د. حبيب الرميمة
كثر الحديث في الأشهر الماضية، حول إمكانية أن تتخذ المملكة السعودية موقفاً للخروج من تحت عباءة التحالف الانجلوأمريكي ، والانحياز تجاه روسيا بوتين والصين، خصوصاً مع الموقف الذي اتخذته السعودية في اجتماع أوبك حول خفض انتاج النفط- بما يتماشى مع رغبة روسيا وأثار حفيظة واشنطن والغرب- والغزل الذي أبداه بوتين في شخص ولي العهد السعودي ،وهو ما جعل البعض يفسرمثل هكذا مواقف تمرداً على أمريكا والمنظومة الغربية؟ لكن سرعان ما ثبت عدم صوابية تلك التحليلات،من خلال توالي التصريحات السعودية بعمق علاقة المملكة مع التحالف الغربي ، وكان آخرها الدعم المادي العلني الذي أعلنه وزير الخارجية السعودي قبل أيام من وسط كييف، وما خفي من دعم كان أعظم.
باعتقادنا إن أي مقاربة لفهم العلاقة مستقبلاً بين السعودية وروسيا لابد أن تنطلق تاريخياً من مرتكزين أساسيين، أحدهما ثابت والآخر متغير.
ونقصد المرتكز الأول (الثابت):
فهم النظام السعودي منذ تأسيسه ككيان نشأ بدعم بريطاني خالص ثم استظل تحت نفوذ الولايات المتحدة الامريكية التي سطع نجمها كوريث لبريطانيا العظمى والتي خرجت منهكة بعد الحربين العالميتين.
أما المرتكز الثاني (المتغير):
استغلال السعودية لأهمية الموقع الجغرافي، في ظل الصراع الدولي بين القوى الكبرى ،وهامش المناورة التي تلعبه لتحقيق مصالحها بما يخدم الحلف الانجلو امريكي.
فمن المعلوم تاريخياً أن الاتحاد السوفيتي – سابقاً- كانت أول دولة من الدول الكبرى التي اعترفت باعلان عبد العزيز آل سعود حاكماً على الحجاز وسلطان نجد عام 1926- بعد انتصاره على الشريف حسين تحت مسمى(مملكة الحجازونجد وملحقاتها) وقامت بخطوات دبلوماسية مع هذا الكيان الجديد بفتح قنصلية لها.فكانت بذلك اول دولة تعترف بالوضع الجديد لعبد العزيز بن سعود، والهدف الذي كانت تسعى إليه السوفيت هو كسب ود عبد العزيز بن سعود، ومحاولة إبعاده عن بريطانيا،لكن ابن سعود استغل كسب هذا الود لإثبات الولاء أكثر “لبريطانيا العظمى” وفقاً لاتفاقية دارين عام 1915م،فكانت اتفاقية جدة 1927 بين الحكومة البريطانية وابن سعود. وهي تكاد ان تطابق اتفاقية دارين التي عقدت بين بريطانيا وبن سعود،عدا اعتراف بريطانيا في الاتفاقية الأولى بعبد العزيز -وأولاده من بعده- حاكماً على نجد والجبيل والأحساء ، وفي الاتفاقية الثانية اعترفت به ملكاً على نجد والحجازـ مقابل ولاء عبد العزيز أل سعود لبريطانيا.
مع ذلك حاول الإتحاد السوفيتي المضي في كسب ود عبد العزيز ابن سعود،فاستقبل عام 1932م،ولي العهد فيصل بن عبد العزيز كأول وزير خارجية عربي يزور السوفيت،وفي المقابل استمر عبد العزيزبن سعود استغلال التنافس الحاد بين الاتحاد السوفيتي وبريطانيا، والوعود التي يقدمها السوفيت لدعم السعودية ،لاثبات الولاء أكثر لبريطانيا.
