذيل بإحدى زوايا المسطح مخفضة تلك الزاوية إلى الأسفل في حين تصعد الزوايا الثلاث إلى الأعلى لأنها أخف.
– يبقى الحنين..
يمكن للطائرة الورقية انطلاقاً من هذا أن تتخذ من حوله مسابقات الجمال.
كل هذا يبدو لنا اليوم منطقياً في بدائيته وظرفه، ولكن لو عدنا مرة أخرى إلى التاريخ لنذكر أن الطائرات الورقية كانت في صيف غابر الأزمان، قد حققت حلم الإنسان بالطيران.
وكان ذلك حين صنع الصينيون طائرات ورقية عملاقة مكنت أناساً من التمسك بها والطيران فوق الوديان ملقين بأنفسهم في الجو من أعلى السطوح من دون أن يصيبهم أذى؟
مهما يكن فإن هذه التجارب البدائية التي لن ننكر هنا أنها كانت توقع ضحايا بين الحين والآخر، سرعان ما أوقفت قرون طويلة، قبل أن يعاد استخدامها خلال الحرب العالمية الأولى، وفي أوروبا حتى، من أجل تطيير مراقبين كانوا يُكلّفون بمهمة تصوير تجمعات العدو واستبيان دروب تحركه.
– بين الغزال والحدأة والحُنْظُب..
اللعبة التي نطلق عليها اسماً مباشراً، يبدو في نهاية الأمر رسمياً، هو «طائرة الورق», لها اسم آخر في مجامع اللغة العربية، غير أن أحداً لم يستخدمه، حسب علمنا، حتى الآن.
والحقيقة أن معرفة الاسم «الرسمي» الحقيقي لطائرة الورق تكفي في حد ذاتها لفهم السبب الذي يحول بين الناس وبين استخدامه.
الاسم هو «الحنظب» والجمع «حناظب».. هكذا، بكل بساطة!.
والحقيقة أن المرء لايمكنه إلا أن تأخذه الدهشة أمام التفكير الذي حلّ على من اقترح الاسم وأقنع رفاقه من أهل اللغة في المجامع به, كيف خيّل إليه أن طفلاً أو فتى في الرابعة عشرة يمكنه أن يقول لرفاقه: هيا بنا نطلق حناظبنا لتطير في الهواء.
في الفرنسية ولسبب لايبدو لنا واضحاً يطلقون على طائرة الورق بدورهم اسماً لامبرر له على الإطلاق: إنها عندهم Cerf-Volant, وترجمتها العربية «الأيل الطائر» والأيل هو نوع من أنواع الغزلان, وربما يكون الأكثر رشاقة وخفة حركة بين أبناء نوعه.
لأن الطائرة الورق يجب أن تتميز بالخفة والرشاقة، وبالتالي بدا من الطبيعي للفرنسيين أن يشبهوها، إذ وصلتهم من أقاصي آسيا ليصبحوا بسرعة من هواتها ومن أكثر المتفننين في تزيينها، أن يشبّهوها بالغزال.
أما جيرانهم الإنجليز والأمريكيون من بعدهم، فيسمون طائرة الورق كايت Kite. وكلمة Kite هي في الأصل اسم لطائر مشهور في بلاد الإنجليز، يسمى عند العرب بـ «الحدأة». وربما يعود استخدام اسمه اسماً لطائرة الورق, إلى أنه طائر ربيعي يحلق في الهواء في مكانه تقريباً, ما جعل أول الإنجليز الذين استخدموا طائرة الورق التي وصلتهم هم أيضاً من أقاصي آسيا، يقتبسون اسمه حين رأوه يحلق بين الطائرات عندما تطيّر في أيام الربيع الصحو