| يزن زريق
كيف نحقق «الرؤيا الجمالية» للعمل الفني؟ سؤال كبير وبه نبدأ. فالرؤيا الجمالية مسألة أبعد ما يمكن عن أن تكون «نظرة خاملة» أو مجرد رؤيا سكونيّه لا غير. إنّ التعاطي مع الفن هو عمل تفاعلي أولاً وقبل كل شيء، إنه عملية «استنفاذ» إن صح التعبير. بمعنى هل سيستطيع المتلقي استنفاذ كامل المستويات المتعددة للعمل الفني؟ بدءاً من بعده أو مستواه الأكثر بساطة، أي بعده العاطفي والانفعالي (أو النفسي) المباشر، وصولاً إلى التراكيب العميقة المتضمّنة داخل العمل، أي وصولاً إلى المفهوم، إلى الفكرة، أو إلى الأبعاد الفلسفية أو الاجتماعية التي يمكن أن يحتويها هذا العمل.
الحياة الخاصة
بالنسبة لشخصية فاغنر وحياته الخاصة (علماً أننا لسنا هنا في معرض كتابة سيرة ذاتية، أو تعريف بالفنان الكبير) لكن أي متتبع لمسيرة هذا «المخلوق الفائق» (كما سماه نيتشه) سيصل إلى نتائج تبعث على الدهشة. فهو رجل مذهل قلباً وقالباً وأقل ما يقال فيه أنه ساحر. ساحر ولبق وآسر، فقد قاد الرجل كبريات من سيدات أوروبا رقياً وثقافة ومحتداً إلى التخلي عن كل شيء ليتبعنه بإشارة منه في سرائه وضرائه وذلك رغم فقره وتشرده في أغلب مراحل حياته (وقصص غرامياته وسيرته العاطفية باعثة على الإدهاش فعلاً ولا داعي طبعاً لخوض التفاصيل حولها فقد قيل فيها الكثير، من ابنة الموسيقي فرانز ليست التي هجرت أباها وزوجها إلى عدة سيدات من نخبة المجتمع الأرستقراطي تركن امتيازاتهن وأزواجهن وعائلاتهن لمشاركة هذا «الساحر» حياته وإبداعاته ومعاناته).
ولا ريب أن حياته الشخصية الصاخبة والغنية بأحداثها ومنعطفاتها وسحرها كانت من العوامل المسببة لكل هذه المناوشات الفكرية التي استمرت لعقود حول الإرث الذي خلفه الرجل. انقلاب فاغنري شامل، هكذا يصنّف الفكر الأوروبي الحدث الفاغنري. والكثير من اللغط والعديد من الآراء والتوجهات والتحليلات، على هذا الجانب أو ذاك، بقيت كلها من دون إحاطة ومن دون أي منهجية، ومن دون أن تحقق أي خطوة في عملية تحقيق أي استيعاب فني أو فكري لهذا الإرث الضخم. فالحقيقة هي أن كل المحاولات التي بنيت على أساس بناء استنتاجات عن إرثه الفني استناداً على حياته الخاصة أو سيرته الشخصية انتهت إلى فوضى شاملة وخواء تام عاجز عن تحقيق أي إدراك أو «فهم» للتركة الفنية والموسيقية والفكرية الضخمة.
لم يختلط إرثه الفني الضخم مع سيرة حياته الخاصة المؤثرة فحسب، بل كان لآرائه وميوله السياسية (التي مرت بعدة مراحل كل منها أكثر تطرفاً من الآخر) مع آرائه الفلسفية مع ما تضمنته من شطحات حادة الاتجاهات من اللاسامية ومعاداة اليهود إلى الشوفينية والتطرف القومي دور كبير في زيادة اللغط والاختلاط في محاولات قراءة هذا الإرث وأبعاده ومعانيه (ومما زاد الأمور تعقيداً إعجاب شخص مثل هتلر به والذي وصل حد التقديس بعد بضعة عقود وثبّت التهم على الفنان وزاد من اللبس الذي كان قائماً مسبقاً حول اسمه وتوجهاته وتقييمات أعماله).
كل ذلك وأكثر شكل خليطاً غريباً وشديد التعقيد. وبات تقييم إرث فاغنر عبارة عن مغامرات فكرية يختلط فيها إرث العبقري الموسيقي والفني مع توجهاته الفلسفية مع آرائه الشخصية ومع جملة من التحزبات والأفكار المسبقة والأيديولوجية، ليصبح المتلقي المعاصر أمام لغز حقيقي وأمام أبو الهول فني وفكري غير قابل للنفاذ ولا للإحاطة لا من قبل المهتمين بالموسيقى الكلاسيكية والأوبرالية ولا من غيرهم. لا من قبل المختصين ولا من قبل النقاد ولا من قبل المستمعين، ففاغنر اليوم، ككل إرث فني رفيع، يضيع في ركام آراء وأشباه أفكار وكومات من أشباه التحليلات مع غياب تام لأي منهجية في التعاطي مع الإرث الفني الموسيقي والأوبرالي لهذا العبقري الضخم.