اعتقدت السوفيت أنها وصلت إلى نقطة متميزة لفك الارتباط بين السعودية وبريطانيا،فعرضت على أبن سعود عام 1932م، عقد اتفاقية تحالف بينهما، فكان الرد بالرفض صادماً للقادة السوفيت، حينها وصل الزعيم السوفيتي ستالين إلى قناعة تامة بعدم جدوى الفصل بين بريطانيا والسعودية،وأن منطقة الخليج كلها واقعة تحت الاستعمار البريطاني، ومن ثم شهدت العلاقات بينهما جموداً كبيراً إلى أن توفى ستالين عام 1953م.
بعد موت ستالين، ونتيجة قيام بريطانيا وأمريكا بعدد من الأعمال التي اعتبرتها السعودية آنذاك تجاوزاً لها، أهمها الموقف البريطاني مما يعرف ب (ازمة البريمي )عام 1952م، ووقوف بريطانيا وأمريكا وراء إنشاء حلف بغداد – وهو الحلف الذي عارضته أيضا سوريا ومصر تضامناً مع السعودية – الأمر الذي أحدث تقارباً بين الثلاث الدول، فوجدت السوفيت أن الفرصة سانحة لاجتذاب السعودية مجدداً الى صفها، حتى وصل الحال أن سفير الاتحاد السوفيتي في طهران قام بزيارة مفاجئة إلى السفارة السعودية هناك وفاجئ السفير السعودي بطلب فتح سفارة لبلاده في السعودية.
كانت سياسة الاتحاد السوفييتي تجاه المملكة العربية السعودية جزء من مشروع سياسي تبنته موسكو في منطقة الشرق الأوسط ، لمواجهة الدول الغربية والرامية إلى تطويقه بسلسلة أحلاف كان حلف بغداد من أهمها، وقد وجد الاتحاد السوفييتي في رفض المملكة العربية السعودية لهذا الحلف ووقوفها بقوة ضده، وتوتر علاقاتها مع الغرب ، سببا قد يدفعها إلى إعادة العلاقات السياسية معه و قبول الدعم السوفييتي ، وتنفيذاً لذلك التوجه عمل الاتحاد السوفييتي على تقديم الدعم السياسي للمملكة العربية السعودية في خلافها الحدودي مع بريطانيا حول واحة البريمي وفي موقفها الرافض لحلف بغداد -رغم عدم وجود علاقات سياسية بينهما- وعرض على المملكة تزويدها بالسلاح وفق شروط عمد إلى أن تكون ميسرة ومغرية . وعلى الرغم مما تقدم فقد فشلت المساعي السوفييتية، ولم تحقق سياسة الانفتاح تجاه المملكة العربية السعودية أية نتائج ملموسة وذلك لعدد من العوامل أهمها إن المملكة لم تكن جادة في التعاطي مع العروض السوفييتية، إذ لم تملك الرياض إرادة سياسية قادرة على الإنعتاق من طوق النفوذ الأنجلو أمريكي ، وبدلاً من التعامل مع عروض الاتحاد السوفييتي بصورة ايجابية ، عمدت السعودية إلى نقل تلك العروض إلى الولايات المتحدة الأمريكية بصورة مباشرة للحصول على السلاح والدعم منها .
وفي كل المراحل لم تستطع السعودية اتخاذ الموقف الحاسم لتعزيز ثقة السوفيت رغم كل المحاولات- حتى على مستوى طلب فتح سفارة للسوفيت في الرياض ، والذي قوبل بالرفض .وبقيت القطيعة السوفييتية – السعودية منذ 1955عنواناً للوضع بينهما حتى عام 1990م.
ولم تفتح السعودية سفارة الاتحاد السوفيتي إلا عام 1990م- أي قبل عام من سقوطه -وكأن ذلك كان إيذاناً بمرحلة ما بعد سقوط الاتحاد السوفيتي،الذي كان للسعودية منذ منتصف الستينات دوراً حاسما في سقوطه سواءً باسقاط المشروع القومي بزعامة مصر عبد الناصر لصالح تمدد الحلف البريطاني على مستوى المنطقة ، أو بدعم الحركات الجهادية في افغانستان، وخوضها حرباً بالوكالة لخدمة الحليف الانجلو امريكي.
