الرئيسية » حول العالم » المِزاج الأوروبي يتغير إزاء فلسطين فهل سيتغير المزاج الأمريكي؟

المِزاج الأوروبي يتغير إزاء فلسطين فهل سيتغير المزاج الأمريكي؟

د. عبد الحميد فجر سلوم

 

كلُّ متابعٍ لتطورات الأوضاع في غزّة، والانقلاب في المواقف الأوروبية بين السابع من أكتوبر/ تشرين أول 2023 إثر عملية طوفان الأقصى، وبين اليوم، سيُدرِك مباشرة أن هناك تغييرا دراماتيكيا قد حصل في العديد من المواقف الأوروبية، على الصعيدين الرسمي والشعبي.

فبعد عملية السابع من أكتوبر ثارت ثائرة أوروبا، إلى جانب أمريكا، كما الثِيران الأسبانية في حلبة الصراع، وملأت أساطيلهم المنطقة، حتى رفعت من منسوب مياه البحر المتوسط.. أمّا اليوم فنرى وكأنّ غالبية الحكومات الأوروبية أصبحت تتصرف كما الأبقار الهولندية العاقلة وليس كما الثيران الأسبانية الهائجة.. فلماذا حصل هذا الانقلاب؟.

عواملٌ كثيرة جدا ساهمت في ذلك، أولها حجم الإجرام الإسرائيلي في غزة غير المسبوق في التاريخ ضد شعبٍ من الشعوب، وطالَ البشر والحجر والشجر، وإتِّباع سياسة الإبادة الجماعية بحق شعب بالكامل دون تمييز بين كبير وصغير، رجُل أو امرأة، طِفل أو عجوز، مدني أو عسكري، مسلّح أو أعزل.

هذا الإجرام الإسرائيلي الذي انفضح أمام العالم، وضَع أوروبا وأمريكا أمام تحدٍّ أخلاقي كبير لكافة القيم التي يتغنُّون بها في الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان. فكان امتحانا كبيرا لكافة تلك القيم التي سعى الغرب عموما لنشرها منذ الحرب العالمية الثانية، بدءا من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948 ، والعهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية عام 1966 ، والعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية عام 1966 ، وإعلان طهران لحقوق الإنسان في 13 أيار عام 1968 ، وإعلان وبرنامج عمل فيينا لحقوق الإنسان في 25/ حزيران عام 1993 (وأقول مُجدّدا أنني شاركتُ بكل أعمالهِ التحضيرية في جنيف على مدى سنتين ووقفتُ جيدا عند مواقف كل دول العالم من كل صغيرة وكبيرة فيما يتعلق بشتّى أشكال حقوق الإنسان ومفاهيمها، والخلافات والتباينات بين دول العالم).

**

موقف الشعوب الأوروبية، وحتى الأمريكية، إزاء غزة، كان مختلفا عن المواقف الرسمية للحكومات، وتجلّت مواقف الشعوب على أروع صورها في الاحتجاجات التي اجتاحت مؤخرا عشرات الجامعات في الغرب، لاسيما في أمريكا، تضامنا مع غزّة، وقبلها المظاهرات الحاشدة التي ملأت مُدُن الدول الأوروبية، والأمريكية، تضامنا مع غزّة ورفضا للحرب، رغم منعِ الحكومات لذلك.. ولكن على ما يبدو صحَت أخيرا غالبية الحكومات الأوروبية بعد كل ذاك الإجرام الذي لم يستثني حتى الموظفين الدوليين العاملين في نطاق المنظمات الدولية في غزة، وفي الأونروا، وحتى المنظمات الإنسانية كما منظمة المطبخ المركزي العالمي، وما رافق ذلك من غضبٍ عربيٍ وإسلاميٍ وعالميٍ عارم.

هذا التغيير في المواقف الأوروبية انعكس من خلال ما يلي:

تغيير مواقف الكثير من الدول الأوروبية من مشاريع القرارات التي طُرِحت مؤخرا في الجمعية العامة للأمم المتحدة، التي طالبت بوقف إطلاق النار، والتي طالبت بالاعتراف بفلسطين كعضو كامل العضوية في الأمم المتحدة، بدل عضو مراقب، والتصويت لصالحها.

ثم الاعتراف مؤخرا من طرف ثلاث دول أوروبية وهي أسبانيا وآيرلندا والنروج، بدولة فلسطين. وهناك دولا أخرى تتهيّأ للاعتراف بذلك مستقبلا، كما بلجيكا وسلوفينيا ومالطا.