هل يمكن تقديم محاولة قراءة تستند إلى المنهجية النقدية (أو المنهج الاجتماعي في التعاطي مع الفن)؟
تستند أفكار واستنتاجات هذه المقالة إلى منهج النقد الفني الاجتماعي أو الواقعي الذي كان قد وجد ذروته بالتأكيد عند جورج لوكاتش وطورته أسماء مهمة مثل بريخت (في المسرح) وراينوف (في الفن التشكيلي) وغيرهم. إضافة إلى أعمال موسوعية حول الموسيقى الكلاسيكية والأعمال الأوبرالية مثل إيميل فويللرموز [3] وأدموند موريس [4] ويوسف السيسي (دعوة إلى الموسيقى) وغيرهم، إضافة إلى بحث برنارد شو الشيق «مولع بفاغنر». حيث تمضي هذه الدراسة إلى وضع أسس للبحث الموسيقي والفني. فعبر التعاطي المنهجي مع الفن يمكن عندها فقط تذوقه وتناوله جمالياً. فالعمل الفني الضخم ليس محض انفعال عاطفي ووجداني، أو تأثر حسي ما، تثيره مثيرات لحنية أو لونية أو شاعرية. العمل الفني الحقيقي هو أولاً وقبل كل شيء تجربة فكرية استثنائية تعصف بالأفكار والمفاهيم لدى المتلقي، وتبدل منظوراته وفلسفاته المسبقة (تحطمها بالغالب) ليغدو الفرد بعدها قادراً على إدراكات شعورية عاطفية جديدة لم يكن قادراً عليها قبلاً.
فخلف الشخصيات والأحداث الدرامية والأسطورية في الأعمال الفنية الكبرى، تقع المصائر الاجتماعية والتاريخية التي يعرض من خلالها الفنان أو المؤلف رؤيته وتأريخه (التأريخ هنا هو ممارسة فنية وفاعلية خاصة من قبل الفنان في التوثيق) لأحداث عصره الكبرى. عبر أحداث عمله الفني ورموزه وشخوصه يقدّم المؤلف فلسفة كاملة ورؤيا شاملة، تتضمن منظوراً للعصر وحلولاً لأسئلته الكبرى وعرضاً لقضاياه العضوية. الفنان العظيم، وبخاصة مايسترو استثنائي كفاغنر، لا يمكن أن يُقرأ إلا على هذا النطاق وعلى هذا المستوى. عبر الأسطورة واللحن والشكل الفني الرفيع هائل القوة والتأثير، يقدّم لنا فاغنر رؤيته المتقدمة عن المرحلة التاريخية التي عاصرها، كما لم يستطع أعتى مؤرخيه المعاصرين. ما قام به فاغنر عبر أعماله الفنية هو رسم الاتجاهات والقوى المؤثرة والفاعلة في مجتمعه الأوروبي المعاصر، أي رسم لوحة قوى عن مجتمع العصر، على أعمق وأشمل مستوى. ليشكّل العمل الفني في الخاتمة لوحة متناهية الغنى والتعقيد عن القوى السياسية والصراعات الطبقية والحراكات الاجتماعية والشخصيات المؤثرة، الحب والسلطة والثروة والصراع، لوحات بمنتهى الدقة والواقعية، يكون بعدها العمل الفني مدخلاً إلى «روح العصر» وأساساً فنياً ذا أدوات جبارة لفهمه، وفي حالة فاغنر حتى للتأثير عليه.