وبهذه السردية التاريخية المقتضبة ومقارنتها بالواقع المعاصر، يمكننا أن نردد”ما أشبه الليلة بالبارحة-مع فارق بسيط في تغير موازين القوة-” فبعد كل التكهنات عن المواقف الأخيرة للسعودية تجاه روسيا ، وتصريحات بوتين قبل شهر والتي أشبه بالغزل ، عن الأمير محمد بن سلمان، والدعم المالي السعودي الأخير لكييف ، نستطيع أن نستنتج أن سعي روسيا في جذب ثقة النظام السعودي حاضراً ومستقبلاً هو وهم ،كمن يحرث بالماء، ذلك أن علاقة النظام السعودي بالحلف الأنجلو أمريكي هو علاقة ارتباط وجودي يتجاوز القاعدة الحاكمة للعلاقات الدولية القائمة على المصلحة الوطنية.
صحيح أن التطورات التي تمر بها المنطقة حالياً وقوة المحور المناهض للحلف الأنجلو امريكي في إيران وسوريا والعراق واليمن ولبنان هو نقطة فارقة بيم عقدين تجعل من النظام السعودي يعمد إلى عدم إحداث شرخ واتساع الفجوة مع روسيا العائدة بقوة في الساحة الدولية والتي ترى أنه لم يعد مجدياً هذه المرة ان تخوض حرباً باردة- كما كانت عليه سابقاً- وإنما تتبنى سياسة القوة العسكرية، والتدخل في بؤر النزاعات – كما هو حاصل في سوريا- وهو ما يجعل النظام السعودي في وضع صعب خصوصاً ويحسب لها ألف حساب في ظل الفشل الذريع من جني أي ثمار العدوان على اليمن- بشكل خاص- والذي يدخل عامه الثامن- من هنا يمكن أن نفهم الثابت والمتغير بشأن العلاقة بين السعودية وروسيا.
فأمام القيادة الروسية بزعامة الرئيس بوتين فرصة حقيقية لتثبيت قواعد الاشتباك الدولية وهذا الأمر – حسب اعتقادنا- لا يكون بالتهديد بحرب نووية و الانسحاب من معاهدة “نيو ستارت” أو التهديد بمحو اوكرانيا، والتي يهدف الغرب من خلالها إلى اشغاله عن مناطق وبؤر تشكل أكثر اهمية للحلف الانجلو امريكي مثل الشرق الأوسط، ولا نبالغ إن قلنا تحديداً اليمن في صراعها مع النظام السعودي الذي يشكل الدولة الوظيفية الأولى لتأمين الحلف الانجلو امريكي اقتصاديا وفي أكثر من مجال.
فالشتاء انتهى وأكذوبة أن الغرب سيتجمد برداً بسبب قطع الغاز الروسي وضحت.ومن مصلحة بوتين في المقام الأول والصين ثانياً التركيز على ذاك الحجر الذي قد يبدو صغيراً، لكن بسحبه ستنهار الصخرة الغربية الضخمة للحلف (الانجلو امريكي) وسيقطع أهم شرايينه.
فمقولة عالم ينهار عالم ينهض لن تكون -من اوكرانيا او من أي منطقة أخرى- إنما من اليمن.
ومثلما أثبت الواقع فشل التحليلات التي هللت بتمرد السعودية وخروجها من تحت عباءة الحلف الانجلو امريكي ، نود أن نسجل هنا تحليلاً فاشلاً آخر “إننا أصبحنا في عالم متعدد القطبية” طالما وقلب العالم(الجزيرة العربية)- كما عبر عنها ماكندر- تحت سيطرة الحلف الانجلو امريكي،وطالما بقيت روسيا تمارس نفس السياسة التي مارستها السوفيت في كسب ود السعودية تبقى العلاقة بين الثابت والمتغيرالهش،الذي كان ولا يزال وسيظل ينطلق من تحقيق مصالح هذه الأخيرة بما يخدم الحلف الانجلو امريكي فقط وفقط .
سيرياهوم نيوز 4_راي اليوم