ويُضافُ لذلك قرار مدّعي عام محكمة الجنايات الدولية إصدار مذكرات توقيف بحق رئيس وزراء إسرائيل نتنياهو، ووزير دفاعه يوآف غالانت، بتهمة الإبادة الجماعية واستخدام التجويع كوسيلة حرب، رغم كافة الضغوط والتهديدات الأمريكية لِعدم القيام بذلك. وهذا لهُ معنى كبيرا جدا، وهو أن إسرائيل لم تعُد فوق القانون الدولي، أو عصيّة على المحاسبة..

فضلا عن قرار محكمة العدل الدولية مؤخّرا الذي أمرَ إسرائيل بأن تُوقِف فورا هجومها على رفح..

واللّافت هنا كان تصريح مسؤول الشؤون الخارجية والأمنية بالاتحاد الأوروبي جوزيف بوريل تعقيبا على هذا القرار حينما قال: (إنه يتعيّن على أوروبا الاختيار بين احترام دعم المؤسسات الدولية أو دعم تل أبيب).. والكلامُ واضحةٌ معانيه..

**

ولكن ماذا عن الموقف الأمريكي؟.

للأسف الموقف الأمريكي ما يزال هو هو.. إمداد إسرائيل بكافة أصناف الأسلحة لقتل الشعب الفلسطيني، والدفاع عنها وعن إجرامها في الأمم المتحدة، ورفض مذكرات الاعتقال ضد نتنياهو ووزير دفاعه، وعدم رفضها لاجتياح رفَح وإنما فقط طالبت بتحييد المدنيين ووضع خطة لعدم إلحاق المخاطر بهم.. واستمرت بالحديث عن حل الدولتين كنوعٍ من المورفين للعرب والمسلمين لا أكثر، ولكنها رفضت اتخاذ أي خطوات عملية بهذا الاتجاه، من خلال التصويت بالرفض في الجمعية العامة وفي مجلس الأمن الدولي لأي قرارات تطالب بذلك. والاعتراض على اعتراف الدول الأوروبية بدولة فلسطين بحجّة أن هذا الاعتراف يتمُّ من خلال المفاوضات بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي وليس من خلال الاعتراف بها من جانبِ أطرافٍ منفردة.

أي بكل وضوح الموقف الأمريكي موقف مائع، وهو في الجوهر يتماهى تماما مع الموقف الإسرائيلي، ويرفض كل ما يرفضه الإسرائيلي.. والإسرائيلي موقفه واضح ويقولهُ علنا: لن نسمح بقيام دولة فلسطينية مطلقا، وكافة الدول العربية التي طبّعت معنا وقالت أن هذا سوف يساعد على قيام دولة فلسطينية فهي كاذبة، وهذا الوعد لم نعطيهِ لأحدٍ منهم..

وكل ما ينشدهُ الأمريكي، وحسب تصريحات الرئيس بايدن نفسه هو( ضمان مستقبل كريمٍ آمنٍ للشعب الفلسطيني).. كيف؟. وما هو المستقبل الكريم الآمن؟. هذا تفسيره لدى الأمريكان، ولكنه لن يكون بالنسبة للأمريكان كما يحلُم الفلسطينيون والعرب والمجتمع الدولي، بقيام دولة فلسطينية ذات سيادة على حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية..

ولكن هل يمكن أن يتغير الموقف الأمريكي؟.

سنرى بعد الاتفاقات الأمنية والدفاعية التي يتمُّ العمل عليها بين الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية، والتي قال عنها الوزير بلينكن أنها اقتربت إلى حدٍّ كبير..

وهذه الاتفاقات، التي تحدث عنها الجانب الأمريكي نفسهُ، وبعد اعتمادها، ستشكل منعطفا تاريخيا في العلاقات بين البلدين إذ ستربط أمن السعودية بأمن الولايات المتحدة كاملا، كما الحال مع إسرائيل، ودول الناتو، واليابان وكوريا الجنوبية..

 وستضمن حماية دفاعية أمريكية للسعودية، وأسلحة متقدمة، واتفاق نووي مدني، وبيع مقاتلات إف 35 ، وذلك مقابل التطبيع بين السعودية وإسرائيل. فمسألة التطبيع لم يوقفها طوفان الأقصى كما كان يعتقد الكثيرون. هذه الاتفاقات معروفة أهدافها والقول أنها غير موجّهة ضد أحد، هو كلام سياسي فقط.

 وكان من شروط السعودية للتطبيع هو العمل بشكل موثوق لقيام دولة فلسطينية على حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية..

فهل ستبقى السعودية متمسّكة بهذا الشرط؟.