رباعية النيبيلونغن [5] نموذجاً
لفهم العمل الفني أولاً يجب الدخول في عصر هذا العمل ومرحلته التاريخية. فالحدث الأعظم والمحوري في القرن التاسع عشر عالمياً وأوروبياً هو ثورات 1848 الديموقراطية والليبرالية. إنه الزلزال الاجتماعي الذي حرك العصر وكان محوراً لجميع أحداثه على مدار أكثر من مئة عام. فكل الأحداث الاجتماعية والسياسية الكبرى خلال تلك المرحلة كانت تجاوباً بمعنى ما معه. أما نتيجة له أو إجراءات ضده أو ردود فعل واستجابات عليه. فاغنر كان في قلب الحركة الديموقراطية الثورية، بل أكثر، فقد كان على أقصى يسارها في جناحها الفوضوي (اللاسلطوي) اليساري المتطرف على وجه التحديد، تحت قيادة الزعيم الأسطوري والتاريخي للحركة الفوضوية العالمية باكونين. قالب الأنظمة ونجم الحركة الثورية الأوروبية وممثلاً لبطلها الفائق الذي تعلقت عليه آمال جيل كامل من الديموقراطيين الأوروبيين كثوري عتيد لا يقهر ولا يطال. في ربيع عام 1848 يصدر أمر اعتقال بحق فاغنر في فايمار بوصفه متمرداً خطيراً، فيهرب إلى سويسرا إلى عند صديقه الموسيقي فرانتز ليست لتبدأ مرحلة جديدة في عمله الموسيقي والتأليفي وليبدأ طوراً أعلى في انتاجه الفني. بهدوء يراجع فاغنر التجربة التاريخية العاصفة، وعبر تأريخه للحركة البطولية المهزومة وللحركة الثورية
بأسلوب اللغة الرمزية يريد فاغنر وعبر استخدامه للأسطورة الجرمانية القديمة رسم بنية المجتمع الطبقي الحديث واتجاهاته المعاصرة. كيف تكونت وتبلورت وكيف تحركت وتصاعدت لتصطدم ذلك الاصطدام التاريخي المزلزل الذي هز العروش والمجتمعات الأوروبية لبضعة عقود مقبلة قبل أن تستقر على وجه جديد بالكامل.
يتكون عالم الأسطورة عند فاغنر من أربع طبقات أساسية متعارضة المصالح والمآرب. طبقة الآلهة وهم سكان قصر الفالهالا، ممثلي العالم القديم، والدولة القديمة التي غدت عاجزة. إنها طبقة الإقطاع الأوروبية (مع كنيستها) الحاكمة والمتهالكة، والتي لم تعد قادرة على ضبط عالمها، وواقعة تحت عبء ثقلها الذاتي، لتجد نفسها مضطرة إلى الاستعانة طوراً بطبقات وفئات أخرى والاستجداء طوراً آخر والمواجهة في حين آخر، مع كل أبناء العالم (الطبقات) الأخرى وبخاصة أبناء تلك الطبقة الماكرة القوية الشرسة والشديدة الذكاء والدهاء الأقزام. فتتفاعل آلهة العالم القديم معها بصورة تنذر بانهيارها وانهيار عالمها.
الأقزام الخبيثون (مالكو الثروات والمناجم) أولئك هم المنافسون الجديون الجدد للعرش الإلهي القديم وبخاصة بعد أن باتوا أثرى من الآلهة وأغنى منها بعد أن سرقوا ذهب الراين العظيم. ويوجد أيضاً هناك العمالقة (طبقة الفلاحين الحلفاء) الذين طالما استعبدتهم الآلهة وطالما خدموها ولكن الآن، وبسبب ضعف الآلهة، بات لهم كلام آخر ودور آخر.
كان نوعاً من عبقرية العصر المثالية ليعرض منظورات ومفاهيم ثورية متقدمة جديدة
الحدث الرمزي الأكبر في الرباعية بأكملها هو سرقة القزم (البريك) لذهب الراين (تكوّن البرجوازية الحديثة)، ليعلن بذلك انتهاء عصر هيمنة الهيبة الإلهية (نظام المراتب الإقطاعي وأهمية ملكية الأرض) ولن يحكم بعد الآن إلا مالك الذهب ورمز قوته وسطوته خاتم ذهب الراين. ذبول الآلهة وضعفها ممثلة الإقطاع القديم لا يجد لنفسه حلاً إلا بالهيمنة على هذا الذهب، وهو ما لن تستطيعه وحدها، فتارة تستعين بالعمالقة وتارة بالقوة وتارة بالحيلة (مشهد سرقة فوتان رب الآلهة للخاتم من القزم آلبريك). إن شراسة الأقزام وضراوة الصراع وعجز الآلهة، كل ذلك يجعل هذه الأخيرة تدرك سريعاً الحاجة إلى مخلوق جديد وجنس جديد أقوى وأصلب وأذكى منها. إنه الإنسان البطل الذي بات مقدراً له قيادة العالم ليبدأ العهد الجديد بعد انحطاط وانهيار كل قيم العهد القديم.
وولادة البطل هذا مسألة معقدة وتطورية هي الأخرى. فالجيل الأوّل من الثوريين (ممثلاً بسيغموند وأخته سيغلنده) لم يكن قادراً بعد على مواجهة فوضى العالم القديم. فقوة الآلهة وشراسة الصراعات تودي بموجات ثورية كاملة في أوروبا إلى الهزيمة. والجيل الأوّل من الفوضويين لن يجد كماله إلا مع اكتمال نضج الحركة سياسياً واجتماعياً وتاريخياً ممثلة ببطلها الأبرز باكونين.
وفي مشهد يصنف اليوم في مصاف أعظم ما أنتجه الفن الإنساني، موسيقياً ومسرحياً وأدبياً، إنه مشهد موت سيغفريد. حيث يلخص فيه فاغنر ويؤرخ نهاية حقبة بطولية حقيقية صادقة في قلب التاريخ الأوروبي. حيث تجرأت الطبقة العاملة والجماهير الثورية في حركة جبارة (يعتبر فاغنر أن أبطال الفوضوية كانوا طليعة لها) على دك كل حصون العروش القديمة والمهترئة وليفتحوا أفقاً تاريخياً جباراً أمام التطور الحر للمجتمعات الأوروبية. لقد وضع فاغنر في هذا المشهد كل طاقاته الإبداعية والفكرية ليخرج تأبيناً يليق بالحدث وبالرمز وبالأسطورة وبتجليها الواقعي.
عن إرث فاغنر الموسيقي
الثورات الفنية والإبداعية الكبرى في التاريخ الإنساني لا تكون في المضمون وحسب، لا تكون في المحتوى الفكري فقط، بل هي في أغلب الحالات تتكامل معها بإحداث تجديدات ثورية على مستوى «الشكل» والأسلوب والقالب التقني والفني. في هذا الإطار تحديداً كان فاغنر بمثابة «perfect wave». لقد كان بمثابة الموجة التجديدية الشاملة والمتكاملة على الصعد والمستويات كافة. لقد أراد فاغنر الارتقاء من حيث المبدأ بالأدوات الموسيقية نحو ذرى تعبيرية وتأثيرية جديدة وأرقى من كل ما سبق، بحيث أن أفكاره الثورية ومفاهيمه الفلسفية ورؤاه الاجتماعية والتاريخية، تجد أقوى أسلوب تعبيري لها. عبر العمل الأوبرالي الضخم والمتكامل الأبعاد أراد فاغنر أن يعبّر عن أفكار ضخمة، وتحتاج إلى قوالب فنية تتسعها. ورؤيته الجديدة للتاريخ والمجتمع تحتاج إلى أساليب فنية مجددة وثورية قادرة على التعبير عنها وتقديمها.
في السياق التاريخي للتطور الموسيقي موقع فاغنر تاريخياً واضح، كمتابع لتجديدات موزارت وبتهوفن الثورية. إنها في اتجاه تطوير القوالب الموسيقية والقدرات التعبيرية للموسيقى الكلاسيكية نحو إمكانيات تعبيرية عاطفية أعلى ونحو إمكانيات درامية أعلى. عبر فاغنر خطت الموسيقى خطوة جبارة نحو الأمام في مجال القدرة على التعبير عن أكثر المشاعر والأحاسيس الإنسانية ذاتية ورهافة، وبهذا الإطار يتربع فاغنر فعلاً على عرش الرومانسية الأوروبية في مجاليها الموسيقي والمسرحي. الرباعية ولونغرين وترستان وإيزولد هي متابعة أو استمرارية مباشرة لدون جيوفاني وفيغارو والسمفونيات التسع، في اتجاه زيادة حضور الدراما في العمل الموسيقي الكلاسيكي المقولب، ونحو إنسانية أكثر وتعبيرات تراجيدية أقوى، بات العمل الموسيقي قادراً الآن على حملها أكثر من أي وقت مضى.
أمّا الإضافة الأهم التي قدّمها فاغنر، والتي تجاوز فيها أسلافه الكبار، هي إثباته أن الموسيقى ليست قادرة فقط على حمل المحتوى العاطفي والدرامي، بل أيضاً المحتوى الفكري والفلسفي وحتى التاريخي. عبر الموسيقى أثبت فاغنر أن المبدع قادر على إيصال أفكاره أيضاً وإسهامه ورؤيته في تحليل قضايا عصره ومجتمعه، وليس فقط عواطفه وأحاسيسه الوجدانية. ففاغنر الذي كتب جميع نصوصه المسرحية والأوبرالية، استطاع تقديمها عبر سياقات موسيقية متفوقة فعلاً. فالموسيقى بين يديه باتت أداة للفلسفة، ورسولاً للفكر، ومقدماً صادحاً لصوت الأدب والعقل وأكثر الأفكار الاجتماعية ثورية وتقدماً.