المستقبل القريب سيجيب على ذلك. والاتفاقات الأمنية والدفاعية السعودية الأمريكية القادمة ستكون مفصلا في هذا الشأن. فإن بقيت السعودية ثابتة على موقفها بربطِ التطبيع بقيام دولة فلسطينية فهذا سيشكل عامل ضغط كبير وقوي على الولايات المتحدة. وإن لم تتمسّك فهذا سيكون كارثي على القضية الفلسطينية.

هذا مع قناعتي الشخصية أن أمن دول الخليج العربي وأمن المنطقة عموما لا يمكن استيراده من الخارج، لا من أمريكا ولا من إسرائيل، وإنما يجب أن ينبع من داخل المنطقة ذاتها، لاسيما بين إيران ودول الخليج العربي، وهذا يتطلب من إيران(الطرف الأقوى) تعديل الكثير من سياساتها لتطمين هذه الدول، وتبديد عوامل القلق والخوف لديها، والذي يدفعها باتجاه إسرائيل.

فلا قادة إيران يستطيعون أن يحملوا بلدهم ويضعونها في مكان آخر على سطح هذا الكوكب، ولا قيادات الخليج تستطيع أن تحمل بُلدانها وتضعها في مكان آخر. الجميع محكومون بحتميةِ وقدَريةِ الجغرافيا. ولا بُدّ من إيجاد صيغ للتعايش، وهذا كان يبدو نهج الرئيس الراحل إبراهيم رئيسي ووزير خارجيته حسين أمير عبد اللهيان.

 ولذا سبق وتحدّثتُ عن مؤتمر إقليمي على غرار مؤتمر هلسنكي بين الشرق والغرب عام 1975، واعتماد أسُس واضحة وجلية للعلاقات بين دول المنطقة، واحترامها من الجميع، تقوم على أساس المساواة في السيادة، واحترام حقوق السيادة الوطنية لكل دولة، وحصانة حدودها ووحدة أراضيها وسلامتها، وحل الخلافات بالطرق السلمية وعدم استخدام القوة، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، وترسيخ مظاهر التعاون بين الدول وفق المصالح المتبادَلة وحُسن الجِوار، وتنفيذ الالتزامات والتعهدات الدولية بما ينسجم مع ميثاق الأمم المتحدة وأحكام القانون الدولي.

الولايات المتحدة لن تجلب الأمن للمنطقة، وإنما تجلب مزيدا من الابتزاز، ومزيدا من نهب الثروات، ومزيدا من بيع الأسلحة الأمريكية لتشغيل مصانع الأسلحة، وزيادة الأرباح، تحت ذريعة حماية أمن هذه الدول، ولذا من مصلحتها بقاء التوتر والخوف من إيران قائما. وهذا يعني بالنتيجة مزيدا من الوصاية والتبعية والارتهان للخارج.

الولايات المتحدة تعمل بعقلية التاجر، أي التفكير بالأرباح قبل أي شيء، وما زالت تصريحات الرئيس ترامب تتردّد في الأذهان وهو يخاطب قيادات دول الخليج العربي بعد أن أصبح رئيسا عام 2016 : لولا حمايتنا كانت إيران ستستولي على بلدانكم، ولكن من الآن عليكم أن تدفعوا مقابل الحماية..

علينا أن نعترف أن الولايات المتحدة نجحت في استبدال العدو في المنطقة من إسرائيل إلى إيران، لاسيما لدى دول الخليج العربي. ولكن ألا تتحمّل إيران مسؤولية في ذلك؟. نعم تتحمّل الكثير من المسؤولية، فإيران في زمن الشاه كانت مصدر خوف وقلق لدى دول الخليج العربي، وازداد هذا الخوف والقلق بعد زمن الشاه.

إيران الجارَه والمسلمة، مطلوب منها أن تنزع هذه الورقة من يد الولايات المتحدة، ويد إسرائيل، وأن تبدِّد كل مخاوف دول الخليج والتي تدفع بها أكثر نحو الولايات المتحدة ونحو إسرائيل. وهذا يعني الإصغاء لكل مخاوف دول الخليج، التي طالما أكّدوها في مؤتمراتهم الخليجية، والقمم العربية، والاستجابة لها.

 

 

 

سيرياهوم نيوز 2_راي اليوم

x

‎قد يُعجبك أيضاً

الرئيس الإيراني يدعو بابا الفاتيكان لحث زعماء العالم للوقوف بوجه جرائم “إسرائيل”

  فرانسيس الثاني أنّ إيران مُستعدّة للتعامل البنّاء مع الفاتيكان من أجل تعزيز السلام والعدالة في العالم.     أكّد الرئيس الإيراني، مسعود بزشكيان، اليوم ...