«الألحان الدالة» كانت ثورة حقيقية أنجزها في القصيدة المسرحية ليغيّر وجه الأوبرا
تركة وفيرة تركها فاغنر في إرثه الموسيقي العام لكل من أتى بعده. تليين الخطاب الموسيقي وتحريره من النظام الهندسي للقوالب الجامدة والراسخة، نحو ألحان أكثر تفرداً وأكثر قدرات تعبيرية. ثم ذلك الربط العبقري للأوركسترا مع أدق وأصغر الانفعالات الدرامية وتطويعها للتوافق معها. عبر مبدأ الـ«ليتموتيف» الذي أبدعه فاغنر استطاع خلق «فكرة مهيمنة» في العمل الأوبرالي، حيث يتم ربط الفكرة مع النغم وتكرارها عبر تلوينات لامتناهية بحيث يبدو العمل كله وثيق التركيب عضوياً ومتحداً كلمة ولحناً وأداء لتبلغ بالمتلقي ذرى انفعالية شمولية الاهتزاز والتأثير. إنّه يخاطب العقل والعاطفة والوجدان والضمير والحواس فتنشأ حالة رنين استثنائية وكاملة بين المستمع والعمل الضخم المتكامل. لقد كان فاغنر يريد أدوات موسيقية متينة لتحمل صروحه الفكرية الضخمة، وقد اضطر لتحقيق ذلك إلى إحداث تجديدات في الأداء لأهم الآلات الموسيقة الأوركسترالية السائدة. تضخيم دور آلات النفخ وتعزيز دور النحاسيات وضبط إيقاعاتها كوحدة شاملة منسجمة. ثم استخدامه المكثف والمجدد لمنتجات آلات «عشيرة الساكس» من الأبواق الهادرة التي طورها أدولف ساكس، السكساهورن والساكسفون، وجد فيها فاغنر أدوات تضخيمية جهورية ضرورية فأدخلاها بشكل غير مسبوق إلى الأوركسترا الآلية الحديثة وبحدة غير مسبوقة.
إغراء كبير يقع فيه النقاد لدراسة فاغنر وفق مختلف التحيزات الذاتية والاعتباطية كمحاولات قراءة وفهم، تنتهي إلى فشل كارثي بالتأكيد. ففاغنر لا يقرأ من منظار حياته الشخصية وتجاذباتها ومنعطفاتها الحادة (رغم الإغراء الذي يشكله هذا المنظار نظراً لغنى الحياة الشخصية لهذا المبدع ودرايتها المؤثرة والساحرة). ولا من وجهة نظر التقييمات الخاصة للأسماء التي تفاعلت مع إنتاج المبدع الكبير وفقاً لتحيزاتها الذاتية والشخصية جداً في أغلب الحالات (رغم كبر وأهمية هذه الأسماء وشهرتها واتساع مدى تأثيرها مما يشكل إغراء آخر لا يقل عن الأول مثل نيتشه وشوبنهاور وهتلر).
كما أن إرث الفنان لا يقرأ ويدرس من وجهة نظر آثاره التي تركها في النقد الأدبي أو الفني، ولا من وجهة نظر حتى آرائه عن نفسه أو كتاباته الفكرية أو النقدية أو الجمالية (أو حتى السياسية أو الفلسفية). إنّ الفنان لا يدرس إلا من وجهة نظر إرثه الفني بالذات في المجال الذي يشكل فيه اختصاصه. عبر ممارسته الفنية بالذات وعلى وجه التحديد. ولطرح مثالين سريعين هنا لشرح الفكرة، لدينا أولاً تولستوي الذي كان كما هو معروف أعلى مستوى بكثير في أدبه الذي أنتجه من كل كتاباته الفكرية والفلسفية والنقدية. ففي أدبه تظهر كل عناصره الثورية والنافذة والعبقرية في كل ميادين الحياة الاجتماعية والسياسية والفلسفية، بينما في كتاباته (حتى عن أدبه الخاص) نرى كل هذه العناصر الجريئة والإبداعية غائبة أو باهتة ويظهر جلياً أن مكانته كمفكر أو كناقد أو حتى كسياسي (كشخصية عامة) أدنى بكثير من مكانته كأديب خالد على مر العصور. ولعلنا في مثال برليوز مثلاً أمام نموذج مناقض. فقد ترك الفنان مثلاً آثاراً في النقد الموسيقي والأبحاث الجمالية في ميادين تطوير الفن الموسيقي والقصيدة السمفونية وإدخال الأدب والمسرح إلى الموسيقى، كانت أهم من أعماله الموسيقية والسمفونية المباشرة بكثير.